بقلم: سالم إيليا
هل هناك هوية وطنية عراقية حقيقية تجتمع تحت مظلتها كل المكوّنات؟!
في السنوات الأخيرة وتحديداً بعد الحروب الكارثية التي حلّت بالعراق وخاصة الحرب الأخيرة في 2003م وما تلاها من تداعيات بدأنا نسمع من بعض (العراقيين) كأفراد أو مجاميع من المكونات في التشكيك بوجود وطن اسمه (العراق) لغايات عديدة منها الإنفصالية ومنها ما هو أبعد من ذلك قد تغذيها أطراف خارجية لها أجندات إقليمية أو دولية لم تعد خافية على أحد.
وربما من الضروري التطرق إلى بعض البديهيات التي تخص موضوعنا هذا وأولها تباين الشعور والإحساس الوطني بتلك الهوية وفقاً لبارومتر العوامل الرئيسية التي تُرسخ تلك الهوية من عدمه في نفوس المواطنين العراقيين وعلى رأسها قوة البلد إقتصادياً وأمنياً ومجتمعياً وقوة شعور مواطنيه من أنهم على رأس الهرم الإنساني في العالم أجمع وليس أدنى حتى من قاعدته كما يحصل للعراقيين الآن!!، كذلك شعور جميع المواطنين من أنهم متساوون أمام الدستور الذي تترجمه القوانين التشريعية وتجعله فعل واقع على الأرض من خلال الفعاليات والممارسات الحياتية التي لا يمكن تجاوزها في تساوي الفرص التعليمية والوظيفية والعدالة المجتمعية بكل مفرداتها، إضافة إلى الغاء التمايز الطبقي أو الطائفي بشقيه الديني/المذهبي أو الأثني/العرقي، وسأطرح أمثلة قائمة على الكثير من دول العالم وعلى العراق قبل وبعد ما حدث له من كوارث.
لكن في البدأ علينا أن نسأل أنفسنا هل كان يوجد بقعة أرض محددة اسمها العراق قبل تكوين الدولة العراقية الحديثة وإعلانها سنة 1921م في مؤتمر القاهرة؟؟!!، أم هي تسمية حديثة طارئة؟؟!!.
ربما إذا أردتُ إثبات ذلك من خلال المعطيات التاريخية العديدة التي لا تقبل التأويل سأحتاج الى إطالة هذا الموضوع ليتجاوز عشرات الصفحات!!، لكنني سأكتفي ببرهان واحد يتفق عليه جميع الفرقاء ولا أعتقد يختلف عليه أحد وهو خطبة الحجاج بن يوسف الثقفي المشهورة في مسجد الكوفة والموثقة تاريخياً عندما هدَدَ بها أهل العراق مخاطباً: "يا أهل العراق ـ ـ ـ"، إذن الجواب هو نعم يوجد بلد اسمه العراق على الأقل قبل ما يزيد على الألف وثلاثمئة عام (تقول المصادر إنّ الحجاج ولّيَ على العراق سنة 694 ميلادية)، فلم يخاطب الحَجاج الجموع في المسجد بقوله: يا أهل الكوفة أو يا أيها الأعراب أو يا أيها الحضور!!، إذن كان هنالك منذ ذلك الزمن بلد محدد طبوغرافياً اسمه العراق، لكن ماذا حدث لهذا البلد ليختفي اسمه أو على الأقل يحيّد في الأذهان ثم يظهر مرة أخرى بعد الحرب العالمية الأولى؟؟!!، وللإجابة عن هذا السؤال وبإختصارٍ شديدٍ هو توالي الإحتلالات عليه بعد نهاية خلافة الدولة العباسية على يد المغول أولاً ثمّ ضمه تباعاً إلى إمبراطوريات عديدة وكان آخرها الإحتلال العثماني الذي إنتهت إمبراطوريته مع خسارته في الحرب العالمية الأولى لمعظم أجزائها ومنها العراق فعاد اسم العراق اليه.
إذن عاد اسم العراق في الدولة العراقية الحديثة وبدأت بوضوح من جديد هوية مواطنيها العراقيين تظهر بعد الإحتلال العثماني والتي ما لبثت تضمحل وتشوبها الضبابية وتتشتت مرة أخرى بعد تكوين الأحزاب الأيديولوجية الأممية والقومية والدينية التي رفعت شعاراتها متجاوزة حدود الهوية الوطنية العراقية، فأصبح من ينادي أولاً وقبل كل شيء بتعزيز الهوية الوطنية في دائرة الإتهام من قِبل البعض أما بمعاداته للأممية أو (قطري) معادي للوحدة أو (علماني) كافر ومعادي للدين!!!، وحيثُ أثبتت الأحداث التي مرّت بالعراق وجميع دول المنطقة خطأ برنامج عمل تلك الأحزاب وقصر نظرتها المستقبلية في إصرارها على تجاوز الهوية الوطنية أو بمعنى أصح مصادرتها لها على حساب أهدافها الأممية والقومية والدينية!!، وحيثُ كان من المفروض أن يكون الهدف الأول الذي يجب أن تعمل عليه كل تلك الأحزاب هو تعزيز وترسيخ الهوية الوطنية لتكون الأساس الذي سيحقق كل تطلعاتها وأهدافها الأخرى وليس العكس، وعليه بقيت الهوية الوطنية أسيرة كتب الوطنية وخطابات السياسيين للمتاجرة بها، لكن الشعور الحقيقي بها كان مدفوناً في أعماق أغلب المواطنين لا يجاهروا به إلاّ بالقدر الذي لا يتجاوز الخطوط الحمراء لأيديولوجيات تلك الأحزاب!!.
ولهذا فقد رأينا وعشنا بشكلٍ واضحٍ وجلي تجليات عديدة ترجمت هذا الشعور الوطني وأظهرته بعفوية لكل العالم حتى أصبح (البُعبُع) الذي أرهب الإخوة و الأصدقاء قبل الأعداء!!، فباتوا يخططون مرة أخرى لإستئصاله من جذوره لأنهم أدركوا بأنه (مارد) لا يمكن السيطرة عليه إذا تركوه يعلو ويتجبر بقدراته أكثر وأكثر!!.
فالروح الوطنية العراقية العفوية واضحة وضوح الشمس عندما يفوز المنتخب الوطني العراقي الكروي مثلاً، فيخرج العراق عن بكرة أبيه من شماله بجباله حتى جنوبه بأهواره ومن شرقه حتى غربه للإحتفال ليس بالفوز الكروي فقط وإنما للمجاهرة بالهوية العراقية!!، ولقد تكللت كل هذه المناسبات والفعاليات المختلفة في إثبات الهوية الوطنية العراقية بمواقف مهمة كانت فيها النفس ترخص أمام تحديات المساس بارضه وهوية أبنائه والجود بالروح للدفاع عن بلد اسمه العراق ـ ـ "فالجود بالنفس أقصى غايةِ الجودِ"!!، أفلا يبرهن هذا السلوك وطنية المجتمع العراقي بمكوناته؟!، فأي مِن كل بلدان العالم خسرت من مواطنيها بالنسبة المئوية لعدد سكانها أعلى مما خَسرهُ العراق من أبنائه العراقيين في حروب الدفاع عنه بغض النظر عن إيمانهم المطلق بضرورة خوض تلك الحروب من عدمها؟؟؟!!!، هذا السؤال أوجهه للمتشككين بوجود بلد اسمه العراق وشعب اسمه الشعب العراقي الموحد بمكوناته!!، الم تتشارك كل مكونات الشعب العراقي بتقديم أبنائها قرابين على مذبح الإنتماء لهذه الهوية ؟؟!!.
لكن من الطبيعي أن يكون هنالك نكوص في الشعور بالإنتماء الوطني للبعض من العراقيين!!، وكما أسلفت فأن المراحل التي مرّ بها العراق منذ نهاية خلافة الدولة العباسية والتركيز عليه من قِبل جميع الغزاة المختلفين في أجناسهم وأعراقهم كان كافياً لزعزعة ثقة البعض بوطنيتهم العراقية!!، وكما أسلفت أيضاً فإنّ هذا الشعور يخضع لبارومتر العوامل العديدة التي قد تزعزع الشعور الوطني لأي شعب في العالم وليس للعراقيين فحسب، وسأطرح بعض الأمثلة القائمة لمواطني بعض البلدان التي تعتبر (الآن) من أقوى البلدان سواء إقتصادياً أو عسكرياً أو حضارياً لبيان كيف يفكر المواطنين فيها وما هو شعورهم، ولنبدأ من الأقرب جغرافياً الينا كالسعودية مثلاً التي كانت قبل تسميتها بهذا الأسم مقسمة الى إمارات عديدة منها نجد والحجاز والقطيف والدرعية وغيرها وكل منها يتواجد على أراضيها طوائف وملل من مشارب عديدة، لكن بعد تأسيس المملكة العربية السعودية في سنة 1932م وإكتشاف البترول الذي عزز مكانتها الإقتصادية في العالم تباهى مواطنوها بهويتهم السعودية وهذا من حقهم!!، كذلك مواطنوا دولة الإمارات العربية المتحدة المتكونة من إمارات عديدة كما يدلل اسمها يتباهون بهويتهم الإماراتية التي وحدت إنتماءاتهم وهذا من حقهم أيضاً، ولنذهب خلف البحار ونأخذ مثلاً آخراً لأكبر وأعظم دولة تقود العالم الآن وهي الولايات المتحدة الأمريكية ومن اسمها يُستدل على أنها كانت (ولا تزال) مقسمة الى ولايات بمواطنيها المتنوعين منذ تأسيسها بعرقهم ومذاهبهم وأديانهم، وحيثُ نشبت الحروب (الأهلية) فيما بينهم قبل ما يزيد على المئة وخمسين عاماً وأرتكبت خلالها أبشع الجرائم بإبادة قرى بكاملها من أطفال ونساء وشيوخ!!، لكنهم الآن يفتخرون ويتباهون بهويتهم الأمريكية وهذا من حقهم أيضاً (تم إكتشاف قارة امريكا الشمالية قبل حوالي الستمئة عام، وإتحدت الولايات الأمريكية قبل ما يزيد على المئتي عام بقليل)!!، وهذه المقارنة وهذا الحال يصحان على كندا واستراليا وروسيا والصين وغيرها الكثير من البلدان، ولو إفترضنا جدلاً نكوص هذه البلدان المنتعشة بإقتصادها ومكانتها الدولية لأي سبب، فهل سيبقى الحال كما هو عليه لمواطنيها بفخرهم وزهوهم أم سيهتز إيمان البعض منهم بإنتمائهم اليها؟؟!!، وهذا ما هو حاصل الآن في العراق للبعض من العراقيين، فلماذا يستكثر البعض (المتخاذل) على باقي العراقيين هويتهم العراقية؟!، ألأن العراق ضعيف الآن وتحكمه شلّة من المفسدين وسرّاق المال العام؟؟!!، وهل كانوا هؤلاء الناكرين لعراقيتهم الآن يتجرأون على نكرانها في السبعينات من القرن المنصرم عندما كان العراق في عصره الذهبي أم كانوا أكثر المتباهين بها؟؟!!.
ومشكلة البعض من العراقيين وللأسف الشديد إصابتهم بالوهن الذي قادهم للتنكر لعراقيتهم وبدؤا قبل غيرهم من الأغراب ببث بعض الأقوال لِمن حَمَلوا على العراق والعراقيين البُغض والكراهية لهذا السبب أو ذاك، فمنهم من (يجتر) خطبة الحجاج التي إستشهدتُ ببعض الكلمات منها أعلاه للدلالة على وجود اسم العراق فقط وليس لِما فيها مِن غل وتهديد على أهل العراق!!، كذلك يستشهد البعض بمقولة نُسِبت الى الملك فيصل الأول في شكوكه بوجود هوية عراقية واضحة تجمع مكوناته!!!، وهذا في رأيي طبيعي جداً في بلد كان محتلاً لمدة تزيد على السبعمئة عام بعد سقوط الخلافة العباسية وكان مجرد ذكر اسم العراق في فترات إحتلاله يُعتبر جريمة كبرى!!، فما الذي كان يتوقعه المرحوم الملك فيصل الأول الذي جاء من أراضي نجد والحجاز!!، وأيهما أحق بهوية الأرض التي يسكنون عليها: هل هم العراقيون الذين سمّي بلدهم بالعراق قبل أكثر من الف وثلاثمئة عام كما تذكر جميع المصادر التاريخية أم المواطنين السعوديين الذين تكونت مملكتهم بإسمها الحالي في سنة 1932م؟؟!!، والتي جاء من أراضيها قبل تسميتها المرحوم الملك فيصل الأول ليحكم العراق؟؟؟!!!، أم الأمريكيين الذين ركبوا البحار من الجهات الأربع للبسيطة وتوجهوا للقارة المكتشفة حديثاً للبحث عن الذهب وقبل ستمئة سنة فقط؟؟!!، أترك الجواب لكل إنسان عادل ومنصف وغير حاقد للإجابة عليه!!. فيا مَن تشككون بالعراق وهوية أهله العراقية لا تجانبوا الحقائق الواضحة للعميان قبل المبصرين، وبكل تأكيد هنالك نوعان من العراقيين لا ثالث لهما ممَنْ يشككان بالعراق وهوية مواطنيه، فأما أن يكون إنسان ساذج وبسيط ومغرر به ولا يعلم عن تاريخ بلده أي شيء ـ ـ أو مدفوع بأجندات محددة إحدى غاياتها تقسيم العراق!!.
ولي تجربتي الخاصة في الغربة عن الشعور الوطني العراقي وروح الإنتماء لوطن موحد اسمه العراق مع مّنْ عملتُ معهم في البلد العربي المضيف لنا. فحال مغادرتي للعراق في الشهر السابع من سنة 1994م متوجهاً الى البلد العربي الوحيد الذي فتح حدوده لنا مشكوراً فكرتُ بالعمل على الرغم من الضوابط القاسية في منع العراقيين من العمل فيه، وبالفعل وجدتُ لي عملاً في إحدى المؤسسات للأعمال الكهربائية وبراتب كان يبدو في ذلك الوقت عالي جداً، كان عملي هو الأشراف على مجموعة من العمال الفنيين من أهل البلد لتنفيذ بعض المشاريع في أماكن متفرقة من العاصمة وضواحيها، وكان لزاماً على جميع المنتسبين للمجموعات كافة التواجد صباحاً في مقر المؤسسة ثم التوجه منه إلى أماكن عملهم، وكنتُ أشعر بأن هنالك من المنتسبين مَنْ كانت لهجتهم عراقية ومتداخلة مع لهجة أهل البلد عند مخاطبتهم لزملائهم العاملين، وفي يوم من الأيام وقبل تفرقنا كمجموعات جاء اليّ أحدهم ملقياُ السلام العراقي المعروف (الله بالخير) فأبتسمت له مع ردّي لسلامه وطلب مني التحدث جانباً؟؟!!، وعندها طلب مني بوضوح رغبته وزميله العراقي الآخر بالعمل تحت إشرافي ومبادلتي لهما بمن يعمل بأمرتي من أهل البلد معللاً ذلك بالمضايقات والضغط الحاصل عليهما من المشرف عليهما!!، كان هذا الشاب من حي (العامل) في بغداد والآخر من حي (الآثوريين) في الدورة، وأعتقد من أنّ جميع القرّاء سيدركون خلفية إنتماء هذان الشابان دون التصريح علناً بالإنتماءات الطائفية لهما والتي لا احبذها، وحيثُ رغبتُ فقط في بيان تنوع مشاربهما ليس إلا لدعم هدف المقالة، لم أتعهد للشاب العراقي بما طلبه مني، لكنني تعهدتُ له ببذل قصارى جهدي لإنضمامهما الى فريق عملي، وفي مساء اليوم نفسه وخلال عودتي مع رئيس المؤسسة بسيارته الى داري الذي لم يكن يبعد كثيراً عن داره طلبتُ منه ضم الشابين العراقيين الى فريق عملي!!، فالتفت لي مستغرباً طلبي ورافضاً في الوقت ذاته ذلك الطلب ومعللاً بأن ذلك التغيير سيربك العمل ويؤخر الإنجاز في الموقعين، أصريتُ على طلبي وتعهدتُ له بإنجاز العمل في وقته المحدد مع إستعدادي للإستغناء عن ثلاثة فنيين من أهل البلد من فريق عملي للمجموعة الأخرى مقابل الحصول على الشابين العراقيين لأني كنتُ متأكد بأن الغيرة العراقية ستدفعهما للعطاء بشكل أكبر حال معرفتهما شروط المقايضة التي حصلت بيني وبين رئيس المؤسسة!!، وبالفعل عملا معي بكل همّة ونشاط دون حتى محاولة حثهما على العمل!!، لا بل على العكس كنتُ أسألهما الراحة قليلاً فكان جوابهما: "إحنا مرتاحين وما نريدك تخجل ويّا رئيس المؤسسة"!!، كانا يقولان لي لولا إنضمامهما الى فريق عملي لتركا العمل جرّاء مضايقات زميلي الذي كانا يعملان تحت إشرافه والذي كان من أهل البلد!!، بقيا معي حتى قررت ترك العمل للتهيأ للسفر الى بلد المهجر.
سردتُ هذه التجربة لبيان الروح العراقية المتجذرة في أعماق كل أبناء مكونات الشعب العراقي، فلم يكن يربطنا نحن الثلاثة الدين أو القومية أو المذهب ـ ـ إنما ربطتنا هويتنا العراقية وما أحلاها وأجملها من رباط مقدس!!!.
وسأنهي مقالتي هذه بمثل عراقي وأعكسه في مخاطبة الوطن لأبنائه الضالين الناكرين لهويته قائلاً: "يا كثرة أصحابي يوم كان ظرفي مملي دبس ـ ـ ويا قلّة أصحابي يوم ظرفي يبس".
892 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع