
العربي الجديد:في مشهد سياسي عراقي يتجه نحو مزيد من التعقيد، تبرز محافظات الجنوب العراقي مجدداً عشية الانتخابات التشريعية المقررة الثلاثاء المقبل، بوصفها القلب النابض للعملية الانتخابية وصانعة للحكومات الأبرز منذ عام 2003، بفضل الكتلة الانتخابية الضخمة، التي لعبت دوراً في ترجيح كفة المعادلة الانتخابية بالأرقام التي حصدتها برلمانياً. البصرة، وكربلاء، والنجف، والقادسية، والمثنى، وواسط، وبابل، وميسان، وذي قار، محافظات جنوبي العراق، ذات الغالبية العربية الشيعية، والتي تتنافس عليها القوى والتيارات السياسية الشيعية، تحوّلت في الأسابيع الأخيرة إلى ساحة تنافس مفتوح، استخدمت فيه الشعارات الدينية والخدمية والسياسية، والقبلية والعشائرية وصولاً إلى المناطقية، في صورة تعكس حدة التنافس بين تلك القوى.
وتزداد هذه المنافسة احتداماً في ظل غياب التيار الصدري، بزعامة مقتدى الصدر عن المشهد الانتخابي، ما فتح الباب واسعاً لإعادة توزيع النفوذ داخل الخريطة السياسية للقوى الشيعية، إذ ترك غياب الصدريين، فراغاً تحاول القوى الأخرى ملأه. وبين محاولات تثبيت الهيمنة من جهة، ومساع لكسب الشارع المتذبذب من جهة أخرى، تقف أحزاب السلطة التقليدية أمام تحديات غير مسبوقة، في وقت تبحث القوى الصاعدة عن موطئ قدم وسط تحوّلات اجتماعية متسارعة وانقسامات داخلية غير محسومة. وتتنافس قوى، حزب الدعوة، والمجلس الأعلى، وبدر، وصادقون، والحكمة، والفضيلة، إلى جانب تحالفات عدة أبرزها الذي يقوده رئيس الوزراء الحالي محمد شياع السوداني، "الإعمار والتنمية"، إلى جانب أحزاب وقوائم أخرى بعضها مدعوم من فصائل مسلحة وأخرى مستقلة.
زحمة سياسية في الجنوب العراقي
وقال مدير مركز الرفد للإعلام والدراسات الاستراتيجية عباس الجبوري، لـ"العربي الجديد"، إن الجنوب العراقي "يشهد تزاحماً سياسياً غير مسبوق، ليؤكد مجدداً مكانته بوصفه القلب النابض للعملية الانتخابية وصانع الحكومات الأبرز منذ عام 2003، فالمحافظات الجنوبية، التي لطالما كانت صاحبة الثقل السكاني والانتخابي والاقتصادي، باتت اليوم محور التنافس بين القوى السياسية الساعية إلى تكريس نفوذها وضمان دورها في تشكيل الحكومة المقبلة". وأضاف الجبوري أن "غياب التيار الصدري عن المشهد الانتخابي بعد انسحابه من البرلمان ومقاطعة العملية السياسية والانتخابية، ترك فراغاً سياسياً كبيراً في الجنوب، الأمر الذي فتح الباب واسعاً أمام قوى الإطار التنسيقي وأحزاب محلية ناشئة لإعادة رسم خريطة النفوذ والتحالفات، فالمنافسة لم تعد تقتصر على القوى التقليدية، بل امتدت إلى قوى جديدة تحاول استثمار حالة السخط الشعبي وتراجع الثقة بالأحزاب الحاكمة".
وبيّن الجبوري أن "الجنوب يتمتع بوزن اقتصادي استراتيجي نتيجة امتلاكه أغلب الموارد النفطية ومنافذه البرية والبحرية المهمة، مما جعل السيطرة السياسية عليه هدفاً محورياً في حسابات التوازنات، ويرافق هذا التنافس تصاعد واضح في الحملات الإعلامية واستقطاب العشائر والشخصيات المؤثرة، وسط توقعات بتغيير ملامح الخريطة السياسية الحالية". وتابع أن "المرحلة المقبلة ستشهد اختباراً سياسياً حقيقياً للقوى المتنافسة في قدرتها على كسب ثقة الجمهور الجنوبي، خصوصاً في ظل تعاظم المطالب بالخدمات والإصلاح ومحاربة الفساد، ويُتوقع أن يكون لنتائج انتخابات الجنوب الكلمة الفصل في تحديد هوية الحكومة المقبلة وشكل المعادلة السياسية لعراق ما بعد 2025". وأكد الجبوري أن "الجنوب العراقي ما زال يمثل بوابة الاستقرار السياسي إذا ما نجحت القوى الفاعلة في ترجمة وعودها إلى أفعال، بعيداً عن منطق الصراعات الضيقة والمحاصصة، فصوت الناخب الجنوبي سيبقى الرقم الأصعب في المعادلة السياسية العراقية".
رغم ذلك، لا تزال مدن الجنوب العراقي ومحافظاته تعاني في ارتفاع معدلات الفقر والبطالة، وسوء الخدمات، خصوصاً المياه والصحة، وهو ما جعل هذه المحافظات مركزاً احتجاجياً شبه سنوي ضد أحزاب السلطة في بغداد. محمد الشطري (52 عاماً) من أهالي محافظة ذي قار، قال لـ"العربي الجديد"، إن القوى السياسية باتت تتعامل مع المحافظات الجنوبية "خزّاناً بشرياً في السياسة والأمن والتحشيد، لذا أغلب الزعامات تركت بغداد، واستقرت في الجنوب منذ أسابيع تحشد الناس بخطابات مختلفة". وبيّن الشطري أن "المشاهد الحالية من الاستقطاب، والتنافس المحموم، والتحشيد المنظم، تنذر بمرحلة أكثر تعقيداً، ما لم تضبط بوعي جماهيري وتوافق وطني يضع مصلحة المواطنين فوق المصالح الحزبية الضيقة، خصوصاً أن أبناء الجنوب لم يعودوا يقبلون بأن تكون أصواتهم جسراً للوصول إلى السلطة بدون تحقيق مطالبهم الأساسية في الخدمات، وفرص العمل، وتحسين الواقع المعيشي".
ولفت الشطري إلى أن "الوعي السياسي المتنامي لدى الشباب في الجنوب، الذين كان لهم الدور الأبرز في الحركات الاحتجاجية، سيمنح العملية الانتخابية المقبلة وجهاً مختلفاً، قد يعيد تشكيل الخريطة السياسية برمتها، والحكومة المقبلة لن تولد بدون بصمة جنوبية واضحة". وتابع: "نريد انتخابات تنصف الجنوب ولا تستهلكه، ونريد نظاماً سياسياً ينهض بالبلاد ولا يعيد إنتاج الأزمة، وصوت ذي قار وعموم مدن الجنوب ليس أداة للتجربة، بل إرادة تصنع التغيير".
من جهته، قال الناشط المدني من محافظة البصرة عمار العبادي، لـ"العربي الجديد"، إنه "يحب الحذر من محاولة خطف الإرادة السياسية للجنوب، خصوصاً وسط احتدام الصراع الانتخابي بين القوى المتنافسة"، مضيفاً "أبناء البصرة والجنوب بصورة عامة، لن يسمحوا بتهميش محافظتهم أو استغلال صوتها الانتخابي سلاحاً لصالح أجندات حزبية". وبيّن العبادي أن "الجنوب العراقي تحوّل إلى ميدان صراع ومزاد نفوذ، فيما تستنزف مقدراته وثرواته تحت شعارات كاذبة ووعود مشروخة، والقوى السياسية تتصارع على الكراسي والامتيازات، بينما يعيش أهل البصرة بين البطالة والحرمان وتلوث الهواء والماء". وأضاف أن "البصرة ومدن الجنوب الأخرى، ليست رصيداً انتخابياً يسحب عند الحاجة، وليست مركز تمويل صفقات سياسية على حساب كرامة أبنائها، وإنهم يريدون أصواتنا، لكنهم لا يريدون صوتنا الحقيقي حين نطالب بحقوقنا، ولهذا الانتخابات البرلمانية المرتقبة ستكون اختباراً جدياً لإرادة أبناء الجنوب". وأكد العبادي أن "أبناء الجنوب العراقي بصورة عامة فهموا اللعبة ولن يسمحوا أن تدار البصرة وباقي محافظات الجنوب بعقلية الغنيمة، ومن سيقف معنا في معركتنا ضد الفساد هو من سيمثلنا، أما صناع الأزمات وناقلو حقائب الوعود، فسيكون مصيرهم الرفض الشعبي".
في المقابل، قال عضو "الإطار التنسيقي" عصام الكريطي، لـ"العربي الجديد"، إن "محافظات الجنوب العراقي تشكل محوراً أساسياً في موازين العملية الانتخابية، نظراً لما تمتلكه من ثقل جماهيري واسع يمتد تاريخياً وسياسياً في المشهد الوطني، والجنوب العراقي كان وما يزال ركيزة أساسية في تشكيل الحكومات المتعاقبة، وصوته الانتخابي يمثل عاملا حاسما في رسم خريطة التحالفات داخل البرلمان". وبيّن الكريطي ان "أبناء الجنوب أثبتوا خلال السنوات الماضية حضورهم الفاعل في الدفاع عن الدولة ومؤسساتها، بالإضافة إلى دعمهم المستمر للمسار الديمقراطي، واحتدام التنافس السياسي في مدن الجنوب يأتي بشكل طبيعي ومتوقع، لأن القوى السياسية تدرك حجم التأثير الشعبي لتلك المحافظات، وقدرتها على تغيير نتائج الانتخابات وتوجيه بوصلة القرار الوطني".
الإطار التنسيقي ومحافظت الجنوب
وأضاف الكريطي أن "الإطار التنسيقي يضع المحافظات الجنوبية ضمن أولوياته الانتخابية، عبر برامج تنموية وخدمية تتناسب مع حجم التضحيات والاحتياجات التي تشهدها هذه المحافظات، وسيعمل الإطار على تمثيل تطلعات المواطنين فيها بأعلى درجات المسؤولية الوطنية، كما ان المرحلة القادمة تتطلب وحدة الموقف بين القوى الوطنية، وتغليب المصلحة العامة لضمان نجاح العملية الانتخابية وتحقيق الاستقرار السياسي في البلاد".
ويعد الجنوب العراقي من أهم مناطق التأثير السياسي والاجتماعي في البلاد، لما يتمتع به من كثافة سكانية وثروات اقتصادية، إضافة إلى ثقل عشائري وديني كبير. ويوجد في جنوب العراق أكثر من 60 قائمة وتحالفاً انتخابياً في المحافظات التسع البصرة، وكربلاء، والنجف، والقادسية، والمثنى، وواسط، وبابل، وميسان، وذي قار، أبرزها: ائتلاف دولة القانون، منظمة بدر، حركة عصائب أهل الحق، تحالف تصميم، حزب الفضيلة، تيار الحكمة، وغيرها العشرات من الأحزاب والكتل السياسية والتي بعضها أحزاب رديفة للأحزاب المتنفذة. ووفق نظام الدوائر الانتخابية الحالي، يبلغ عدد مقاعد محافظات الجنوب في مجلس النواب العراقي 110 مقاعد، من أصل 329 مقعداً برلمانياً، ولهذا فإن الجنوب العراقي يمثل الثقل الانتخابي الأكبر للأحزاب الشيعية، حيث تتنافس قوى سياسية متعددة ضمن تحالفات متغيرة على 110 مقاعد من أصل إجمالي مقاعد البرلمان، فيما تبرز البصرة وذي قار كساحات رئيسية للمنافسة بوصفهما الأكثر كثافة سكانية.

704 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع