طريق إلى الحرية ... هاينز كونزاليك / الجزئين السابع والثامن

     

    طريق إلى الحرية / الجزئين السابع والثامن


            رواية هاينز كونزاليك

   

   

            
                  الجزء السابع

وصل باولو الجيرا إلى المعسكر الرئيسي في الصباح الباكر، كان الجميع بعد نيام، فقط الماخور كان يعمل، ففي المعسكر الرئيسي يدور العمل في ورديات على مدار الساعة. وإلى جانب الغرف الأربعة التي كانت باصات فيما مضى، حولت إلى غرف، وكان هناك ثمة ما يشبه الكوخ هو عبارة عن مشرب فيه بار، حيث كان ينتظر هناك رواد الماخور إلى أن يأتي دورهم، كما وأيضاً يعرج على البار الرجال الذين أنهوا متعتهم في الماخور، وينفقون هنا آخر كيروسيروس ظلت في جيوبهم، وكلها تدور بشكل جميل لتعود إلى جيب السيد بولو. ولكن لا أحد يتحدث عن ذلك، فهو أمر بديهي، فالمرء ينال شيئاً مقابل نقوده، نساء بدينات عاريات، مشروب عرق جيد، بيرة باردة، خبز لقاء مستند، ماذا يريد المرء أكثر منى ذلك.
يومان عطلة يبتعد فيها المرء عن شقاء العمل في المقدمة ... في الغابة يومان عطلة بدون فؤوس أو مناشير، يستطيع فقط أن يفهمها من يعمل عشرة ساعات أو أكثر، يقطع فيها أشجار الغابة العملاقة، يضرب هنا وهناك، في متسلقات ليانن والأفاعي وأسراب البعوض والهواء المتعفن الرطب، يفهم لماذا ينفق الرجال الذين يسكبون العرق المر في يومين مليئة بالنساء والسكر .. لماذا يعيش المرء إذن ؟ أيعلم المرء ماذا كان الأمس ؟ الموت يحدث في جميع الأيام، إذن على المرء أن يعيش ما في وسعه أن يقف على ساقيه.
سيد باولو ..؟ أفرغ قاذوراتك على سيد بولو ! فقد حصلت أنت على العاهرة رقم 19، وخلال ثلاث ساعات ستكون في الغرفة (الباص) في سرير ناعم وأنثى عارية تدلل حضرتك، خذ قدح آخر من العرق يا صديقي ..؟
مضى الجيرا على الفور إلى مسكن العاملات في المطعم، وكان يعرف غرفة آليا بدقة، الشباك الرابع إلى اليسار في البراكة، كانت الشبابيك مغلقة .. آه إنها فتاة طيبة.
أوقف الجيرا سيارة الجيب قرب المدخل، قرع على النافذة وعلى الباب، لم تبد أي حركة في الغرفة، يبدو أنها مستغرقة في نوم عميق، كان الجيرا يسبح في تصوراته، أنها إمرأة طيبة يمكن الاعتماد عليها وستعرف كيف تدافع عن نفسها، ولن تدع ذلك الخنزير يربح رهانه، وإنها سوف تركله على بطنه إن أقترب منها.
لقد وفر إلى حد الآن ألفاً ومئتين وتسعة وأربعون كيروسيروس في بنك مدينة كيرس، إنها المرة الأولى في حياتي يكون لي فيها رصيد في البنك، أعترف أن ألف كيروتسيروس ليس كثيراً، وبها لا يستطيع المرء أن يستولي على العالم، ولكنها البداية، وفي كل أسبوع تضاف عليها كيروتسيروسات أخرى، إنني أدخر منها قطعة فقطعة، وفي ذلك ألاقي مشقة حقيقية، ولكن إذا وصلنا إلى ريوارغوايا، آنذاك سيكون لدينا ما يكفي من المال لشراء قطعة الأرض، أرض زراعية للمراعي وسنربي الأبقار، أبقار سمينة جميلة .. انتبهي آليا .. حبيبتي .. أنا حبيبك باولو.
ظل يقرع على الباب، ويقرع حتى سمع صوت آليا من الداخل.
" دعني وحالي " صرخت، وكانت تقف بالقرب من الشباك، وقد قطع صوتها بصوت نحيب " هيا أخرج، يا بهيمة، ألم تحصل على ما فيه الكفاية لم يعد بوسعي المزيد، لم يعد بوسعي المزيد، سأموت من الشقاء، أخرج أيها الخنزير ".
سحب باولو رأسه وظلت قبضته التي كان يقرع بها الباب معلقة في الهواء، كما لو أنها تحجرت فجأة، ثم أخفض رأسه إلى الأمام، التصق بجدار البراكة، وكان قفصه الصدري يزفر بصوت له معناه.
" هيا أغرب عن وجهي " سمع صوت آليا يلعلع " لقد حصلت على ما تريد أيها القذر ".
" مكث الجيرا فترة غير قصيرة إزاء جدار البراكة ملصقاً جبهته بالجدار مباشرة، مغلقاً عينيه، وبدا له كما لو أن دورة الوقت تعود إلى الوراء، تذكر زوجته الأولى، والرجل الذي أحتز رأسه،  المحاكمة، السجن .. وهذا كله لم يكن قد حدث بعد الآن، كان ما يزال واقفاً هناك، ويحدث نفسه: يجب أن أفعلها ! يا للعنة بولو، يجب أن تفعلها، لا يوجد سبيل آخر، لقد وضع زوجتك تحته وشملك بالعار، وليس هي وحدها، إنها ملكك، حياتك، حبك، قلبك، يجب أن تفعلها ...
أبتعد عن الجدار الخشبي للبراكة، ودار حولها ومضى ببطء صوب إدارة العمل، والباب لم يكن مغلقاً وبالإمكان دخول البناية ولم يكن هناك أحد يمنعه، سار على طول الممر يقرأ الأسماء المدونة على الأبواب.
لويس جيزوس أريراس، بطاقة كارتونية مكتوب عليها بخط أخضر سميك، وخلف هذا الباب يرقد الرجل الذي أرتمي بجسده على آليا ... آليا ...
ضغط باولو الجيرا على أكرة الباب، لم يكن الباب مقفلاً، قد يكون المرء متهوراً يا صديقي عندما يرغم فتاة مثل آليا على الرقود في فراشه، بل عليه أن يتوارى خلف قضبان حديدية، أو أن يحتمي بأبواب فولاذية، وجدران سميكة، أما ترك الباب مفتوحاً، فهذه مخاطرة بحياته: لويس جيزوس أريراس.
دخل الجيرا الغرفة المظلمة وسمع شخير أريراس، واتجه صوب الصوت. وعندما وقف أمام السرير وأنحنى إلى الأمام، جمد النائم لفترة طويلة، ثم أفرد يده الهائلة، إنك نائم مثل خنزير شبعان، فكر في نفسه وآليا تعاني الموت ..
وبدفعة واحدة، هاجم وضرب بيده على رقبة أريراس ورفعه من الوسادة إلى الأعلى، فأطلق أريراس صرخة وحشية وراح يضرب بقبضته في الهواء، ولكن ماذا ينفع ذلك حيال عملاق مثل الجيرا ؟ ثم تخبط في سريره، وأرتطم رأسه بالجدار، وجحظت عيناه في محجرهما وبان لسانه من فمه سميكاً.
أخذ الجيرا يهزه وألصق الجسد على الشباك وراقب في ضوء الغسق الجثة ترتجف بين يديه، وقد عرف الآن أن لويس جيزوس أريراس من الذي يمسك به من عنقه، وضرب بآخر ما لديه من قوى، وأرخى الجيرا من شدة قبضته.
" إنك تريد أن تقول شيئاً بعد ؟ " سأل بصوت وكأنه نائم مغناطيسياً.
" هل أنت مجنون ؟ " قال بصوت متحشرج " بكل المقدسات دعني وشأني ".
" ماذا فعلت مع آليا " سأل بصوته الفضيع الذي بدا لا لحن له " أريد أن أسمع منك ما فعلت الآن ".
" لم أفعل شيئاً ! " صاح بجزع، وقد بدا له بوضوح أنه ماض إلى الموت، إذ كان يعرف ملف الجيرا العقابي، وقد أدرك أنه لا ينتظر منه رحمة ".
" إنك قد راهنت عليها ... ".
" هذا لم يكن إلا على سبيل المزاح فقط، كنا نثرثر، وأنت تعلم كيف تجري مثل هذه الأشياء، يقول المرء أي شيئ، أنا أعلم أنت وآليا ..."
" إذن فأنت ربحت الرهان "..
" كلا " ولولول أريراس، فيما شدد الجيرا من قبضته على عنقه مرة أخرى " إنك لا تستطيع أن تتهمني بذلك ".
" هي قالت ذلك، إنها في الرمق الأخير وقد أخبرتني بنفسها بذلك، لا تستطيع أكثر إنها على وشك الموت ".
" لم أكن أنا يا باولو، اقسم لك على ذلك، لم أكن أنا، أسمعني جيداً ".
أخذ الجيرا يأرجح أريراس مثل لعبة ممزقة، يسيل اللعاب من فمه، وكان بإمكان المرء أن يشم أنه عملها في سرواله، فقد كان الخوف يملؤه.
" لم أستطع أن أمنع ذلك " صرخ أريراس " لأجل السيدة العذراء أرجوك أن تصدقني ".
" من هو إذن..؟ " سأل الجيرا بصوت مرعب.
صمت اريراس، ثم أدار عينيه فيما اشتدت قبضة الجيرا.
" من هو ".
" أخذ أريراس نفساً عميقاً إذ أرخى الجيرا من قبضته القوية لثوان، كانت رئتاه تصفران وكأنهما يتمزقان.
" بولو " زفر أريراس ألماً " هو الذي كان، ونحن لسنا سوى ماكنة قذرة حياله، إنه هو الذي شاهد آليا وأرادها، ومن ذا الذي يستطيع منعه، إنه يمتلك السلطة باولو".
فكر اريراس، فيما لو صرخ الآن طالباً المساعدة والنجدة، ولكنه سرعان ما تخلى عن هذه الفكرة، فأصابع الجيرا القوية ستخنقه فوراً هذه الصرخة.
" وأين السيد بولو " سأل الجيرا.
" لقد سافر عائداً قبل ثلاث ساعات تقريباً، لقد جاء إلى هنا بطائرة مروحية، لكي يعلم ويستطلع، ثم طلب الكونياك، وآليا بالذات قدمت له الخدمة، ماذا كان بوسعي أن أفعل باولو ؟ إنه الرئيس هنا وبدونه نحن ديدان في الطين " تضايقت أنفاس أريراس إذ شدد الجيرا من قبضته مرة أخرى على رقبته " كن عاقلاً باولو، ماذا تريد أن تفعل ".
" هذا " قال الجيرا بهدوء.
كانت ضربة ذات وقع، عندما أرتطم رأس أريراس بالجدار، ليس أكثر من ضربة قوية واحدة، تهشمت الجمجمة وسال الدماغ إلى الخارج، لقد تهشم رأس أريراس مثل كرة زجاجية، وعندما فتح الجيرا يديه، سقط الجسد على الأرض، كان يبدو وكأنه قد مات منذ فترة طويلة. مات اريراس في ثانية واحدة دون ألم، وعندما لطم الجيرا رأسه على جدار الغرفة، أنتهي على الفور.
هكذا إذن آليا .... مسح الجيرا يديه بسرواله، وهكذا يوفر المرء على نفسه ألف ومئتين وتسعة وأربعين كروتسيروس، وينبغي أن أقتل. هكذا يتحول حلم المرء ببيت خاص به له حديقة، قطعة أرض زراعية صغيرة وأبقار تدر حليباً ولحوم وأطفال وحياة سعيدة، ثم يأتي رجل ذو نفوذ، رجب بوسعه أن يأخذ كل شيئ وحتى زوجة رجل شيطان، وأن يحيل العالم الجميل إلى دار جثث.
ماذا يمكن أن ينتج عنا ومنا ؟ إنهم سوف يطاردونني مرة أخرى، ثم يصطادونني كحيوان، وسيدسونني هذه المرة في السجن وإلى الأبد، وسوف أذوي خلف الجدران السميكة، وكل السجناء من زملائي سوف يسخرون مني ويقولون: أنظروا .. هذا هو باولو الجيرا، باولو الضخم، اقتنى زوجتين وفي كلتا المرتين يأتي أحدهم ويأخذ منه زوجته، وفي كلتا المرتين يقتل الرجل. يا له من غبي، هل تستحق النساء هذه أن يمنحهن الرجل هذه القيمة ؟.
سأقول للجميع: نعم ..! إنهن يستحقن هذه القيمة، وأنتم لا تعرفون آليا .. آليا كانت ملاك، ومن أجل ملاك ينبغي على المرء أن يفعل كل شيئ.
أخذ يتلمس في ظلام الغرفة، أرقد أريراس الميت في السرير وغطاه وغادر الغرفة.
لم يراه أحد في محيط إدارة المشروع حيث كان الجميع نائمون، ولن يستيقظوا قبل ساعتين. ولربما حوالي الظهر حتى شعروا بغياب أريراس وبدأوا البحث عنه، ترى أين كان قد سكر حيث يستغرق عادة بعدها بالنوم، ولكنه كان يفيق حوالي الظهيرة، ويقف على قدميه كي لا تضيع منه وجبة الغداء.
مضى الجيرا صوب الماخور، وفي البار كان يجلس أربعة رجال وكانوا يتبادلون نكات بذيئة، وكانوا آخر الخارجين من بيت الدعارة، حتى العاهرات يرغبن في البقاء لوحدهن في السرير، بدأ الصباح يغشى، إنها أنفاس كسولة وحلوة، هنا الحياة الفاخرة تنمو في العفن.
" قدح ويسكي " قال الجيرا وجلس على أحد الكراسي العالية للبار، وتطلع الرجل خلف البار متعباً.
"  هل أنت مليونير ؟ " سأله الرجل.
" نعم ".
" أتعلم كم يكلف كأس الويسكي اليوم ؟ ".
" لا عليك، صب لي يا صديقي ".
" بثمن كأسين من الويسكي بوسعك أن تحتفل ساعة كاملة عند فراليتا ".
" لا أريد عاهرة .. أريد ويسكي ! " قال الجيرا بصوت عال  " والدفع مقدماً " الجيرا دفع سعراً جنونياً، وحصل على الويسكي. المشروبات الأخرى، لا سيما العرق كان رخيصاً وهي تقطر في مصانع تعود للسيد بولو أيضاً .
كل شيئ لبولو، بولو في كل مكان، والآن حتى في جوف آليا، لماذا ... أوه يا إلهي في السماء، إنك خالق كل الأشياء، لماذا خلقت شخصاً مثل بولو.
قبل أن يحين الاستيقاظ العام، قرع أحدهم ساعة مربوطة بصحن ذات عصا طويلة، ثم ركب الجيرا مرة أخرى سيارة الجيب وعاد إلى المعسكر الخارجي، فقد ترك الوقت يمضي لذلك قاد السيارة ببطء، على المرء أن يتذوق الساعات الأخيرة جيداً، عليه أن يعيشها كأمير، أن يلتهم الأشياء الجميلة في الحياة، حتى يعض عليها قطعة فقطعة، هل حدث لك أن عشت في زنزانة ذات جدران رمادية يا صديقي ؟ ذات شبابيك مغطاة بشبكة من القضبان حتى نهاية الحياة، ولا يتمتع سوى بالقليل من أشعة الشمس ! .
ولبضعة مرات توقف الجيرا، أستنشق فيها نسيم الغابة الصباحي، ألقى التحية على الشمس بغمزة، وقطف الزهور ووضعها في قميصه، وأخذ يراقب عصافير الجنة بريشها المضيئ تمرق في الصباح، وينصت لثرثرة الببغاوات.
وفي منتصف الطريق تقريباً بين المعسكر الرئيسي والمعسكر الخارجي، التقى باولو الجيرا مع كارل جبهارت. وباولو هو من رآه أولاً ووقف بجانب سيارة الجيب، عندما توقف جبهارت أمامه.
وهذا أيضاً ليس تعبيراً عن طيبتك يا إلهي، فكر باولو في نفسه، ورمق بنظرة سريعة إلى السماء الصباحية المتداخلة الألوان، أكان ضرورياً أن يأتي السيد كارلوس وليس غيره الآن ؟ لماذا تعاقبني الأقدار هكذا ..؟
" يا للشيطان " صرخ جبهارت وقفز من سيارة اللاندروفر " إنني أبحث عنك باولو، أين كنت عند آليا ؟ الم يكن بوسعك أن تأتي عندي وتطلب مني إجازة ؟ ثم تأخذ معك سيارة جيب هكذا ببساطة ؟ ".
ها هو هنا، هكذا فكر جبهارت ببساطة، إن شعوري خدعني هذه المرة، لم يحدث شيئ، إنه لم يفعل شيئاً سوى أنه قد ذهب لمشاهدة خطيبته آليا كما خمن بانديرا.
" سأشطب لك الساعات، ولكنك ستنال غرامة كعقوبة لصالح خزانة المشروع ".
قال جبهارت " وعدا ذلك، فإنك سوف تقضي أربعة أسابيع بدون إجازة، فإذا فعل كل فرد هنا هكذا، عندما يشعر بالرغبة لزيارة زوجته، آنذاك سألاقي حتفي وحدي في الغابة ".
هز الجيرا رأسه " أفعل لي ما تشاء سيد كارلوس " قالها وغطس رأسه في صدره.
" ما هذا الهراء " تقدم جبهارت إلى الأمام فيما وقف الجيرا مستنداً إلى سيارة الجيب، تطلع إليه جبهارت مستغرباً، ثم شاهد البقع على سرواله فأخذ يهز رأسه .
" إنك لن تتعلم، إنك في وسط الطريق لتصبح رجلاً حراً " قال جبهارت وأردف " أيذهب المرء هكذا إلى عروسه بملابس قذرة، أليس لديك سروال آخر ؟ ".
نظر الجيرا إلى نصفه الأسفل " كلا " قال بهدوء " لقد وفرت كل كروسيروس من أجل آليا، لست بحاجة إلى سروال جديد، وهذا السروال جديد بما يكفي ".
" إذن أغسله على الأقل قبل أن تشاهدك عروسك ".
وأراد جبهارت أن يمضي نحو سيارته ليقفل عائداً، ولكنه فجأة أدرك أمراً، أن سروال الجيرا ملطخ بالأحمر " ترى ما هي هذه البقع ؟ ".
" مخ " قال الجيرا بنعومة " إنه مخ اريراس، لماذا يجب أن أغسله، أنا لا أريد أن أهرب من الأمر ".
ما قاله الجيرا كان له وقع هائل، وبعد هنيهة صمت فضيعة، لم ينبس أحدهما بحرف واحد، سأل جبهارت بعدها بصوت مبحوح " وهل قتلته ؟ ".
" لم يكن بالامكان شيئ آخر ".
" هذا قتل ! " وصرخ جبهارت " باولو أن تقتل للمرة الثانية إنساناً، إنهم سوف يشنقوك ! ".
" ليس بعد " قالها الجيرا وصعد إلى سيارة الجيب القذرة، وجلس على المقعد الأول، كان صوت آليا ما يزال يدوي في أذنه، صوت يوحي بالتحطم والانهيار، صوت يائس بقولها : لا أستطيع أكثر من ذلك .. ألم تأخذ كفايتك ..؟ لا أستطيع أكثر من ذلك. إنه سوف لن ينسى هذا الصوت، وإذا ألقوه في السجن طيلة عمره فإن هذا الصوت سيبقى ناراً لا يخمد في أذنيه .
" ليس بعد " كرر ذلك " لا يعلم أحد بما جرى، ولم يراني أحد، أنت الوحيد من يعرف ذلك، أنت سيد كارلوس .. أنت فقط ".
ران صمت، سكون رهيب بين الرجلين كل واحد في يده قدر الآخر.
" وأنت تفترض أنني سألتزم الصمت ؟ " قال جبهارت " أن أعلم عن قضية قتل، وأترك القاتل يتجول حراً ..! ".
" إنني لم أقم سوى بقذف رأس أريراس على الجدار، وهو لديه رأس حساس جداً " قالها وأستند إلى مقود السيارة " وماذا الآن يا سيد كارلوس ؟ ".
" أنت تعرفني أيضاً، وبالمناسبة إنك الآن حقاً في تدريب ".
" ولماذا ينبغي على ذلك ".
" حتى لا أبلغ عليك عند النقيب بانديرا. هل انتظرت مني شيئاً آخر ؟ ".
" كلا، أنك رجل مستقيم سيد كارلوس، لقد كنت عادلاً تجاهنا ".
" هل هذه سمعتي لديكم ؟ " قال جبهارت بتأثر، قالها وقد غرق في التأمل، كما لو أن الجيرا سوف يقتله، إنه لا يمتلك سلاحاً الآن، ولكنه ربما يحمل شيئاً منها في جيبه. ولكن الجيرا أقوى بما يكفي لكي يقتله بضربة قوية بدون سلاح، بذراعه القوية المؤلفة من كتلة من العضلات، كانت مواجهته أمراً لا طائل منه، ولم يكن جبهارت ليحمل معه مسدساً قط، لذلك لم يكن بوسعه سوى الانتظار عما سيقرره الجيرا.
" أمنحني أسبوعاً آخر سيد كارلوس" رجاه الجيرا " ثم أقدم نفسي طائعاً للشرطة ".
" ماذا سيحدث في هذا الأسبوع باولو ؟ إنني أعرفك جيداً، وأريراس لم يكن سوى البداية، لقد ضربته بسبب آليا، أيها الغبي، ولا أنتظر منك إيضاحات أخرى، من هم على قائمتك ؟ هل تريد أن تقتل كل من ربت على مؤخرة آليا، لاحظ إنها تعمل في مطعم عمال، وهناك يرتاد المكان رجال ليسو بقديسون، وإذا كنت لا تحتمل ذلك أخرجها من هناك ودسها في دير للراهبات لتعمل هناك ".
" هذا الآن متأخر " رد الجيرا ورمق الغابة، كانت شمس الصباح تبرق كالذهب بين أوراق الأشجار التي تبدو كسقف عال لكاتدرائية.
" صحيح " قال جبهارت بصوت هادئ " إنه متأخر جداً يا باولو، إنه لحظ سيئ إذ قمت بالبحث عنك، وأن نتقابل هنا، قبل ساعتين من الآن وأنت كنت في المعسكر الخارجي من جديد، وموت أريراس كان سيكون ويبقى لغزاً ".
" لنفترض إنني ما زلت في المخيم " كانت عينا الجيرا تمنح صفة كلبية، وكانت تتوسل، هو جبهارت رأسه .
" لا تساومني في القتل باولو، هيا قد سيارتك ".
ومضى ببطء إلى سيارته وهو يحدث نفسه، إن بوسعه قتلي الآن، فقد أوليته ظهري، هذه الأفكار كانت تتصاعد لديه، كان مجهولاً لديه بصورة تامة، لا خوف، لا أحد يطالب أن يفر من ذلك، ولكن فقط انتظار وتوتر، كتلك التي تحدث في لعب البوكر، قبل أن يكشف المرء أوراقه على الطاولة.
ظل جبهارت واقفاً بالقرب من سيارته، وألتفت، وفي نفس اللحظة أدار الجيرا محرك سيارة الجيب، وقاد السيارة ماراً من أمام جبهارت، دون أن يتطلع إليه.
" والآن " قال جبهارت، فهو لم يكن ينتظر من الجيرا شيئاً آخر.

  

الجزء الثامن
في المخيم، سار جبهارت فوراً إلى النقيب بانديرا، وكان ضابط الشرطة جالساً على كرسي أمام المستوصف يطبع تقريراً على آلة كاتبة متنقلة، فيما كان الدكتور سانتالوس ونورينا يفحصان الوردية التي أنهت عملها. وفي غرفة الفحص، كان المصنفين العمال يسرعون قبل إجراء الفحص عليهم.
" هل سيفرح بيرابورت عندما سيعود " قال بانديرا بأسف، لقد سجل الدكتور سانتالوس نصف الوردية كمرضى، وهو يدعي أن البرازيل لا تستطيع أن تحصل على نقود من حطام سفينة، ترى هل هناك إضرابات في برازيليا وكيرس ! حتى أنت عليك أن تعدل خططك سيد كارلوس، فأنت لديك بالكاد ستون بالمئة تقريباً من قوة العمل، المستخدمة في العمل فعلاً ".
" ستحدث ما يكفي من الاضطرابات، أيها النقيب " قالها جبهارت ورمى ببصره إلى ما وراء الساحة، كان الجيرا قد أعاد سيارة الجيب وأوقفها في مكانها في الصف، وهو الآن في مناقشة انفعالية مع مدير مرآب السيارات، حيث يطالبه بثمن البنزين " لقد عثرت على باولو في الطريق، وكان قادماً من المعسكر الرئيسي، حيث قتل أريراس هناك ".
: وبدا على بانديرا وكأنه لم يفاجأ بهذا الإبلاغ، هز رأسه ودفع الآلة الكاتبة وقال.
" أعلم هذا ".
" أتعلم ذلك ؟ ".
" منذ أن بدأت البحث عن ولدك المفقود الجيرا " قال بانديرا.
" وأنت لم تقل لي ... لقد سألتك بالتأكيد ".
" لقد سألت فيما إذا كنت قد حصلت على أخبار خاصة، ومن ذلك استخلصت الحقيقة ".
قالها بانديرا ومد يده وأخرج من جيبه العلوي أثنين من أنواع السيكار الطويل، قدم واحدة إلى جبهارت الذي تناول السيكار، بينما كان بانديرا يبتسم ابتسامة غامضة.
" لقد كان قتلاً " قال جبهارت وبدا صوته بدون رنين" نعم حادثة قتل أيها النقيب ".
" انك متعلق كثيراً بهذه الكلمة سيد كارلوس ".
" وهل هناك غير ذلك، عندما يحطم رجلاً رأس إنسان على الجدار ".
" إنها أسوء حادثة قضاء وقدر، ولكن الأمر لم يكن حتى كذلك، إن العناصر التابعة لي في المعسكر الرئيسي يقولون أنهم أحالوا حادثة اريراس إلى العاصمة برازيليا كقضية لا حل لها ".
" بانديرا ... " قال جبهارت وهو يمد الكلمات.
" والآن أسمعني رجاء، يا ملاك الحقيقة الألماني، قلت لك بوضوح، أي وضع عصيب نعيش نجن هنا ! إننا هنا في وضع استثنائي اجتماعياً وسياسياً وإنسانياً، ولهذا الطريق، يجب أن توضع التخطيطات ولا يجوز السهو في أي كيلومتر، بل تحقيق نظام جديد في هذا الطريق المتعفن ".
" يا للعنة، هذا ما أسمعه في كل مكان، حتى نورينا تغني هذه الأغنية الألمانية البطولية، ولكن لماذا بالذات في هذا الطريق ".
" في مكان ما، يجب أن يبدأ المرء، أنت مغفل، وأين إن لم يكن هنا ؟ في ريو ؟ في برازيليا ؟ في ساوباولو ؟ هناك البشر ليسو جياع، هناك يحكم الرأسمال الكبير، التجديد يجب أن يأتي من الخارج إلى المدن على العكس تماماً من الثورات الكلاسيكية ".
" وما علاقة هذا كله بقتل اريراس ".
" إنه لم يكن قتلاً " قال بانديرا بهدوء " إنها كانت إشارة، وإنها للأسف إشارة فيزيائية وليس غير ذلك، كما لو أنها إشارة بإطلاق النار، انفجرت وخمدت ".
" هذا رهيب" قال جبهارت بذهول " إنك تصنع من الجيرا بطلاً ً ".
" متى تكف أخيراً من استخدامك الدائم للكلمات الكبيرة ...! بطل ". نفض بانديرا الرماد الأبيض من سيكاره الأسود الطويل وأضاف " فهذا سوف لن يصنع منه أي شيئ، فهذا يسمى إجراءات الحروب الصامتة وهي واحدة من خصائص هذا البلد ".
نهض بانديرا من كرسيه مؤكداً على جدية كلماته وأضاف " سيد كارلوس، إنني أريد أن أحذرك من إرسال بلاغات أو إشارات إلى كيرس، وإنه لعمل متأخر، فالبركان على وشك الانفجار " قالها ونظر إلى الساعة وأضاف " هنا سيكون البدء مع بيرابورت ".
" هذا أكيد " قالها جبهارت بانفعال.
" ماذا أكيد ؟ ".
" أنت هو الرأس، لقد أدركت ذلك منذ أن ظهرت هنا، ويسجل على حسابك أيضاً حوادث الأيام الأخيرة بانديرا، دعني أسافر مع نورينا قبل أن يندلع الجحيم هنا ".
" بكل سرور " قالها بانديرا وأشار إلى المستوصف.
كانت نورينا سامازينا جالسة أمام الصور الشعاعية الصادرة عن جهاز الأشعة، وتمعن النظر فيها عبر جهاز وصندوق الإنارة، وعندما تشاهد علامات السل على الأشعة، تضع إشارة صليب حمراء على الصورة.
" أذهب إلى الداخل وأسأل نورينا يا سيد كارلوس، لماذا لا تريد أن تفهم بأننا أيضاً لنا الحق في أن نحب بلادنا ".
لم يشأ جبهارت أن يتكلم مع نورينا، وهو لم يكن في وضع ليفعل ذلك، حيث كانت أفكار وتأملات تتناهبه وتدور في رأسه، وقبل كل شيئ، ودائماً وأبداً، السؤال الحاسم: كيف يمكنني أن أنقذ نورينا ونفسي من هذا البركان كما أسماه بانديرا ؟ هل سيقذف الجميع في الهواء مثل الرماد الخامد ؟
وفي نفس الوقت، شهدت مدينة كيرس، حيث توجد كتيبة من قوات المظليين شكلاً من هيئة أركان لإدارة الأزمة، وكان ممثل للحكومة وضابط برتبة كبيرة من هيئة الأركان العامة قد طارا من برازيليا إلى كيرس في طائرة عسكرية بعد مقتل أريراس مباشرة، وكانوا يحملون معهم تفويضات بصلاحيات واسعة، إذ كانت الحكومة على اضطراب كبير من الأنباء الواردة إليهم التي كان بيرابورت قد يواصل إرسالها إليهم باللاسلكي.
أما الشعور بين العمال فكان متفجراً، والمسألة برمتها كانت مسألة وقت، ومتى تبلغ الشرارة برميل البارود، ولكن هذا الوقت كان ينفذ بسرعة، وكان أي شخص يدرك ذلك بسهولة، وقد يرغم هذا الموقف على دخول المفاوضات، وقبل كل شيئ أمام الرأي العام الإيحاء بأن ليس من الضرورة خوض الصراعات الدموية مع العناصر الانقلابية (الثورية). وكانت البرازيل تواجه الرأي العام العالمي بصمت جليدي، بعد الأنباء التي انتشرت عن قتل الهنود في مناطق الأمازون. وكانت الأوساط السياسية الرسمية قد أحيطت علماً بذلك، هذا بالإضافة إلى الاحتجاجات التي قام بها الأسقف هيلدر كامارا الذي أظهر في صلواته وأدعيته برازيل أخرى غير تلك التي يعرفها الرأي العام من خلال كرنفالات ريو على شاطئ كوباكابانا والاستعراضات المغرية التي تقوم بها النساء الجميلات.
كان قتل الهنود يمضي بصمت، فالأمازون كانت بعيدة، بعيدة جداً عن مائدة طعام بقية العالم، وكانت أزمة البترول أهم كثيراً إذ تمس كل واحد منهم، ومن أجل بضعة قبائل كانت تعيش في العصر الحجري أستئصلت، لم تبقى سوى أعداد بسيطة، وحتى نداء الأسقف هيلدر لم يحقق نجاحاً على الرغم من التشريف الذي ينطوي عليه كأسقف محترم. نعم كل ذلك سار بصورة جيدة، والآن يتعين تجديد طلاء صورة البرازيل، والخشية من خلال حرب الأخوة التي قد تندلع وتظهر وجهها الفضيع.
كانت المحادثات بين الضباط وممثلي الحكومة قد جرت في مقر الأركان، في بيت خشبي في قاعدة تأسست بالقرب من كيرس عندما جاءت القوات الجديدة وتمركزت في الخلف، كانت هناك خارطة معلقة على الجدار للمنطقة بين كيرس وريوبرازيليا، كان الطريق الجديد مؤشراً بلون أحمر سميك كالشريان، تؤشر المعسكرات المهمة، وهناك نقطة كبيرة مؤشرة أمام المعسكر الرئيسي.
" إنه مما لا شك فيه يا سادتي " قال العقيد في الأركان العامة للمجتمعين، بينما كان يشير بعصا الإشارة إلى سير امتداد الطريق " إن حادثة القتل التي وقعت على لويس جيزروس أريراس، كان اغتيالاً سياسياً، والبلاغات الواردة إلينا من العاصمة التي وضعها النقيب بيرابورت واضحة ولا تدع لنا الخيارات، فإن ما مجموعه أربعة ألاف عامل ممن يعملون بشق الطريق يشكلون ضرباً من جيش للثورة. أما وحدة النخبة فهي تتمركز عند النقاط الأمامية للعمل، عند رتل المقدمة الذي يقطع الأشجار، والرتل الذي ينظف الطريق أمام الأعمال الأخرى. وقيادة هذه الوحدة بيد كارلوس جبهارت وهو ألماني الجنسية ".
" هذا ما كان ينقصنا بالضبط " قال قائد كتيبة المظليين بلهجة جافة " ألماني ..! أهم موجودون دائماً ".
" ويجب علي أن أخبركم " قال العقيد في الأركان العامة مبتسماً عندما أراد أن يطلب العذر والسماح " السيد جبهارت هو مدير فني (تكنيكي) ودوره في هذه الأحداث غير مباشر ".
" ولكنه ليس أعمى، هل هناك تقارير منه ؟ ".
" شكاوي بما يكفي " أبتسم ممثل الحكومة بخبث وقال " إنه رجل من هواة الكتابة".
" شكاوي ..! " اتكأ قائد الكتيبة على ظهر مقعده " بدون مؤشرات ؟ إذن فلنعده على قائمة المتعاطفين مع الثوار ".
" دعونا لا نعض بقوة على هذا الألماني الذي لا حول ولا قوة ".
مضى العقيد بعصاه المؤشرة على الخارطة " إن الأمر يدور عن شيئ واحد، عن حركة خاطفة لخنق كل حركة انتفاضة واضحة، حركة لا تدع أحداً يلاحظها وإبعاد ممثلي الرأي العام، أنتم تعلمون أنه كانت هناك مسيرة احتجاج وملصقات، لافتات، ندوات، آنذاك كان أريراس يتبجح في أنه يحول دونها، لدينا الآن مستوصف سيار أرسلناه إلى هناك " ومضى العقيد في عرضه المسهب " وقد عززنا الماخور بسبعة فتيات، وهناك خدمات أفضل في المخيم، ولكن ..."
ثم كان توقف طويل عن الحديث، ضرب بعصاه على الخارطة فأصدرت صوتاً .... تاك .. تاك ... تاك وكأنه صوت رشاش ، وأستطرد " هذه الإجراءات كانت مهدئة ليس إلا، ولم تمس الجوهر. والآن يجب أن يكون هناك شيئ آخر، والأوامر تنص: احتلال كافة المواقع الرئيسية المؤشرة بواسطة العسكريين، استخدام سلطة إصدار الأوامر من خلال الهيئة العسكرية، اعتقال كافة المحرضين، وسوف توزع عليكم حالاً قائمة بالأسماء، والعقوبات ستفرض من خلال محاكم عسكرية في المكان والموقع ".
تطلع الضباط إلى بعضهم البعض ـ في المكان والموقع ـ فقد أدرك كل واحد منهم ماذا يعني في المكان والموقع، إنه يعني محاكم طوارئ.
" تسريح الدكتور سانتالوس " ومضى العقيد قائلاً .... كانت هذه مفاجئة حقيقية، وقائد الكتيبة الذي كان قد دعا مرة سنتالوس إلى شراب، أنحنى فوق الطاولة الطويلة.
" ترى ألا يخطئون هناك في برازيليا ؟ ".
" لقد سجل الدكتور سانتالوس نصف العمال كمرضى ".
وضع ممثل الحكومة ملفاً سميكاً فوق الطاولة " إنها حيلة بارعة ولابد من الإقرار بذلك وتحت شعار المسؤولية الطبية توصل إلى إحداث الضجة في كل مشروع الطريق، وبالمناسبة، فإن النقيب بيرابورت لا يظن أن الدكتور سانتالوس، هو المسؤول الرئيسي عن الاضطرابات ".
" حتى بيرابورت يمكن أن يصاب بضربة شمس، بحق طبيب مثل سانتالوس "
" ألم يكن تشي غيفارا طبيباً ؟ " .
صمت قائد الكتيبة، فهنا حجة لا توجد عليها إجابة.
نظر العقيد إلى الساعة " مساء اليوم، الساعة الثالثة سوف يتم احتلال كافة المواقع، إنكم سوف لن تصطدموا بأي مقاومة أيها الرائد، لا توجد أسلحة لدى العمال، حتى الوحدات التي تتولى الحماية من الحيوانات الوحشية ومن الهنود. يمكن توقع حدوث احتجاجات ولكن دون استخدام السلاح، هل لديكم أسئلة أخرى يا سادتي؟ ".
بعد ساعة، قرع في وحدات المظليين في كيرس الإنذار وإجراءات الطوارئ الحربية.
******************
أنتهي عمل وردية الظهيرة، وعادوا عبوراً فوق الجسر منهكين على المصاطب أما براكة المطبخ كالحيوانات، غائري العيون بثياب مهلهلة، قمصان وسراويل قذرة وممزقة، فسقطوا على المصاطب المؤشرة عليها أماكن جلوسهم بأشيائهم الشخصية، ثم هرعوا وشكلوا طابوراً طويلاً أمام مكان توزيع الطعام، لم يكن الجيرا بينهم، ولم يعد يشاهد في أي مكان.
عاد جبهارت بعد انتهاء الوردية، وكان في مقدمة الرتل، وقد سيطر على الغيابات هناك، وقد أبلغه مراقبو العمل حوادث غير مهمة مثل حالتين أطلقوا فيها على بيرابورت كلمة (خادم مؤخرة الحكومة) وقد اعتقل بيرابورت كلا العاملان لهذا السبب بلا تردد وربطهما إلى سيارته.
ساءت الحالة بعد ذلك، كان الرجال يدمدمون، ولكن الغضب سخن بشدة.
كان جبهارت قد ذهب إلى بيرابورت لكي يروي له الحادثة، وكان الرجلان الموقوفان إلى إطار شباك السيارة الواقفة تحت الشمس في الطريق، قد جفت شفتاهما، ولم يكن بوسعهما طرد الذباب الذي يحط في محاجر العينين، وكأن غطاء أسود فوقهما، أغضب ذلك جبهارت وقال ذلك لبيرابورت الذي كان في أفضل أناقته المعهودة، يقف فوق جذع شجرة مقطوعة ويصور العمال، صور لأجهزة الأمن، صور للتعرف، يصور كأنه يسجل أرشيفه الخاص.
" هل ستقطع رأس الرجال ؟ ". سأل جبهارت بغضب.
" أي رجال ؟ " سأل بيرابورت باستغراب.
" صورك الجديدة ؟ ".
" إن مؤخرة أحدهم ساخنة " قال بيرابورت بعناية، ثم خفض آلة التصوير، هل دسست مرة مقياس الحرارة هناك، إنها كمعدل بين ستة وثلاثين إلى سبعة وثلاثين درجة، وإنني أتفترض أنك سمعت لماذا كان علي اعتقالهما، والآن لديهم درجة حرارة مؤخرة الحكومة ".
" أطلق وثاق الرجلين حالاً " أمره جبهارت، وكان صوته يرتج من الغضب.
" لا أظن أني سأفعل ذلك " قالها بيرابورت وضحك بحدة " أنت لا تعتقد طبعاً، بأني استلم الأوامر منك ! ".
" إذن، فإنني سأطلب من الحداد أن يفك قيودهما، فعندنا هنا ما يكفي من عمال الفولاذ ".
"سأعتبر هذه حركة غير ودية سيد كارلوس، ولكنك حر في إرسال برقية‏ أو بلاغ"
" إنني سوف لن أكتب بلاغات بعد، سوف أعمل فقط ".
" الألمان يتعلمون بسرعة " قالها بيرابورت ورفع آلة التصوير بسرعة البرق وألتقط صورة لجهارت " ما ينقصك بعد هو أنك بعد الساعات التعليمية لنورينا، أنك أصبحت ضمن ألبوم العائلة ".
" دع نورينا خارج اللعبة ".
" أنا لا أعطي الورقة الرابحة من يدي سيد كارلوس، أنك تبخس قدري وقيمتي، في هذا الطريق، جرى تحريض العمال بصورة منظمة وتحت سياط تحريض العمال، وعندما انتهت الأعمال الأساسية، جاءت رؤوس التمرد، أحدهم يرتدي الزي العسكري للشرطة، وآخر في معطف طبي أبيض، وآخر في هيئة ملاك له شعر أسود. كلا .. لا تستغرب أن أقول لك هذا، الأشخاص الذين أقصدهم يعلمون بدقة بأنني قد راقبتهم، وقد فات الزمن المحدد والموعد لتصفيتي، والآن سيكون مجرد اغتيال سهل لم يعد سهلاً ذا طابع وطني ".
" إنني أعجب فعلاً " رمق جبهارت بنظرة حيث كان سقوط الأشجار العملاقة يسمع كوقع البرق، فيما كانت أصوات المناشير الكهربائية وهي تنهش الخشب تسمع وكأنها النشيج " إنك تقف هنا وتصور ولا أحد يعلقك على أقرب شجرة ".
" أنت خائف " قال بيرابورت بشماتة " إنك لا تحمل السلاح ولكنك تعلم تماماً، بأن المتمردين يقفون خلفك على استعداد بأيدي عارية ضد رشاشات ..؟ وهنا ستنتهي الرغبة في الثورة ..".
" وهل يمكن الاحتفاظ بالأمر هكذا، وكم سيطول ذلك ؟ ".
" حتى ريوارغوايا، بل وأطول " قالها وقفز بيرابورت إلى الأرض من جلسته فوق جذع الشجرة.
كان يبدو أنيقاً، متصنعاً بعض الشيئ، يشبه الشاذين جنسياً، شعر جبهارت بالاشمئزاز، كان بوسعي أن أتقيأ فكر في نفسه، ولكنه في نفس الوقت أدرك تراجيدياً هذا الصنف من الرجال، الذين يأتون إلى الغابات يحلمون بمستقيل أفضل، وفي الوقت الحاضر، يحملون الأسلحة في لعب الشطرنج، وهو شكل جديد للعبودية، كان بانديرا على حق.
" هل لديك أسئلة بعد سيد كارلوس ؟ ". سأل بيرابورت.
" كلا، أريد إعلامي فقط عن مصير المعتقلين ؟ ".
" سأسجل هذا عندي؟ ".

تحت وطأة شعور بالكراهية الشديدة، استدار جبهارت ومضى في طريقه، وفي نهاية الوردية، كان بيرابورت والمعتقلان قد اختفوا، أخبر ذلك جبهارت بانديرا الذي يبدو عليه الاضطراب بوضوح.
" ليس لديه أي سلطة باعتقال أي شخص " قال بانديرا وأردف " كانت وظيفة بيرابورت المراقبة فقط، وقد بلغنا عن ذلك ".
بعد ساعة عادت سيارة الخدمة التي أرسلها بانديرا مع ثلاثة من عناصر الشرطة إلى المقدمة وذهب إلى خيمة المستوصف. ألقى الدكتور سانتالوس نظرة على السيارة وعاد إلى الخيمة وهذا ما أثار بانديرا الذي خلع باب السيارة وبدأ يزمجر، وكانت عناصر الوردية التي تناولت طعامها تواً قد بدأوا بالتدخين، فهرع صوبهم.
" بيرابورت يجب أن يكون هنا ! " صرخ بانديرا " من رأى بيرابورت ؟ إنني أضع ثلاثة ألاف كيروتسيروس  لرأسه ! ".
أسرعت سيارتان للشرطة صوب النهر وعبرت الجسر المؤقت، وبدأت تسير على أرضية الغابة، إلى حيث تعمل مجاميع قطع الأشجار، كانت الأرض تنز تحت إطارات السيارة وكأنها تهتز تحت وطأة ضربات القنابل.
حمل أربعة عمال جثتين من السيارة إلى خيمة الإسعافات، وكان الرجلان المشوهان يعملان بمعية جبهارت في مجموعة المحركات. كانت رأس الجثتان مسحوقة بفعل رصاصات في الرأس التي تحدد مسار الرصاصات إلى الأعلى، والرصاصات أطلقت على الرأس من الخلف مباشرة.
زم جبهارت أسنانه وهو ينظر إلى القتيلين.
كانا ما يزالان يحملان آثار الأصفاد على المعصمين، وحتى في موتهما كانا مشدودان لبعضهما، كرمز لوضعهما وأوضاع رفاقهما.
" نحن هنا من أجل إعداد فاتورة ناعمة "  قال د. سانتالوس بهدوء جليدي " أنت لديك قتيلان منا، إذن سأرسل أنا القتيلان منكم، تبقى مهمة واحدة مفتوحة، من سيأتي بدلاً عن أريراس ".
" سنسافر اليوم عائدين إلى كيرس " قال جبهارت، ومد يده إلى نورينا " خلال ساعة، صباحاً نحن في برازيليا، وبعد غد في ريو ".
***************************
" وبعد يوم واحد في فرانكفورت ... ".
" لا ليس هكذا....  ! " قالتها وحررت يدها منه، وكانت عيناها السوداوان تبرقان " لا نستطيع بعد الفرار، حتى أنت شخصياً لم تعد تستطيع أن تفعل ذلك ".
" أنا رجل حر يا للعنة ".
" سوف أجعلك تشاهد بنفسك كم أنت حر ".
فسحبته إلى الخيمة، ومرا بالقرب من د. سانتالوس الذي بدا عليه الإحراج، شدت على يد جبهارت وقادته إلى الغرفة الأولى المقسمة التي كان ينام فيها بيرابورت، خلال فتحة في جدار الخيمة خلف إحدى الدواليب التي تحتوي على المضادات الحيوية، على وقع الأزيز الخافت لمحرك جهاز التبريد، دخلا إلى مخزن مستحدث حيث تنتصب صناديق وأكياس وعلب كارتون وحاويات. وظلت نورينا واقفة " هل أبدأ بترتيب الغرفة ؟ " قال جبهارت ساخراً.
" لحظة " قالت نورينا، ثم سحبت بضع صناديق فارغة جانباً، حيث بدا أمامهما باب خفي في الأرض، رفعته إلى الأعلى، وهنا سمع جبهارت أصوات دق، وصوت صفير ناعم وأخرى بصوت عال من خلال الحفرة التي ظهرت أمامه في الأرض بعد رفع الغطاء.
" محطة لاسلكي ...! " قال يا للعنة لقد عملتم بسرعة وسرية تامة ".
" لقد تدربنا على هذا العمل، والهوائي في الأعلى بين الأشجار، نحن على ارتباط مع كافة المجاميع في البرازيل، كما أننا نستمع إلى المواصلات اللاسلكية للجيش أيضاً ".
نظر جبهارت إلى الحفرة، فشاهد مدخلاً خشبياً بسيطاً يقود إلى الأعماق، الغرفة كانت صغيرة، تكفي لأربعة رجال على أكثر تقدير، وتسيل قطرات من الجدران التي وضعت ألواح الصناديق كتقوية لها، بحيث يقف المرء وكعب قدمه في الماء، وفي كل مكان توجد الأجهزة اللاسلكية، واثنان من الممرضين كانا يجلسان يرتديان الأحذية المطاطية الطويلة، على مقاعد صغيرة وقد وضعوا على رؤوسهم السماعات، تطلعوا إلى جبهارت، ثم عادوا للاهتمام بآلاتهم.
" ولماذا تعرضين هذه علي " قال بلهجة الاستسلام، وكان ذلك سؤالاً يحمل إجابته في طياته " أنتم جميعاً رائعون نورينا، أنتم تبصقون وهم لديهم المدافع ".
" يا أيها الملاك الذي لا يعلم شيئاً " وسحبت رأسه إليها وقبلته في عيونه فيما كان الرجلان اللذان يعملان على أجهزة اللاسلكي غير مكترثان لما يدور حولهما " يجب أن نحب بعضنا بعضاً طالما ذلك ممكناً، إنني أشكر كل ساعة التي أقدر أن أقضيها معك، وعندما يبزغ النهار أتمنى أن يأتي الليل ".
لم تعد هناك بعد ليالي لهما ..................
كانا بالكاد قد خرجا من الغرفة تحت الأرض، وجلسا في خيمة الطبيب يسربان الشاي، قرع الهاتف، أخذ د. سانتالوس السماعة في نفس اللحظة وصل بانديرا، ودخل الخيمة وجهاز اللاسلكي الصغير في يده.
" ستيفانو ..! " زمجر بأعلى درجات الانفعال.
" إني سمعت ذلك لتوي في غرفة اللاسلكي لقد بثوا كلمة السر: كارلوس ذهب يتمشى عند الضفة ".
" ها هي واضحة تماماً " صرخ بانديرا " مباشرة من كيرس من بوابة المعسكر هناك يوجد أحد عناصر الشرطة التابعة لي ينظم السير. المظليون قد خرجوا، إجراءات الحرب ... ! " وقد شعر جبهارت بما يشبه الضربة الكهربائية " وماذا بعد .. ؟ " سأل.
" لقد تأخر الوقت جداً لتطير إلى فرانكفورت حبيبي " قبلت نورينا جبينه، وشعر بشفتيها وقد أصبحتا باردتين " أنتم لا تستطيعون ببساطة أن ..." قال بأضطراب
" نحن بالتأكيد لسنا في حرب، مظليون ضد عمال الغابات .. إنهم لا يستطيعون ببساطة .. ضد ناس عزل ".
" أريد أن أقترح عليك كارلوس " قال سانتالوس بصوت هادئ، ولكن ينطوي على شيئ من لهجة آمرة " أن تبقى في خيمة الأطباء، فقريباً سوف لن يكون هناك مكاناً آمناً، الصليب الأحمر على الجدار مهدئ نفسياً إذا ما أعتقد المرء بذلك، بانديرا، أعط إشارة الأنذار، على جميع الوجبات، جماعة المقدمة ينبغي أن تعود فوراً ".
" إنهم يبحثون عن بيرابورت ".
" إنه سيظهر في اللحظة المناسبة " أخذ سانتالوس كوب الشاي، لنورينا وأعاده فارغاً " هيا إذن ..! " قال بعدها " إن كتيبة المظليين في المقدمة في طريقها إلينا، خطأ، إنهم يبخسون قدرنا ".
في الخارج كان عويل الصفارات يسمع، إنذار الكوارث الذي كان يمارس في التمارين الشهرية، يسمع اليوم بذعر من كل صوب. كان العمال يتراكضون نحو الساحة الرئيسية، وفي مرآب السيارات أدارت كافة الآليات محركاتها من أصغر السيارات: الجيب، إلى أضخم ما موجود من الآليات، التراكتور الثقيل وآليات أخرى كتلك التي تسير على السرفة (جنزير) كالدبابات.
فتح الممرضون المستوصف السيار، وكان الرجال يحملون الصناديق وعلب الكارتون، وتبع ذلك صناديق خشبية، ومن سيارات الحمل أخرجت صناديق أخرى فرشت على الأرض.
ومن موقع الأشعة والمختبر، معدات الضماد، التصوير، التصوير: أنتباه ..! سموم ..! أدوية ..!
صناديق وصناديق .....
ولكن عندما أزيحت الأغطية، وجد شيئ آخر: بنادق، رشيشات(غدارات)، عتاد، مخزن عتاد الأسلحة، مسدسات، وكذلك أربعة رشاشات ثقيلة، ثلاثة خفيفة، ست قاذفات رمانات يدوية ومواد وعدد تفجير.
زمرة أخرى عادت الطوابير، رجال يقفون في صفوف، رجل خلف رجل، ولكنهم الآن لا يحملون عدة العمل، الآن يحصلون على أسلحة. وفي براكة المراقبين الذين كانوا يوصفون بأنهم معذبون للعمال، كانوا قد احتجزوا، ثن اقتيدوا عبر الساحة إلى سيارة حمل مغلقة (لوري).
ظهر باولو الجيرا مرة أخرى هنا، سمع  جبهارت صوته بين الجموع، على رأس مجموعته القتالية يعطي الأوامر. ثم الآليات الثقيلة والتراكتورات والرافعات والقاشطات تدب على الأرض.
ماذا كان مقابل ذلك ... كتيبة مظليين.
" الآن سوف تستيقظ البرازيل " هتفت نورينا لجبهارت، كانت عيناها تشعان بالنصر اللامع " هل تفهم ذلك يا حبيبي ".
هز جبهارت رأسه " أنا أفهم " قال بصوت منخفض " إن اليأس والخيال (الفنتازيا) توأمان ضريران ".
كان ضجيج الآليات الثقيلة التي كانت تتحرك طغت على صوته قبل أن تصل إلى نورينا.
الحياة أعطت لهم خمسة ساعات إضافية .....

للراغبين الأطلاع على الجزء السادس:

http://www.algardenia.com/qosesmenaldakera/18145-2015-08-02-21-11-06.html

أطفال الگاردينيا

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

920 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع