حظ أمحيسـن / الحلقة الأولى

                                           

                                  تأليف
                      الدكتور عبدالرزاق محمد جعفر

                استاذ جامعة بغداد والفاتح وصفاقس سابقاً

                        

 
حظ أمحيسـن!..مـسلـسل تلفزيوني بين الحقيقة والخيال من الحياة الأجتماعية في العراق في الحقبة الواقعة في منتصف الأربعينيات من القرن الماضي

الحلقة / 1
وقعت احداث هذه القصة, في الأربعينات من القرن الماضي في احدى قرى جنوب العراق, تقع على نهر الغراف,... و ادارياً تتبع  قضاء الشطرة في لواء الناصرية (محافظة ذي قار حالياً), تسكن في محيط هذه القريه العديد من العشائرالمميزة بتاريخها العريق ونفوذ  وقوة شيوخها تحت  حماية  قانون  الأقطاع المعمول به في ذلك العهد.  
بطل هذه القصة يدعى محسن سرحان, واسم الدلع في صغره "أمحيسن", وهو الأبن الأصغرلشيخ القريه.  
توفيت ام أمحيسن وهو لايزال في الخامسة من عمره, وله اختان اكبر منه سناً, ولذا تزوج الشيخ والده عدة نساء, حيث ان الشرع والعرف قد سمحا له بتعدد الزوجات !
الجو في تلك المنطقة بارد شتاء وقائظ صيفا الى درجة لا تطاق, ..اضافة الى الرطوبة العالية(يطلق عليها محلياً أسم"وغره"), بسبب ما يحيط بالقرية من مستنقعات واهوار وبرك المياه الواسعة كبيئة ملائمه لمعيشة الجاموس التي يصنع من لبنها الكيمر(القشطه), الذي اشتهرت به منطقة الأهوار وبالخصوص كيمرالشطرة !
اما السكان, فجلهم فلاحون اسمرت وجوههم لتعرضهم للفح الشمس الحارقة,وعلى النقيض من ذلك,يلاحظ وجود شبان اصحاء اجسام معافاة وممشوقة ولهم اطراف صلبة كأنها مصنوعة من الفولاذ, كما يشاهد فتيات لهنً وجوه مشرقة ومستديرة كالبدر, وابتسامات تكشف عن اسنان بيضاء كالثلج, وعيون براقه تسلب مهجة الناظر لها, وينطبق عليها وصف الشاعر جرير:                                                        
ان العيون التي في طرفها حور      قتلننا ولم يحيين قتلانا

  
ترعرع امحيسن بين اناس طيبون سذج وبسطاء, وكان مميزاً عن كافة اشقائه, لأنه آخر العنقود, وفيه بوادر نبوغة تلفت الأنظار,ألا ان فقدان امه المبكروزوال حنانها, جعل من حياته الجديدة اتعس مراحل عمره, حيث ترعرع في بيت كل شيئ فيه خاضع لسيطرت الشيخ وزوجاته المتغطرسات, فأصيب بالكآبة وعاش ذليلاً في جو عائلي متخلف !  
كان امحيسن في تلك الحقبة من الزمن يعاني من  الانفعال والأضطراب العاطفي وهذه من ابرزاعراض الأطفال الذين يصابون بالخجل والحساسية الفائقة وعدم القدرة على اقامة علاقات عادية مع من هم في سنهم,... وهكذا صارامحيسن لا يكترث لأي فرد من افراد العائلة, فزاد ازدرائهم له, وأدت الى ارباكه نفســياً, فأندفع فأزدادت خاصية العنف والتمرد نحو كل ما يحيط به, واراد التحدي, لواقعه, فنمت عنده ملكاته المطمورة وبرزت عبقرياته, وصار قادراً على تأدية اعقد الأمورالتي يؤديها من هم اكبر منه سناً !

                            

بلغ امحيسن الثانية عشر من عمره , وصار يتذكر اشياء عديدة حدثت في طفولته, خاصة بعد وفاة امه, الا انه يعتبر نفسه  سيئ الحظ الى درجة كبيرة , وصار اسمه فيما بعد ضربا من ضروب السخرية, نتيجة للنحس الذي لازمه,... وصار اسمه مرادفا لكل سيئ الحظ بالقول :
حظي مثل حظ امحيسن!
سببت هذه الظاهرة قلقاً وتوتراً لاعصابه, ولكن لم يصل الى حد الجنون, كما اشيع عنه بين الصبيان  واكد الأطباء الذين شخصوا حالته, بأنه صبي قوي البنيه ولديه ذهن خارق للعادة, .. واحياناً له تصرفات لا تتماشى مع الواقع مطلقاً.  
كان امحيسن ينام نوماٍ عميقاً, ويحلم بأشياء غريبة, ويتذكر الكثير منها عندما يستيقظ صباحاً, ولما  يروي الخطوط العامة لأحلامه,.. يسخر منه رفاقه, لذا قررعدم سرد اي حلم يراه مستقبلاً.
على رفاقه العاباً لم يألفوها من قبل, فأرعبت الكبار قبل الصغار! لذا صار اهل القرية يعتقدون بوجود (جني امعشعش), في جسده او دماغه ! تعرف امحيسن في مرحلة الدراسة المتوسطة على صبية تكبره
 بعامين اسمها "جميله" وهي ابنة عريف متقاعد,والفراش حاليا في مدرسة القرية الأبتدائية,.. وقد استمرت علاقتهما طيلة سنوات الدراسة المتوسطة معاً , لعدم وجود مدرسة خاصة للبنات في تلك القرية, و كانت جميلة متحرره مقارنة مع بنات جيلها في القرية انذاك .  
كان امحيسن صبي عنيد وخجول اوقل صعب المراس,..اما جميله, فقد كانت صبية  نشطة وطيبة ولطيفة ومرحة جداً,..وعلى الرغم من كل المفارقات ,..ربط الحب بينهما,  فقد تعلق امحيسن بها, واحبها حباً عذرياً لفت انظار جميع ابناء قريته .
 وصلت اخبار هذه العلاقة الى اسماع شيخ العشيرة (والده)., فوبخه ومنعه من الأختلاط بتلك الفتاة , وهًددً والدها بأبعاده عن القبيلة,.. الا ان امحيسن لم يذعن لأوامر والده, وراح يكثرمن اللعب مع زميلته جميلة في المزارع القريبة من دارها بعيداً عن عيون الرقباء.
شعرت أم جميله بتلك العلاقة فتصًدت لها وانبت امحيسن على تصرفاته مع ابنتها, وطلبت منه الأهتمام بدراسته بدلاً من اللعب والحديث عن امور هي من وحي الجن او وسوسة الشيطان, فقد طرق سمعها قدرته على تمييزالألوان بدقة وهو مغمض العينين ..
ويحرك اي شيئ من مكانه من دون اي يمسه ,ويكسر لوحاً زجاجياً بأصبع واحد من دون ان يتهشم !!
ابهرت تلك الأعمال اصدقاؤه وبالخصوص جميله, وفسرت هذه  القدرات الخفية على انها مكرمة من مكرمات الأولياء الصالحين الراقدين في قبور مميزة بأطراف القرية,... ولذا  زادت جميله من نذورها وتوسلت للأولياء,... كي يمنعوا شيخ العشيرة من تهديم علاقتها مع امحيسن وعدم اتخاذ القرار بتهجيرهم من القرية, ...لأن والدها غريب !  
ذعن امحيسن للأعراف السائدة وابتعد عن الألعاب الساذجة مع جميله, وصار مدركاً للتخلف والحالة المزرية لأبناء قبيلته, فتمرد على العادات البالية التي يمارسها اغلبية سكان القرية.

                           

في الصباح الباكر تدب الحياة في القرية , فيتوجه الفلاحون نحو مزارعهم يسوقون امامهم السعي (الأغنام والأبقار), في حين  تتوجه النساء نحو المدينه  يحملن على رؤوسهن المنتجات اللبنية لعرضها للبيع  ومن اهمها(الكيمر), وهن يسرن بشكل رتل عسكري ,وينشدن اهازيج  واغاني بأصوات خافته.
وفي كثير من الأحيان, يعترض طريقهن المعلمون وهم متوجهون الى مدرسة  القرية على دراجاتهم , ويتبادلون معهن تحية الصباح مقرونة بغزل مهذب احياناً.
كما يلاحظ اسراباً من الطلاب المتوجهون من مساكن العشائر المحيطة بالقرية, بزيهم الشعبي المزري, ومعظمهم رث الثياب وحفاة الأقدام , ...عدا القلة منهم المرتدي للزي الحديث, ومن ضمنهم امحيسن وجميلة.

   

يلتقي امحيسن صباح كل يوم مع جميله في الطريق العام عندما يتوجهان نحو مدرستهم,... ويتبادلان تحية الصباح خلسة,..وفي كثير من الأحيان تكون جميله برفقة زميلاتها , فلا يجرؤ امحيسن من الأقتراب منها ,.... فيوجه التحية لها همساً او... اشارة بالعيون, ... وقد اثرت فيه هذه المواقف العاطفية,... وصار يقرض الشعر الشعبي عندما كان في المرحلة المتوسطة, وقرأ في احد الأيام القصيدة التالية عند تأدية تحية العلم يوم الخميس ومنها:
ليش بعيونك ترد السلام     =     يصير حسادي كالولك  كلام  
 ياسلام العين ياأحلى سلام    =  هز كياني وخلً افكاري بالأوهام
ليش تنساني وتنسى ايام الغرام =  وليش بعيونك اترد السلام؟

    

لقد شاع حب امحيسن وجميله, واشتهرت اخبارهما , فغضب الشيخ (والد امحيسن),  ورفض طلب ابنه عندما ابلغه برغبته  بخطبة  جميله,.... كما ذعن والد جميله لتهديد الشيخ وراح يفكر بالهجرة الى المدينه خوفاً من بطش شيخ القرية.

حاول مدير المدرسة المتوسطة, بناءاً على اوامر شيخ القرية, وحرصاً منه على سمعة المدرسة التي ضمت ولأول مرًة عدداً من الطالبات ليدرسن جنباً الى جنب مع الأولاد .
 ان يكسر عرى العلاقة بين امحيسن وجميله بشتى الوسائل,..ولكن من دون جدوى !!  
 زاد تعند امحيسن, ولم يكترث لأحد, وصار يلتقي بجميله سراً, ولم يكلمها حتى داخل المدرسة او داخل الصف,... واخذ يتعامل معها بنفس المستوى الذي يتعامل به مع بقية الطلبة, وخصوصاً بعد ان صار حبهما مضرباً للأمثال !  
 لم يروق لجميله السلوك الجديد من امحيسن, وفي احد الأيام التقت به وجهاً لوجه, وهي بصحبة زميلاتها,... وبدا عليهن الخجل, ورحن يتهامسن فيما بينهن, الا ان جميله   لم تعراية اهمية لوجودهن بالقرب منها, وكانت اكثرهن جرأة , فتأخرت عن زميلاتها وأقتربت من امحيسن وابتسمت له, ..وهمست بأذنه تحية الصباح, وركزت نظرها فيه بألم وحرقه, فبادلها الشوق واللوعة,.. ثم افترقا لتلتحق جميله بصحبها, ..فتظهر النشوة على امحيسن وابتسم لها ولوح لها بصورة خفية لا يجيدها الا العشاق !
وبعد مسيرة متفاوته الوقت وصل الجميع الى المدرسة, وسمعوا رنين الجرس, فهرول  المتأخرون منهم خوفاً من عقوبة المعلم المراقب في ذلك اليوم والذي يلوح بالعصا نحو المتأخرين,..وبعد لحظات ينتظم جميع الطلاب كلاً حسب صًفة,.. وكالعادة لا يهتم امحيسن لتحذيرالمعلم وحثه على الأسراع والدخول الى اصطفاف الطلبه (في الطابور), الا انه لفت نظرالجميع بزيه الحديث, وهو زي مضحك لأبناء القرية في ذلك الزمن.
كرر المعلم اوامره, بضرورة الألتزام بالنظام, واوعزبأجراء الحركات الرياضية , ثم قراءة احد الأناشيد الوطنية, ..وبعد اتمام تلك المراسيم,..يتوجه الطلبة الى صفوفهم بأنتظام, الا ان امحيسن لم يترك فرصة ما الا ويلفت اليه الأنظار, ويلاحظ المعلم حركاته غير اللائقة, فيزجره, الا انه لم يرتدع ولم يبالي للنداء,..  فيثور المعلم ويمطره بوابلاً من الشتائم الخفيفة, ثم يقتاده الى مدير المدرسة, والتلاميذ في رعب مما يجري , فكيف لهذا المعلم الشجاعة التي تجعله لا يهاب ابن شيخ القرية ؟  
يدخل امحيسن الى مكتب المدير ويقف امامه وبجنبه المعلم الذي شرح ما قام به الطالب محسن سرحان من مخالفات, الا ان امحيسن لم يعِر اي اهتمام اوقل غير مكترث لأي عقوبة, .. وقد صار امام المدير امراً مألوفاً,.. وكثيراً ما كان يعاقب بالضرب بالعصا على يده, ..ولايبالي لأي نوع من انواع الردع , ويعتبر الأمر نوعاً من الشجاعه.
يعود امحيسن بعد تنفيذ اي عقاب الى صفه , ويجلس في المكان المخصص له, مرسلا نظرة خاطفة للحبيبة جميله, حيث تبادله الأبتسامه, وتعود له الطمأنينة من حب جميله له, فيهدأ قليلاً, ويجلس بكل وقار صاغياً للمعلم وهو يشرح الدرس.
كسب امحيسن من الناحية العلمية رضا كافة المعلمين, بالرغم من شقاوته مع زملائه,حيث صار متفوقاً وحصل على اعلى العلامات في كافة الدروس, ..وقد اشاع البعض مرًد ذلك لكونه ابن شيخ القرية, وخوف المعلمين من سطوة والده كما فسر البعض الآخر للمستوى المعيشي الجيد الذي نشأ وترعرع فيه,..الا ان الظاهرة المزدوجه التي تميز بها امحيسن لم يجد احداً تفسيراً لها, ولا بد لها ارتباط لم يتكهن به احد!
تميزامحيسن من اكتساب معلومات مفيدة وقيمه في كافة العلوم الأساسية, اضافة الى قيامه بأعمال مبهمة لا تخضع لأي منطق!,..
فقد ذاعت شهرته بالتنجيم حتى صار حجة في علم الفراسة, (الميتافيزقيه), وقد استعان به العديد من مثقفي القرية والمناطق المجاورة لمعرفه حظهم او قراءة ابراجهم,.. وصارت لمحيسن شخصية ابهرت كافة المعلمين الذين اشرفوا على تعليمه وجعلهم في حيرة من الأزدواجية التي ميزته عن بقية زملاؤه.
يتبع في / الحلقة 2

أطفال الگاردينيا

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

1108 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع