جواد سليم يناشدكم : نصب الحرية في خطر ... اللهم أني بلغت !

                                           

                               زيد الحلي

            
 
كادت الطفلة " خلود عبد الرحمن " ذي السبعة أعوام ان تفقد حياتها ،قبل أيام قليلة مضت ، لولا إن الله لطف بها ، وابعد عنها قطعة المرمر الكبيرة نسبيا ، من ان تسقط على رأسها الغض ، وتهشمه...

وهذا الحدث ،أصبح حديث العراقيين،لأن مكانه ، كان وسط بغداد ، بل في أشهر مكان في العاصمة .. كان تحت نصب الحرية في ساحة التحرير ، حيث كانت هذه الطفلة تمر من تحت النصب مع والدها ،

    

حين تداعت قطع من أحجار  المرمر من القاعدة الشهيرة التي تحمل نصب تماثيل الحرية التي ابتدعتها أنامل الفنان الكبير المرحوم جواد سليم ، لتسقط واحدة بعد أخرى ، ثم توقفت ، وسط ذهول المارة ، وصدمتهم ... كأن أمر تهاوي بضعة من أحجار النصب الخالد ، هو نذير شؤم ، يلحق بالعراق وأهله

           

وقادني لغط المواطنين ، وشائعات الخوف التي انتابتهم ، الى معاينة نصب الحرية عن كثب ، وبقيت أدور حول دعامتيه الأساسيتين ، والتجول ذهابا وإيابا ، تحت مساحة النصب ، وسط دهشة واندهاش ، قوة الحماية العسكرية المكلفة بالتواجد قرب نصب الحرية ، وقد دعا ذلك الاندهاش ، بأحد الأخوة المكلفين بالحماية ، الى ان يتوجه إلي ، ليطلب مني بود ولطف ، الابتعاد عن محيط نصب الحرية ،  بعد ان أطلعته بناء على طلبه على هويتي الصحفية ، لأن النصب بات يشكل تهديدا على الحياة في ضوء التصدع الذي بدأت ظواهره بالأتساع ، حيث تتساقط يوميا قطع من قاعدة النصب من مختلف جوانبه ، وربما يأتي صباح ، ونجد النصب مجرد كومة سمنت لا غير !
هل يتصور المرء ، ان العراق سيكون يوما بلا نصب الحرية ؟ لا أظن إن هذا التصور سيكون على بال احد ، فنصب الحرية ، والعراق صنوان ، احدهما صورة عن الأخرى .
مقال دون صدى !
ربما هناك من يتذكر إنني ، نبهتُ قبل سنوات إلى ما يهدد النصب ، من مخاطر جمة ، ولعل ما نشرته في العام 2008 في صحيفة " الزمان"  من معلومات موثقة عن تداعيات إهمال هذا الرمز ، الذي أصبح منذ نصف قرن ونيف،هوية لبغداد ، ما يؤكد هواجسي ..فماذا قلت قبل  خمس سنوات ؟
(شاء حظه، ان يولد في العام 1961 بولادة قيصرية، صعبة على يد جراح مبدع وطموح وأن يتنقل بين إيطاليا وفرنسا، قبل أن تحتضنه بغداد.

                             

زاره وقبلّه وهو ما يزال في المهد، رموز العراق في ذلك الوقت عبد الكريم قاسم، الجواهري ، بدر شاكر السياب، د مصطفى جواد، هاشم الخطاط البغدادي، عبد الوهاب البياتي، محمد بهجت الاثري، عمو بابا، القبانجي، نازك الملائكة وغيرهم بالعشرات.
ولم تمض، مدة وجيزة على ولادته، حتى توفى الله والده، فظل هذا الغض اليتيم يداري يتمه بالصبر الجميل، رغم الإحداث الجسام التي عاش في إتونها، والمتمثلة في الصراعات السياسية المريرة والثورات والانقلابات والمظاهرات والاحتجاجات وأيضا الأفراح والإحزان ورقصات ألجوبي ومع نموّه وكبرّه، ظل متواضعا، تواضع الكبار، واستمر يلج الليل بالنهار، غيرآبه ببرودة الشتاء وحر الصيف..ظل شاخصا، بحنو، منكبا على تسجيل تلك الأحداث بحيادية عجيبة، كاتما غيظه للمرّ منها وما أكثرها مبتهجا للمفرح فيها وما اقلها ..
أكمل أكثر من نصف قرن…كان خلالها نعّم الحارس الأمين، ولم يغمض له جفن على الإطلاق…هذا الرائع بكل شيء ظل يشكو غدر الزمان وانفضاض الأبناء والأحفاد عنه وهو الذي أعطى دون ان يفكر بالأخذ..إنه يعاني من أمراض عدة. تهدد حياته، وتنخر جسده الشامخ فيما أبناءه يتفرجون على احتضاره، دون اتخاذ  أية خطوة إسعاف او معاينة لجسده المديد الذي أتعبته السنون ونكران الجميل ..

       

إن أبن الـعقود الخمسة ونيف، المريض، هو نصب الحرية في بغداد، المهدد حاليا بالانهيار في أية لحظة، فهناك معلومات، تشير الى إن أرضية النصب أصبحت لا تقوى على حمله، نتيجة الضربات العسكرية التي طالت بغداد في 2003 وما سببته، وتسببه الشاحنات العسكرية وسرفات الدبابات الثقيلة جدا التي تجوب مقتربات النصب وشوارع منطقة الباب الشرقي في قلب بغداد وما تحدثه من ارتجاجات ضخمة، وأيضا وجود من جار على هذا النصب ممن لم يقدروا رمزيته، فغمروا أسسه بالمياه ولصقوا على أعمدته الرخامية الشعارات والصور. بل قام البعض بدهانها بألوان قوس قزح وهي ألوان، يأنفها حتى الأطفال، وأصبحت أرضيته مأوى للسُراق وقاطعي الطريق و..و) الخ ..
لكن هل انتبه من بيده الأمر من المسؤولين في مجلس الوزراء ، او أمانة بغداد ، او مؤسسات المجتمع  المدني ، التي توقعتُ ان تتخذ مواقف تتماهى مع أهمية نصب الحرية ، وليس الاكتفاء بإصدار بيانات مذيلة بتواقيع لا تسمن  او تغني  جوع .. فهل سمعتم يوما ، ان بيانا او شجبا ، ادى مفعوله في بلد يتحدث حكامه ،عن الحرية والديمقراطية ، ليل نهار ... لكنه حديث بل صدى !!
ومن أمثلة تلك البيانات ، البيان  المهم الذي وقعه 154 أديبا ومثقفا وفنانا وباحثا عراقيا  قبل سنوات ، ففي ذلك البيان الذي ذهب إدراج الرياح ، دون ان ينتبه المسؤولون الى ثقل واحترام الأسماء التي وقعته ، وناشدت من خلاله  ضرورة القيام بمساع للاهتمام وصيانة النصب قبل ان تقع كارثة ، فعند ذاك لا ينفع الندم ... اللهم ابعد هذا الشبح عن مرآي !

  

صورة عن تاريخ العراق ..
ونصب الحرية ، عبارة عن سجل مصور صاغه الفنان جواد سليم عن طريق الرموز أراد من خلالها سرد أحداث رافقت تاريخ العراق مزج خلالها بين القديم والحداثة حيث تخلل النصب الفنون والنقوش البابلية والآشورية والسومرية القديمة إضافة إلى رواية أحداث ثورة 14 تموز 1958  ودورها وأثرها على الشعب العراقي وكثير من الموضوعات التي استلهمها من قلب العراق ولعل أهم ما يجذب الشخص عندما يطالع النصب للوهلة الأولى هو الجندي الذي يكسر قضبان السجن الذي يتوسط النصب لما فيه من قوه وإصرار ونقطة تحول تنقل قصة النصب من مرحلة الاضطراب والغضب والمعاناة إلى السلام والازدهار.
النصب يحتوي على 14 قطعه من المصبوبانت  البرونزية المنفصلة وعندما نطالعه تكون الرواية قد ابتدأت من اليمين إلى اليسار كما في الكتابة العربية. وبعد أن كانت الحركة مضطربة يمين النصب، فإنها ومع التحرك نحو اليسار تنتظم وتصبح نابضة بالعزيمة والإصرار بصورة إنسان يتقدم بصوره واسعة إلى الإمام وبعدها ترتفع اللافتات والرايات الجديدة في السماء. بعد ذلك يطالعنا رمز البراءة والأمل على هيئة طفل صغير يشير إلى بداية الطريق. تطالعنا بعدها امرأة مشحونة بالانفعال والغضب والحزن، ومن ثم منظر مؤثر حيث تحتضن الام ابنها الشهيد وتبكي عليه ولعل هذا الأمر كثير الورود في التاريخ العراقي سواء كان القديم ام الحديث تليها صورة الأمومة التي تغمر الحياة الجديدة بالحب والحنان فقد تكون للثورات والمآسي ضحاياها لكنها تملك في الوقت ذاته أجيالها الجديدة لعل في ذلك التفاتة جميلة من الفنان لنبذ اليأس.
بعد ذلك يصل إلى الجزء الأوسط وهو الجزء الأهم في النصب حيث يشير إلى نقطة التحول حيث يتألف من ثلاثة تماثيل على اليمين يطالعنا تمثال السجين السياسي الذي تبدو الزنزانة فيه على وشك الانهيار تحت تأثير رجل مزقت ظهره السياط، ولكن القضبان لا تنفصل في النهاية الا بإصرار وقوة وجهد الجندي الذي يظهر في الوسط وذلك اعترافا بأهمية دور الجيش في ثورة 14 تموز.
لهذا النصب أثره على المجتمع العراقي على مختلف الثورات والعصور فلم يتوحد العراقيين برمز يوما كما توحدوا باتفاقهم بأن هذا النصب هو رمزا للتخلص من العبودية والظلم.
بعد ذلك تنقلب صفحة المعاناة والمآسي لتحل صفحة السلام والازدهار والحرية حيث تظهر لنا امرأة تمسك مشعلا" وهو رمز الحرية الإغريقي وتندفع نحو محررها وبعد الانفعال يأتي الهدوء فيتوقف الغضب ومواجع الثورة وتحل الراحة والسكينة في القلوب وتتحول بعدها القضبان الحديدية إلى أغصان وكذلك نهرا دجلة والفرات  واللذان يعتبران العمود الفقري لحضارة وادي الرافدين  لم يغيبا عن النصب حيث يفسر البعض إن دجلة الذي يعني في العربية أشجار النخيل والفرات بمعنى الخصب تمثلهما امرأتان أحداهما تحمل سعف النخيل   والأخرى حبلى وثمة فلاحان يرمزان إلى العرب والأكراد ولكن احدهما في زيّ سومري والثاني رداء آشوري وهما يتطلعان نحو رفيقيهما دجلة والفرات ويحملان مسحاة (مجرفة) واحده فيما بينهما تعبيراً عن وحدة البلد الذي يعيشان في كنفه وكذلك هنالك رمز عراقي أخر وهو الثور الذي يعد رمز سومري بينما يظهر الجانب الصناعي في أقصى اليسار على هيئة عامل مفعم بالثقة..

                                      

حكاية النصب من البداية ..
ونعود الى  آذار 1959  حيث يسافر الخالد  جواد سليم  إلى إيطاليا ويقضي أشهراً طويلة في مصهر خاص بفلورنسا ، يصنع المصغرات بعد تخطيطها ثم يعمل مع مساعديه ( ومن أبرزهم محمد غني حكمت) لكن الفكرة الواضحة في ذهنه أنه سيصنع ملحمة (تحكي) تاريخاً وحاضراً لذا أراد لها أن تكون بهذه السعة وأراد لها أنه تكون بأسلوب النحت الناتئ– وليس المجسمات- متأثراً بالفن العراقي القديم وفكر في لوح عريض هو الأرضية التي تستقر عليه وحدات النصب التي يبلغ عددها أربع عشرة وحدة تضم خمسة وعشرين وجهاً عدا الحصان والثور .. ويمتد هذا اللوح المعلق خمسين متراً وبارتفاع أكثر من ثمانية أمتار . ووضع جواد منحوتاته على " إفريز" عرضي يجعلنا نتساءل أهو متأثر بالخط العربي فوق سطر طويل أم أنه يستوحي الأفاريز والجداريات العراقية القديمة ؟ أم استوحى ذلك من شكل (اللافتة)- أي القطعة البيضاء أو الملونة من القماش يرفعها المتظاهرون ويكتبون عليها الشعارات المؤيدة للجمهورية الوليدة؟
يذهب جبرا إبراهيم جبرا إلى تفسير وحدات النصب على أنها مفردات
” بيت من الشعر العربي يقرأ من اليمين إلى اليسار فكل وحدة هي فكرة قائمة بذاتها ولكنها تتصل بالأخرى في سياق يؤلف المعنى الذي يعبر عن النصب بأجمعه : توق العراق إلى الحرية منذ القدم، وتقديمه الضحايا في سبيلها لقد اقترن اسم جواد سليم بنصب الحرية الذي اقترن بدوره بمدينة بغداد تاريخاً وفناً، وقد كان ذلك إنصافاً حقيقياً للفنان وللفن نفسه الذي أخذ مكانة حية وفاعلة في قلب الحياة والمكان
لقد اكتملت موجودات النصب الذي لا يغني وصفه عن رؤيته كأي عمل ضخم خالد.. ولعلها مفارقة عجيبة أن يموت جواد سليم في عام1961م عن إحدى وأربعين سنة من العمر ؛ وهو يعمل على وضع منحوتات النصب في مكانها في فضاء ساحة التحرير عندما داهمته نوبة قلبية توفي على أثرها يشكل نصب الحرية الذروة التي بلغها فن جواد سليم والمأثرة التي لم يأت بمثلها فنان عراقي منذ قرون .. انه عمل حاول فيه جواد أن يربط فنه بالناس الذين كانوا على الدوام مصدر إلهامه ففي كل مرسم جواد سليم ونحت نلمس عمق العلاقة مع الناس.
وجواد سليم وهو جواد محمد سليم علي عبد القادر الخالدي الموصلي (1921 - 1961 )
نال وهو بعمر 11 عاما الجائزة الفضية في النحت في أول معرض للفنون في بغداد سنة 1931. وأرسل في بعثة إلى فرنسا حيث درس النحت في باريس عام 1938-1939، وكذلك في روما عام 1939-1940 وفي لندن عام 1946-1949 ورأس قسم النحت في معهد الفنون الجميلة في بغداد حتى وفاته في 23 كانون الثاني 1961.
وكان يجيد اللغة الانجليزية والايطالية والفرنسية والتركية إضافة إلى لغته العربية، وكان يحب الموسيقى والشعر والمقام العراقي .

شركاؤه في تحقيق الحلم ..
في 1959 شارك مع المعماري رفعت الجادرجي والنحات محمد غني حكمت . في تحقيق نصب الحرية  الذي نحن بصدد الحديث عنه ، وهو من أهم النصب الفنية في الشرق الاوسط ، وواحد من الشواهد الفنية في العالم .
وعلى ذكر المعماري العالمي العراقي رفعة الجادرجي الذي صمم واشرف على تنفيذ قاعدة النصب ، فتجدر الاشارة الى انه قال  في كتابه "الاخيضر والقصر البلوري: "لقد أدرك [جواد سليم] بأن العراق يعاني من فجوة فكرية في مجال النحت منذ دخول الإسلام إلى العراق. فهم لم يذعن إلى التحدرات الاجتماعية وتقاليدها التي سببت هذه الفجوة، وساعدت في إدامتها. الوظيفة الأولى للنحات، كما رآها جواد سليم، هي سدّ هذا النقص الحضاري وعملية سدّ النقص مغامرة فنية وحضارية في هذه الحالة، لأنها تطمح إلى مواصلة التجربة العراقية القديمة في بيئة مازالت تعيش تخلفاً حضارياً فاقعاً. ومن المؤكد أن معايشة جواد سليم لهذه التجربة (عملَ في المتحف العراقي للآثار القديمة) مدت "طريقاً" للتواصل مع روح هذه التجربة. والحقيقة إن موقعاً كهذا يجوز أن نصفه بأنه كان يجري على غير مثال مسبوق. فهو كما لو كان يضع بداية لتاريخ جديد، أو، وهذا أعسر ما يكون، أنه يستأنف رحلة انقطعت، وصارت بلا ذاكرة متصلة. بهذا المعنى ينفخ "نصب الحرية" الروحَ في أرشيف جسد مندثر منذ عصور. ويستأنف سرد حكاية انقطعت..!
ولعل من المفيد ، وخدمة للتاريخ ، ان نعود الى كواليس حكاية " نصب الحرية " ... فماذا ضمت تلك الكواليس ؟
في يوم 23 آذار 1959 وصل الفنان الكبير جواد سليم الى روما والتقى بالفنان النحات محمد غني حكمت الذي كان يدرس فن النحت هناك . غاية ذهاب الفنان جواد الى  ايطاليا هو لتنفيذ مشروع نصب كبير يمثل حرية الشعب العراقي . هيأ جواد تخطيطات للمشروع من بغداد ، لكن  تلك التخطيطات الفنية الثمينة فقدت في الطائرة التي أقلته الى روما . فبدأ يتذكر ما أنجزه فأعاد رسمها في أيطاليا!!
كان للفنان محمد غني حكمت مشغلاً خاصا ، يعمل فيه اثناء دراسته ( ستوديو) وقد أعجب بأعماله مهندس معماري ايطالي ، فطلب منه عمل ثلاث أبواب لكنيسة جديدة قرب روما ، وهذا الانجاز ليس بالهين ، لاسيما لطالب جاء للتو لدراسة فن النحت من بلد بعيد هو العراق ، لكن رغم مشاغل محمد غني حكمت  ، فأنه فتح قلبه وأبوابه لزميله القادم من بغداد ...
يقول محمد غني حكمت في مذكراته : هيأت لجواد مكاناً للعمل ولوحة كبيرة من الخشب وقطعاً من الطين الاصطناعي فبدأ جواد ينحت القسم الوسط من الجدارية ، كنا نعمل معاً هو في الطين وأنا أؤمن الخشب ، ويقول غني " قال لي جواد قبل الشروع في العمل ، هل تعلم أن مكافئتي من هذا المشروع هي ثلاثة آلاف دينار فقط"
وصل الى روما المهندس المعماري رفعت الجادرجي وهو مصمم نصب الحرية معمارياً على شكل لافتة كبيرة ، وهو الذي اقترح أن يُنفذ النصب من قبل النحات جواد سليم بعد موافقة الزعيم عبد الكريم قاسم .
يضيف  الفنان محمد غني في مذكراته : بدأنا بالبحث عن مشغل كبير للعمل لا يقل ارتفاعه عن 8-10 أمتار لغرض البدء بعمل النصب ، فوجدناه في فلورنسا . طلب جواد من وزارة الإسكان  لكي أكون مساعداً له في تنفيذ العمل فجاءت الموافقة . جلب جواد عائلته الى فلورنسا ( زوجته وأبنته زينب ) واستأجر بيتاً والتحقت بهم . بدأنا بالعمل بتاريخ 10-5-1959 في تمثال المرأة التي تمثل الحرية ، حاملة المشعل
كان جواد مستمراً في استذكار المواضيع المرسومة على الأوراق المفقودة ، فينحتها على الطين ويعدل بها ويغير ويضيف على الطين ويحذف من أجل الوصول الى الأفضل . أما أنا فقد أخذت طبعة جبسية على مصغر لأمرأة الحرية تحمل المشعل وبدأت أخطط عليها تقسيم المربعات ومثله على الحائط الخشبي لأجل تكبير العمل .  وكان العامل يرفع لي الطين للأعلى وأنا أضعه فوق التخطيط فبدأ شكل المرأة يظهر على السطح الخشبي تمثالاً نعمل له النموذج الجبسي لغرض الصب
بعد أن نكمل الأعمال يأتون العمال المختصون بأخذ القوالب الجبسية لينقلوها الى المصهر في مدينة بستويا ، وفي المعمل يغلفون القوالب بالشمع ويضعونها في فرن خاص لإذابة الشمع ثم يبدأون بإذابة مادة البرونز ويسكبونها في تلك القوالب لتظهر النتيجة تمثالاً من البرونز
كنت أذهب مرة كل أسبوع الى مصهر البرونز في" بستويا" لملاحظة ومراقبة العمل وتنظيف الزوائد الشمعية التي تظهر على سطح العمل وأقوم بتشذيبها وتعديلها
كان عملنا اليومي مستمراً من الصباح حتى رجوع زينب من المدرسة ونركب الحافلة الى البيت حيث لورنا زوجة جواد قد هيأت لنا الغداء .. بعد استراحة الظهيرة نعود بالحافلة الى العمل حتى الغروب وهكذا كل يوم عدا الأحد ، حيث نخرج لزيارة أحدى الكنائس المهمة لمشاهدة ما فيها وما عليها من رسوم على الجدران ومن تماثيل ونقوش جميلة من الفسيفساء . أو نقوم بزيارة قصور عصر النهضة حيث المعمار المميز وهكذا كنا نبحث عن الأعمال الفنية والمعمارية حتى في القرى المجاورة
قبل حلول يوم 14 تموز1960  طلبت الحكومة العراقية من جواد أن يسرع بانجازه لأفتتاحه في هذه المناسبة ، فأضطر جواد أن يوعز بصب تمثال المرأة حاملة المشعل بمادة البرونز لكن للأسف النتيجة لم ترضي جواد لكن تم شحنها الى بغداد وتعليقها لوحدها على سطح جدارية نصب الحرية . تأثر جواد بسوء تنفيذ صب تمثال المرأة فبدأ يفكر ويقلق صامتاً بالإضافة الى الأخبار التي كانت تصله من بغداد ، فأصيب بالانهيار العصبي فاضطرنا أنا وزوجته بنقله الى المستشفى واخبرنا السفارة بالأمر . يوقف العمل  الى أن جاء رفعت الجادرجي مع بعض أعضاء السفارة العراقية وأخرجو جواد من المستشفى على كفالتهم ، وبدأ جواد باسترجاع عافيته بعد حوالي الشهر والنصف . بدأنا بمواصلة العمل في الأستوديو كالمعتاد الى أن أنهينا العمل
شحنا كل الأعمال الى بغداد وسافر جواد ، وبعد وصوله أرسل لي رسالة مع الأستاذ فاضل البياتي مدير الأشغال العام ورئيس لجنة النصب التذكاري مؤرخة في 7-1-1961 وكانت تلك آخر رسالة يكتبها جواد سليم في حياته ، طلب فيها سرعة أرسال اللحام الايطالي  مع كمية من اسلاك النحاس  للقيام بلحام القطع الموضوعة تحت جدار النصب في ساحة التحرير.
توفي جواد صبيحة يوم 23 كانون الثاني 1961 ، وشيع جثمانه بعد الظهر من معهد الفنون الجميلة في  منطقة الكسرة (آنذاك) بجمع مهيب الى مثواه الأخير في مقبرة الأعظمية . من أبرز مرافقي النعش الفنان الكبير فائق حسن ، وأخ جواد الفنان سعاد ، وأسماعيل الشيخلي ، وفرج عبو، وعميد المعهد والشاعر الكبير محمد مهدي الجواهري ..
هل تذهب مناشدتي ، ادراج الرياح ...
ارجوكم ، إنه نصب الحرية .. نصب الحرية يا ناس !
عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.
 

  

إذاعة وتلفزيون‏



أفلام من الذاكرة

الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

736 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع