الهيئات النقابية الثقافية بين رسالة التمثيل وشبق الاستحواذ والتمليك ... منصات تبادل أدوار أم حيازة واحتكار؟

إبراهيم فاضل الناصري

الهيئات النقابية الثقافية بين رسالة التمثيل وشبق الاستحواذ والتمليك... منصات تبادل أدوار أم حيازة واحتكار؟

في بدءي التنوير كانت الحاجةُ أمًّا، والمجموعة مهدًا، والكلمةُ حرزا والحقوق رسالة. هكذا وُلدت الهيئات والممثليات النقابية الثقافية: كائناتٌ نبيلة خرجت من رحم المعاناة لتكون حارسًا للضعيف، وترجمانًا للصامت من اهل القلم، وقلعةً تصمد في وجه عواصف الظلم. لكنّ الزمن — ذلك الساحرُ الخبيث — قلبَ المهدَ قفصًا، والسلاحَ سوطًا، والقلعةَ إقطاعًا.
وبضوء ذلك وفي زمنٍ تتسارع فيه المتغيرات وتتصاعد فيه أصوات المطالب، تقف النقابات عند مفترقِ طرق: إمّا أن تجدد عهدها مع من تمثّلهم، أو أن تغرق في وحل البيروقراطية والتحزّب. بين الصورة النبيلة التي وُلدت بها، والواقع المشوّه الذي آل إليه بعضها، تنكشف الحكاية الكاملة عن رحلة التحوّل من منبرٍ للدفاع إلى منصةٍ للاحتكار.
ها هي الصروحُ التي بُنيت لتحمي المبدعينَ تتحوّل إلى سدودٍ تحجبهم، وتلك الأصواتُ التي وُلدت لتهتفَ بالعدل تُغرِقُ حناجرَها في صمتِ الموالاةِ والمحسوبية. أترى النقابةَ اليوم؟ إنها مرآةٌ مشوّهة تعكسُ تناقضًا ساحرًا: كيف يتحوّل المدافعُ عن الحقوق إلى متحكّم يحتكر القرار؟ وكيف تنقلب هيئةٌ كرّست وجودها لصون الكرامة إلى أداةٍ لتمكين نخبةٍ لا تعرف سوى لغة الاستحواذ؟ الجواب ليس حادثةً عابرة، بل تراكم آلياتٍ جعلت من النقابة حصنًا مغلقًا: لوائح إدارية مُقيّدة، انتخاباتٌ تبدو ديمقراطية وهي مُزوَّرة بسلاسل الولاء، ودوائر تفضّل القرب على الكفاءة، والمحسوبية تُلبس القانونَ رداءَه.
التحوّل من التمثيل إلى الاحتكار له أسبابٌ بنيوية: هياكل إدارية بعيدة عن القاعدة، موارد تُدار كغنيمة لا كأداة تمكين، وفراغ رقابي يُسهّل هيمنة اللوبيات. تُستَغل العضوية لمصالح شخصية، وتُفرَّغ الانتخابات من معناها عبر آليات شكلية، بينما يعاني الشباب الباحث عن تمثيل حقيقي من انسداد الأفق. وفي بعض السياقات، تتحالف قياداتٌ نقابية مع قوى سياسية أو اقتصادية تجعل من النقابة أداة لتصريف مصالحها بعيدًا عن هموم القاعدة.
الخسارة ليست مجرد تراجع هيبة؛ إنها انهيار ثقة وهدر لرأس المال الاجتماعي وهجرة للطاقات. المبدعون والعاملون المستقلون يبتعدون عن فضاءات لا تمثّلهم، فتتراجع القدرة التفاوضية للنقابات وتضعف قدرة المجتمع على حماية حقوقه. وفي فراغ التمثيل تزدهر أطرافٌ تسعى لإعادة صياغة علاقات العمل لصالحها، فتتعمّق الهشاشة وتتسع هوة اللامساواة.
التجارب النقابية الناجحة عالميًا تؤكد أن الفعالية تُبنى على مزج الحضور المؤسسي بالارتباط العضوي بالميدان؛ أي قدرة النقابة على التفاوض المنهجي مع اللجوء إلى التحشيد الجماعي عند الحاجة. أما النقابات التي انغلقت على ذاتها فتحوّلت إلى أبرشيات نفوذ تغتال طاقتها التاريخية وتفقد تعلقها بالقضايا الاجتماعية والاقتصادية الكبرى.
الإصلاح يحتاج إلى مسارات متوازية ومتكاملة:
• تشريعي: قوانين انتخابات ملزمة، شفافية مالية كاملة، وعقوبات رادعة على اختلاس الموارد أو استغلال النفوذ.
• مؤسسي: مجالس رقابية مستقلة، لامركزية فعلية تفوض الفروع بصلاحيات حقيقية، ونظام عضوية واضح وسهل التحديث.
• ثقافي: تعليم نقابي منهجي يردّ القيم إلى نصابها، ومساحات حوار دائمة بين القيادات والقاعدة، وممارسة يومية للديمقراطية داخل الهياكل.
• اقتصادي: تشجيع التعاونيات ومشاريع العمال المملوكة للجماعة كبدائل للاحتكار، وتوفير شراكات دعم تقني ومالي لتجارب التمكين الاقتصادي.
• حماية: ضمانات قانونية لحرية التنظيم، وحماية فعّالة لمناضلي القاعدة من التضييق أو الإقصاء.
الشباب هم وقود التغيير؛ يجب تمكينهم فعليًا وإعطاؤهم مواقع قرار تضمن تجدد الدماء القيادية. والنساء شريك استراتيجي يعيد التوازن إلى برامج العمل ويضمن سياسات تأخذ بالاعتبار الأسرة وسوق العمل معًا. والتقنية أداة لا غنى عنها: لأنظمة انتخابية شفافة، وإدارة موارد متاحة للعموم، ونظم تواصل تُصغِي القاعدة وتُيسر محاسبتها لقياداتها.
إصلاح القواعد لا يكفي إن لم يتغيّر العقل. معنى النقابة يتحقّق حين يصبح السؤال الأوّل في ذهن كل مسؤول: كيف أخدم العضو؟ لا أن يصبح السؤال: كيف أحافظ على مكاني؟ ويتحقق ذلك عبر ممارسات يومية تقاس القرارات فيها بمعيار العدالة لا معيار امتلاك المراكز.
النقابات إما أن تظل خطوط دفاعٍ عن كرامة الإنسان في سوق العمل، أو أن تتحوّل إلى أدوات احتكارية تغتال دورها التاريخي. الخيارٌ متاحٌ، لكنّه مرهون بإرادات صادقة: قيادات تُقدّم المصلحة العامة على النفوذ، وقاعدةٌ يقظةٌ تفرض المساءلة، وإطار قانوني يضمن الشفافية. عندما تستعيد النقابات أصل دعوتها، تستعيد الحياة العامة جزءًا من توازنها؛ يصبح العملُ كرامة لا سلعة، والتمثيلُ صوتًا لا ظلًا، ويعود العهد قيمةً لا شعارًا.
النقابةُ فعلٌ جماعيّ مستمرّ؛ ومن خسر الأمانة لا يعودُ إليها ببيان، بل بإصلاح يُقاسُ بالأعمال لا بالأقوال.
وفي نهاية المطاف، أقول ان النقابات ليست صفات وعناوين ولوائحا ومحسوبيات، بل روحٌ تمثيلية حية لا تقوم إلا بالثقة التي يودعها الجماعة فيها. فإذا ما صانت الأمانة، صانتها ذاكرة الأجيال، وإن خانتها، دفنتها يد الانفضاض. بين الرسالة والشهوة خيطٌ رفيع، إما أن يُمسَك ليبقى المنبر صوتًا للحق، أو يُقطع ليغدو أداةً لسطوة القلّة. والتاريخ لا يرحم المؤسسات التي تنسى أصل وجودها، فإما أن تعود النقابة جسرًا بين القاعدة والقيادة، أو تبقى شاهدًا على زمنٍ باع فيه الممثلون أصواتَ من مثّلوهم.

  

إذاعة وتلفزيون‏



الساعة حسب توقيت مدينة بغداد

الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

695 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع