الرّهان على الثقافة

 عزالدّين عناية*

الرّهان على الثقافة

النهضة الحضارية هي صنو النهضة الثقافية، والكلام ليس من باب التحفيز المجاني الذي نسوقه؛ بل هو مما تثبته وقائع سوسيولوجيا الثقافة ومقرّرات تاريخ الحضارات. فممّا هو متعذّر، تحقيق نهضة في غياب رؤية ثقافية لا تولي الشأن المعرفي والعلمي والفني الدور والحضور اللازمين. وقد تعثّرت العديد من الإصلاحات الاجتماعية والمطامح النهضوية، وفشلت جملة من الثورات والانتفاضات، لافتقارها إلى منظور ثقافي معمّق. ففي غياب الثقافة يتحرّك فعل التغيير الاجتماعي أو نشدان الإصلاح، في إطار من العتمة، أي بدون خارطة طريق تسوسه، أو لنقل بدون روح تُحفّز إرادة الناس وتشحذ العزائم.

وفي ظلّ طلب الخروج من الركود المجتمعي والجمود الحضاري، قد لا يعير القائمون على عمليات النهوض الثقافةَ المكانة اللازمة والدورَ المقدَّر، ظنًّا أنها عنصر تكميلي وليست عنصرا حاسما في العملية النهضوية. مع أنّ الثقافة تنتمي إلى عناصر الرساميل الرمزية والمعنوية التي تملكها الشعوب على غرار الثروات المادية والطبيعية. وهي تنطوي على شحنة من التحفيز والتحريض المعنويين مما لا تملكه عناصر القوة المادية، مثل الاستثمار في الإنتاج والتصنيع والخدمات والتجارة، التي باتت تعدّ العماد الأبرز لأيّ نهوض حضاري بالمعنى المادي.

ذلك أنّ مطلب التعويل على الثقافة هو عنصرٌ لا غنى عنه في بناء الوعي، المتلخّص في بلورة التناغم الجمعي القادر على إدراك حضور الذات في عالم يطفح بالمتغيّرات. صحيح تتنوّع عناصر المنتوج الثقافي، وبالمثل تتعدّد المؤسّسات العاملة في المجال، ولكن المقصد المنشود يظلّ في السير صوب إعداد الكائن الواعي وتحقيق المواطن المسؤول، الذي يمثّل المبتغى الأسمى من وراء العملية الثقافية. ولذلك ما لم تنبن سياسة ثقافية هادفة من وراء العملية الثقافية، فإنّ الفعل الثقافي يظلّ خارج الاستثمار المراد. وعلى مستوى فردي، وبالمثل على مستوى جماعي، يلوح امتلاك ناصية الثقافة عنصرا حاسما في الخروج من حالة العدم إلى حالة الوجود، ومن طور سلبي إلى طور إيجابي.

إذ بمراجعة التجارب النهضوية الناجحة في كثير من المجتمعات، يتبين أنّ التعويل الحازم على الفعل الثقافي في إنجاح العملية النهضوية، هو عنصر فعّال في اختزال الزمن وطيّ المسافات الحضارية. وكلّما غاب العنصر الثقافي أو استهين بدوره، إلا واضطربت الرؤية وارتبك المسير. فالفعل الثقافي هو فعل الاستنارة المرافِق لمسعى التغيير الناجع. والاستثمار في المردود الثقافي على نطاق مجتمعي، يعني العمل على خلق حالة من التحفّز الجمعي نحو الرقيّ، الذي يغدو التطلع إلى النهوض الحضاري بموجبه هاجسا مشتركا بين فئات شعبية واسعة.

قد يستهين البعض بالدّور الثقافي، أو تجري إزاحته إلى مواضع ثانوية، ولكن التقييم الصادق للعملية النهضوية برمتها يأتي من إطار المنظور الثقافي، وإن لزم التقويم العملي للمسارات أيضا، إن بدت عقبات أو انحرافات أو منزلقات. فللثقافي قدرة في إدراك المحاسن والمساوئ وتقييم النتائج والآثار. ومنذ أن أرست المجتمعات الحديثة تقليد التمدرس الإجباري، وفصَّلت في ضوابطه وشروطه ومضامينه، تبيّن ما للتكوين التعليمي والثقافي من أثر حاسم، في عملية تنشئة الأفراد وبناء المجتمعات. لكن ينبغي أن نشير إلى شيء مهمّ، أن العنصر التعليمي والعنصر الثقافي هما مكوّنان متقارِبان، ولكن ليسا مترادفين فلكل مجاله ودوره ورسالته.

ولسائل أن يسأل ما الذي تخلّفه الأبعاد الثقافية في الفرد علاوة على رقيّ الإحساس، وغور النباهة، ورسوخ الحسّ المدني؟ ثمة عنصر آخر في غاية الأهمية ألا وهو القدرة العالية على الفرز النقدي والتمييز الذهني، أي أن يغدو الواعي ثقافيا محصَّنا من سيل الخطابات الغوغائية التي تلوح متربّصة بمن يملكون هشاشة ثقافية، ممّن تراهم عرضة لترديد الأقاويل واستهلاك الأراجيف، وما أكثرهم في عالم افتراضي يعجّ بشتى الغوغائيين. ومن ثَمّ فإنّ المزيّة المقدَّرة التي يخلّفها الوعي الثقافي تتلخّص في الاقتدار على التمييز بين الغثّ والسمين في مجالات عدّة، وفرز المصلحة من المفسدة. وبفضل اكتساب تلك المقدرة يخرج المرء من مستوى الأمّية في فهم الأشياء إلى مستوى الأهلية في ترجيح الأشياء. ومن مستوى التعامل الساذج إلى مستوى التعامل المدرك لغور المقاصد وأبعادها وآثارها. ولما يخلّفه الوعي الثقافي من تحرّر ذهني ورقيّ معرفي واستقلال نظر، فهو بالمؤكد حصيلة صيرورة ثقافية واعية ومستدامة وليس نتاج بناء مستعجل.

فالوعي الثقافي هو تلك الحصانة الذهنية التي يكتسبها المرء والتي تقيه مساوئ الاغتراب، أي أن يسلك وفق مقتضيات عقلية بديهية، ولا ينساق بموجب الاتباع أو التقليد أو مجاراة الحشد. وهو ذلك الرصيدُ الذهني الذي يمنح الفردَ قدرةً على تثمين المغايَرة والاختلاف ومراعاة التنوع، فضلا عمّا يخلّفه من أثر في حُسن التواصل مع الآخرين، والإحساس بالانتماء إلى كلّ جمعي وتحمّل المسؤولية ضمن مكوّناته. "فليست الثقافة امتلاك مخزن معبّأ بالمعلومات، ولكنّها تلك القدرة التي يمتلكها العقل لفهم الحياة والمكان الذي نموضع أنفسنا فيه، وعلاقاتنا التي ننسجها مع الآخرين. ومن ثَمّ يحوز الثقافة من يملك الوعي بذاته وبالآخرين، ومن يحسّ أنّ علاقة تربطه بالكائنات الأخرى كافة"، ذلك بالفعل ما يقرّه المفكر الإيطالي أنطونيو غرامشي في قولته الآنفة الواردة في "دفاتر السجن".

يعيد الرهان الثقافي طرح سؤال الإنتاج الثقافي، ففي ظلّ الأوضاع التي تميّز الثقافة العالمية بات لزاما الحديث عن حظوظ الثقافة العربية في هذا المعترك الحاشد، بكلّ تجرّد ومسؤولية. فهل هي قادرة على طرح منجز مقدَّر كونيا بعيدا عن الادّعاءات الإبداعية؟ أيّ إنتاج عمل، يتخطى المنجز السردي الذي بات مستحوذا على المخيال الإبداعي العربي، ويشمل الدراسة والبحث وكتب الأطفال واليافعين والخطاب المعرفي بأنواعه، أي تقديم منجز جدير بأن يحظى بالتقدير والعرفان. والواقع أنّ ثمة حقولا ومجالات، وهي كثيرة، لا يستطيع القارئ العربي أن يراجع فيها مؤلَّفا بالعربية سوى ما هو مترجم، لضعف مبناها وترهّل محتواها وخواء طروحاتها. فكيف لثقافة بهذا العوز أن تعرض ذاتها على الساحة العالمية وأن ينصت إليها في الخارج؟ وكيف لثقافة لا تصغي للعالم ولا تتحاور مع الخارج، أقصد عبر الترجمة والنقل والمثاقفة، وتودّ الحضور على المنصات العالمية؟ ولولا منجزات بعض المؤسسات التي تشكّلت في العقود الأخيرة في البلاد العربية، لتحولت خارطة واسعة لحضارة عريقة إلى بيداء قاحلة.

لكنّ الرهان على الثقافة هو رهان مركّب، فهو كما يولي الإنتاج الداخلي الرعاية اللازمة، مبدعا وإبداعا، فهو يولي الإنتاج العالمي المتابَعة الحريصة والجلب الدؤوب عبر الترجمة. ولعل ما زاد من تعكّر أوضاع الثقافة العربية تحول فئات جامعية واسعة إلى شرائح وظيفية تؤدّي مهام إدارية وليست شرائح إنتاجية إبداعية للمعارف، مع أن الآمال معقودة عليها. فهناك مهمتان باتتا متروكتين للمبادرة الخاصة ألا وهما البحث والترجمة، بعد أن تقلّص دور مؤسسات الدولة المعهود. ولكن ولحسن الحظ حافظت ثلّة من الدول على حضور مؤسسات الدولة في هذين القطاعين ولم تفرّط في مهامها. ترفدها جوائز للتحفيز على المستوى الوطني والعربي والعالمي، في البحث والإبداع والإنجاز والترجمة في ما يخص الثقافة العربية. وبالمثل ثمة مثابرة في الترجمة من اللغات العالمية، تتابع منجز الإبداع والفكر العالميين، وكذلك حرص على بثّ الوعي الثقافي، عبر سلاسل المنشورات والمجلات مشرقا ومغربا، وهي منجزات تحسب في رصيد هذه الدول.

*أستاذ تونسي بجامعة روما- إيطاليا

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

  

إذاعة وتلفزيون‏



الساعة حسب توقيت مدينة بغداد

الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

1146 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع