عوني القلمجي
العبادي منصرف وعبد المهدي قادم والعراق هو الضحية
لم تجد نفعا كل الجهود التي بذلتها الاحزاب والكتل الطائفية، لتشكيل الحكومة الجديدة، حيث وجه الثنائي بريت ماكغورك المندوب الامريكي وقاسم سليماني مندوب ايران ضربة مهينة ومذلة، باتفاقهما على تكليف عادل عبد المهدي بهذه المهمة. وبدل ان ينبس احدا منهم ببنت شفه، تسابقو في تقديم فروض الولاء والطاعة للقادم الجديد، لنيل حصة اكبر في حكومته المرتقبة. وكل ما تسمعوه من تصريحات واشاعات عن خلافات بين هذه الكتل وبين المكلف، ليست سوى فصل من مسرحية بائسة يجري عرضها في مثل هذه المناسبة، فالرجل وجميع هؤلاء زملاء مهنة في منظومة الفساد، يسند بعضهم بعضا ويحمي كل منهم الاخر، وا ذا حدث واصابتهم عين الحسود وتفرق شملهم، يصرخ حاديهم مذكرا بشعارهم الدائم، اتحدوا فالعدو خلف الباب.
وفق هذا السياق، فان حكومة عبد المهدي لن تخيب ظن هذا الجمع الطائفي، وستمنح كل كتله نصيبها من الوزارات، والمناصب العليا والهيئات المستقلة والمحاكم واللجان وغيرها. وهذا ليس غريبا او مستغربا، اذ لا يمكن لعبد المهدي او غيره الهروب من هذا الاستحقاق تحت اية ذريعة كانت، فالمحاصصة الطائفية التي يسموها "الشراكة الوطنية"هي كلمة السر لمخطط تدمير العراق واهله. نعم كل ما يستطيع عبد المهدي فعله، وسيفعله بكل تاكيد، هو تسويق الحكومة بوجوه جديدة ليس لها سوابق في سجل منظومة الفساد، وتقديمها للناس على اساس كونها وجوه مستقلة وتكنوقراط ومؤهلة لتنفيذ برنامج "الاصلاح الشامل" الذي يتطلع اليه كل العراقيين، على امل اقناعهم بالتخلي عن المطالبة بحقوقهم المشروعة عبر الانتفاضات الشعبية، والتوجه الى قاعة الانتظار مرة اخرى.
هذا ليس استنتاجا، فعبد المهدي نفسه اكد يوم الثلاثاء الماضي هذه الحقيقة بقوله"إن ترشحه لمنصب رئيس الوزراء ونجاح الحكومة لا يمكن أن يتحقق دون دعم وتأييد هذه القوى والكتل أو أغلبها". في حين اكد احد نواب تحالف البناء لصاحبه هادي العامري يوم 6/10 في تصريح لجريدة العربي الجديد، بان "الحديث عن حكومة تشكّل من قبل تكنوقراط مستقلين مبالغ فيه، إذ إن عبد المهدي الذي يحتاج إلى ثقة الكتل السياسية، لا يستطيع كسب الثقة لحكومته إلّا من خلال إرضاء تلك الكتل ومنحها وزارات مهمة".
اما تصريح احد قادة تحالف النصر لصاحبه حيدر العبادي، لنفس الجريدة يوم 9/10، فقد قال بأن "من بين تفاهمات تشكيل الحكومة، ضمان حماية شخصيات الخط الأول من أي محاسبة قانونية مثل نوري المالكي وصهريه ياسر صخيل وحسين المالكي "أبو رحاب" ونجله أحمد ووزير الكهرباء قاسم الفهداوي ووزير التربية محمد إقبال ووزير الأمن الوطني المُقال فالح الفياض، ووزير الخارجية إبراهيم الجعفري، ومسؤولين سابقين مثل مستشار الأمن القومي السابق موفق الربيعي، ووزير الداخلية الأسبق بيان باقر صولاغ، ونائب الرئيس العراقي خضير الخزاعي، ومحافظ البصرة الأسبق، خلف عبد الصمد". ناهيك عن تعهدات عبد المهدي التي لم تعد سرا، بضم كركوك والمناطق المتنازع عليها للاقليم، واسناد الوزارات السيادية لاحزاب ايران، اضافة الى وزارة النفط والنقل ليسهل تهريب ثروة العراق لايران وفق مقولة "لا من شاف ولا من دري". اما سنة المحتل فقد علقهم عبد المهدي بامل اقليم سني على غرار اقليم الكرد.
لا تحتاج هذه المعلومات والتصريحات الى تواقيع موثقة او ادلة ثبوتية، فهي تنسجم تماما مع الية العملية السياسية، التي لا تسمح لا لعبد المهدي اوغيره بالتمرد عليها او حتى المساس بها، لا من حيث الشكل ولا من حيث المضمون، وخاصة نظام المحاصصة الطائفية والعرقية، مثلما لم تسمح للحكومات السابقة ايضا. وهذا ما يدعونا للتاكيد دوما، على استحالة اصلاح العملية السياسية من داخلها، سواء من خلال الانتخابات، او الاغلبية والاقلية، او صعود شخصيات وطنية وكفوءة ونزيهة الخ. بعبارة اخرى اكثر وضوحا، فان الحفاظ على المحاصصة وعلى منظومة الفساد المالي والاداري وحماية مجموعة علي بابا، تعد بمثابة الضمانة الاكيدة لاستمرار الهيمنة الامريكية والايرانية على العراق، والتحكم بمصيره لعقود طويلة من الزمن.
قد يحدثنا البعض عن دور الفرد في التاريخ، وان عادل عبد المهدي هو ذلك الشخص الذي ادخره القدر لانهاء الاوضاع الشاذة، كونها ليست قدرا محتوما. ولترسيخ هذه الفكرة، تصاعدت الحملات الاعلامية لتكيل المديح له وتعدد مناقبه وتلصق الصفات الحميدة به وتتغزل باستقلاليته ونزاهته وتشيد بقوة شخصيته، بل وصل الامر حدا باطلاق صفة المنقذ الذي سيملا ارض العراق قسطا وعدلا بعد ان ملئت ظلما وجورا، لتنقل عدوى هذا المديح الى المرجعيات الدينية في كربلاء والنجف، داعية له في المنابر والحسينيات بالنجاح والتوفيق، اضافة الى اهازيج العشائر لتنتهي هذه الزفة الى بيت القصيد ومربط الفرس، وذلك بدعوة الناس الى تاييده والالتفاف حوله ومنحه الفرصة ومساعدته على اصلاح ما خربه زملاء المهنة من قبله.
هذه الحملة الهستيرية وما تنطوي عليها من خداع وتضليل وتدليس واكاذيب، وفي ظل وضع ماساوي تعاني منه البلاد ويتطلع فيه العباد الى الخلاص، قد تجد لها صدى واستجابة تشمل فئات واسعة من العراقيين، الامر الذي يزيد من معاناتهم سنين اخرى، وهذا يفرض علينا توضيح الحقيقة كما هي، وليس كما يجري تسويقها زورا وبهتانا. ولكي لا نطيل اكثر، فالامر هنا لا يتعلق بهذه الشخصية او تلك، سواء كانت وطنية او عميلة، قوية او ضعيفة، كفوءة او جاهلة، منقذ او مخلص، ولا يتعلق ايضا بهذا الحزب او ذاك، سواء كان داخل الحكم او خارجه. فهذه بكل اوصافها المختلفة لا تشكل معيار لاصدار الاحكام او الدخول في رحاب التوقعات او الاستنتاجات، وانما الامر يتعلق بقدرة هؤلاء على التحرك وحرية اتخاذ القرار والقدرة على تنفيذه وامتلاك القوة لحمايته ودستور تستند اليه وقوانين تمنحه الشرعية. وقد اثبتت تجارب سنين الاحتلال العجاف، بان مثل هذه الامكانات لا وجود لها، في ظل احتلال مركب، امريكي ايراني، مدعوما بمليشيات مسلحة من الراس حتى اخمص القدمين، وطابور خامس من احزاب محلية كبيرة، تحميها عملية سياسية طائفية مقيتة ودستور ملغوم لا يمكن تعديل مادة واحد منه، بل حرفا واحد على حد تعبير نوري المالكي. بعبار اخرى، فان الاوضاع في العراق تخضع في ظل كل هؤلاء لقانون القوة وليس لقوة القانون، لشريعة الغاب وليس لشريعة البشر، لحكم الطوائف والمذاهب وليس لحكم الوطن والمواطنة. لحكم المليشيات المسلحة والمافيات وليس لحكم الدولة والمؤسسات.
ايها الناس، امريكا ومن ورائها الكيان الصهيوني وايران، لم تات الى العراق من اجل احتلاله او امتلاك نفطه او مصادرة ثروته او استخدامه كقاعدة عسكرية متقدمة او لحماية الكيان الصهيوني، فهذه على اهميتها القصوى لن تساوي الهدف المركزي التي تحاول جاهدة اخفائه والتستر عليه، وهو تدمير العراق وتقسيمه الى دويلات وطوائف وتفتيت وحدة المجتمع وتمزيق نسيجه الاجتماعي وتدمير ثقافته وعاداته وتقاليده العربية والاسلامية وتجويع اهله واذلالهم وتجهيلهم ونشر الاوبة والامراض المستوطنة، والقائمة بهذا الخصوص طويلة ومؤلمة. ولتحقيق هذا الهدف لن تقبل هذه الدول المحتلة التراجع عنه طواعية او بالطرق السلمية، او لمجرد وجود منقذ او دعوة من حكومة او تشريع من برلمان. وحتى الانتفاضات الشعبية السلمية جوبهت بقوة عسكرية غاشمة قتلت واختطفت وجرحت وسجنت المئات لمجرد مطالبتها بتوفير ابسط مقومات الحياة كالماء والكهرباء.
ان الذين ينكرون هذه الحقيقة ويطلقون على عادل صفة الوطني المستقل والنزيه والمؤهل لاجراء الاصلاحات وتحقيق المعجزات، هم اصلا غير واثقين بما يقولون. فهؤلاء يعتاشون على فتات هذه الحكومات، او "لحم كتافهم من خيرها" كما يقال. اما الذين في نفوسهم مرض الطائفية المزمن، فهؤلاء لا يهمهم سوى بقاء السلطة بيد الطائفة و"ما ينطوها"، على حد تعبير المخلوع نوري المالكي. والطائفة بالطبع براء منهم في الدنيا والاخرة. اما احتمال قيام الحكومة الجديدة باصلاحات خدمية محدودة، بهدف كسب رضى العراقيين الذي حرمتهم هذه الشلة من ابسط مقومات الحياة كالماء والكهرباء، فهذه لا هدف لها سوى تشجيع الناس على انهاء انتفاضتهم الشعبية والدخول في خانة الانتظار اربع سنين اخرى. فالانتفاضة تعني بالنسبة لهم الانتصار في نهاية المطاف طال الزمن ام قصر، وبالتالي فان الاصرار على رفض اي اصلاح ومواصلة عمليات النهب والسرقة والعبث بشؤون البلاد والعباد، سيوفر الظروف الثورية للانتفاضة ويعزز مشروعيتها عربيا واقليميا وعالميا، الامر الذي يدفع الناس الى الدخول في رحابها افواجا. بمعنى اوضح، اذا لم تجر الحكومة القادمة بعض الاصلاحات الخدمية وتلبس ثوب ابيها بزي جديد، فانها ستواجه الانتفاضة حتما وربما لن تكون سلمية هذه المرة.
ليس المقصود هنا الوقوف ضد اي اصلاح يصب في خدمة العراقيين. وانما المقصود الوقوف على الاهداف الخبيثة التي تكمن ورائها. وهذا الفعل المراوغ والمضلل ليس ابتكار جديد اختص به المحتل الامريكي، وانما هو قانون رافق عمر الغزاة والمحتلين منذ اقدم العصور. خاصة اذا عجز هذا المحتل عن اسكات الشعوب المحتلة عبر استخدام القوة العسكرية، كما حدث مع جميع الانتفاضات الشعبية التي قامت في العراق واخرها انتفاضة البصرة. نعم ينبغي عدم الوثوق في هؤلاء الذين اتى بهم المحتل واصبح ولي نعمتهم، فقد سمعناهم وجربناهم وفي النهاية كذبناهم، وبالتالي ينبغي مواصلة الانتفاضة حتى تحقيق كامل اهدافها الخدمية والاجتماعية والسياسية وطرد المحتل، سواء كان امريكي او ايراني او تركي او غيره، ومن دون ذلك لا يمكننا انقاذ العراق من محنته، ولا بمقدورنا استعادة استقلال العراق وسيادته الوطنية ووحدة كامل ترابه.
لا خلاص ولا اصلاح، لا على يد الحكومة القادمة، ولا على يد منقذ او مخلص، ولا على اغلبية او اقلية، ولا على سائرون او جالسون، وانما الخلاص على يد ابناء البلاد، فهم القادرون على انقاذ العراق من محنته، واسقاط هؤلاء الذي افسدوا ارض العراق الطاهرة، وساهموا في مخطط تدمير البلد دولة ومجتمع. الشعوب هي سلاح الحق والعدل ضد القوى العاتية والباغية، هي سلاح الدمار الشامل التي تخشاها القوى الاستعمارية، ومن يشكك في هذه الحقيقة او يقلل من شانها، سواء كان قاصدا او غافلا، فانه يخدم المحتل ويسهل عليه تكريس مشروعه التدميري الى عقود اخرى من الزمن.
عوني القلمجي
14/10/2018
1118 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع