ولاية الموصل والحقوق الكوردية بعد الحرب العالمية الأولى / الحلقة السادسة

                                         

ولاية الموصل والحقوق الكردية بعد الحرب العالمية الأولى/ح6

   

        

       
 

   
 * مصير ولاية الموصل (كردستان الجنوبي)

نوهنا في ما مرّ بأن ولاية الموصل من أسلاب (ممتلكات) الإمبراطورية العثمانية وقعت بالنتيجة بعد انتصار التحالف في الحرب العالمية الأولى (لفرنسا) وكان الغرض (البريطاني) من دفعها لفرنسا في أول الأمر هو خلق منطقة عازلة جديدة على حدود المستقبل فاعترض سازانوف (وزير خارجية روسيا) بمذكرة مؤرخة في 29 من شباط 1916 ومن ثم أعلنت بمذكرة في 26 نيسان 1917 موافقتها على المشروع شريطة دخول المنطقة الواقعة جنوب (وأن وبتليس) ضمن المجال الروسي( ).
إلا أن الوضع تبدل وانقلب عاليه سافله عندما تنازلت فرنسا عن ولاية الموصل للبريطانيين ثم خروج روسيا من دائرة توزيع (ممتلكات) الأسلاب الإمبراطورية العثمانية بعد ثورة أكتوبر الروسية البلشفية في عام 1917م وقد عوملت (ولاية الموصل) بعد الاحتلال البريطاني مباشرة إدارياً كجزء من العراق الحديث قبل البت في أمرها.
في 28 من كانون الثاني عام 1920م أعلن الكماليون جماعة (مصطفى كمال أتاتورك) ما عرف بـ (الميثاق الوطني التركي) وهو في الواقع حصيلة قرارات مؤتمري (سيواس وأرضروم) عكس هذا الميثاق وجهة النظر الكمالية في مصير الأقاليم والولايات التي تنتظمها الدولة العثمانية فأقر بمبدأ (حرية تقرير المصير) للممتلكات العربية جنوب خط هدنة (موندرس) لعام 1918 (خط بروكسل). إلا أنه أوضح بجلاء وجوب اعتبار كل المناطق التي لا يسكنها عرب مسلمون أنها جزءً من تركيا ولا يتجزأ عنها( ).
والقصد بدون شك (ولاية الموصل) بأغلبيتها الساحقة الكردية. فالميثاق الوطني (التركي) والحالة هذه أول طلب رسمي بولاية الموصل وأول إشارة إلى أن الترك عقدوا العزم على استعادتها (ولاية الموصل) وكان في بداية الوقائع والإشتباكات والتآمر والاعتداءات بامتداد الحدود المؤقتة التي رسمتها الهدنة (موندرس) 30 تشرين الأول عام 1918م التي عرفت بخط (بروكسل)، تواصلت حتى تمت التسوية بمعاهدة عام 1926م الانكلو- التركية العراقية.
ودخلت (ولاية الموصل) مرحلة ثانية عند قبول بريطانيا بالانتداب على العراق في شهر نيسان عام 1920م. تلك التي جعلت بريطانيا بموافقة (عصبة الأمم) مسؤولية عن الجزئيين (العربي والكردي) من الدولة العراقية (المشكلة حديثاً) التي باتت تعرف رسمياً ودولياً باسم (العراق). وعلى هذا الأساس كان بمقدور البريطانيين الوقوف في وجه الإدعاء التركي بجنوب كردستان أيضاً أمام (عصبة الأمام) في (مؤتمر لوزان) والتصدي لتركيا الحديثة ومنعها بالقوة من حيازتها على (ولاية الموصل).
والحلفاء الذين أصروا على تجزئة الإمبراطورية العثمانية تجاهلوا الميثاق الوطني التركي الذي أعلنه الكماليون، أو ربما لم يعبأوا به عندما قامت حكومة السلطان العثماني الضعيفة على إمضاء (معاهدة سيفر) في العاشر من آب 1920م، بموادها الثلاث (62، 63، 64) التي تقر للكرد الحق في إقامة دولتهم القومية نتيجة لمساعي (الجنرال محمد شريف باشا) السياسي الكردي المعروف وصحبه في (مؤتمر الصلح) في باريس عام 1919م. فأضيفت بهذا تعقيدات جديدة على مشاكل الساحة. ومع أن هذه المعاهدة (سيفر) ألغتها انتصارات الكماليين على اليونانيين وحل محلها (معاهدة لوزان) 1923. إلا أنها بقيت حدثاً هاماً في تاريخ الحركة القومية الكردية إذ كانت المرة الأولى الذي تأطر فيها حلم الكرد بالاستقلال بوثيقة دولية.
وفي إنكلترا أحدثت وزارة المستعمرات البريطانية في نهاية العام 1920 دائرة خاصة لمعالجة مشاكل كل المنطقة سميت (بدائرة الشرق الأوسط). وكان من المسؤوليات التي انيطت بها، (إدارة شؤون العراق) وتقرير شكل الحكم الذي سيسوده.
كان وزير المستعمرات الجديد (ونستون تشرشل) من ساسة الجيل الجديد البريطانيين الطموحين الواسعي الخيال الذين امتازوا بدينامية ومن طراز بناة الإمبراطورية البريطانية والمغامرين إلى الحد الذي لا يتردد في إتخاذ أي مبادرة يرى فيها منفعة للإمبراطورية البريطانية. وكان إذا ذاك يحيط نفسه بحلقة من ذوي الخبرات العظيمة أمثال (ميجر نوئيل) و(العقيد ولورنس العرب) و(روبرت يونك). وأسرع بنشاطه المعهود يخطط لمؤتمرين من أجل حل مشاكل الشرق الأوسط وتنظيم مستقبله: مؤتمر في لندن وآخر في القاهرة.
كان الغرض من (مؤتمر لندن) الوصول إلى تسوية مع الأتراك القوميين (الكماليين) وقد انعقد في 12 من شباط 1921 ودام أقل من أسبوعين وفي الأول من آذار أعلن فشله رسمياً حين أصر (بكر سامي) ممثل أنقرة عن القوميين الترك على رفض المفاوضات بوجود أولاً ممثل لحكومة السلطان العثماني. كما رفض ثانياً طلب الحلفاء أن تكون معاهدة (سيفر 1920م) أساساً للمفاوضات.
وفي (مؤتمر القاهرة) المنعقد في 12-24 آذار 1921 كان ثم (هناك) أربعون خبيراً لشأن واحد أو أكثر من شؤون الشرق الأوسط. بينهم المندبون السامون والضباط القياديون البريطانيون في فلسطين والعراق( ). والمفوض البريطاني العام في فارس (إيران) المقيم في الخليج وحاكم الصومال العام البريطاني المقيم في عدن ومعاونوهم المدنيون والعسكريون.
في الجلسة الأولى بيــــن (ونستن تشرشل) الهــــــدف من عقـــــد (مؤتمــــر القاهـــــرة) ثم وضعت خطوط البرامج التالية وإنشعب وانقسم المشاركون إلــــى مجموعتين لمتابعة الأعمال لجنة سياسية رئسها ونستـن تشرشل بنفسـه ولجنـــــة عسكريـة ومالية رئسها السير (ولتر كونكريف Sir Walter Congrave) على أن تقوم اللجنتان بالاندماج معاً عندما يتم تنسيق وموائمة المقترحات العسكرية بالمقترحات السياسية أو عندما يجري بحثها جنباً إلى جنب بحسب جدول الأعمال.
عقد المؤتمر (مؤتمر القاهرة) عدداً من الجلسات يتراوح ما بين أربعين وخمسين في فندق (سميراميس) بالقاهرة ودام إثني عشر يوماً 12 – 24 آذار 1921 في جو من السرية التامة كما وصف. ولذلك لم يطلع الكرد على ما جاء فيه حول المستقبل المدخر جنوب كردستان إلا بعد مرور زمن طويل. لكن كان معلوماً أن القضية الكردية كانت واحدة من أهم مسألتين عرضتا حول العراق في مؤتمر القاهرة.
جرى المداولة في الجلسة الثانية حول اختيار رئيس دولة للكيان الجديد (العراق) وعلاقة الدولة الجديدة المالية مع بريطانيا وترتيب أمور الدفاع عنها. واتخذت قرارات في هذا الشأن دون إشكال لاسيما بخصوص رئيس الدولة للعراق فقد اتفق الرأي على أن يكون الأمير فيصل بن الشريف الحسين ملكاً على العراق بعد استفتاء عام يجري في العراق.
أوضح ونستن تشرشل في كلمة الافتتاح أن مؤتمر القاهرة هو بمثابة محاولة لإيقاف انحدار السياسة البريطانية إلى مزالق غير مأمونة بدأت بالعام 1920 وتواصلت حتى بداية العام 1921. ثم أنه قدم للجنة السياسية التي ترأسها هو (ونستن تشرشل) مذكرة (دائرة الشرق الأوسط) حول مستقبل كردستان للدراسة وإعطـاء الرأي وبخـلاف الرئيـس ضمت اللجنـة كلاً من (السير برسي كوكس) الحاكم البريطاني في العراق. ومس كير ترود (مس بيل) سكرتيرته و(العقيـد ت. ي. لورنس) و(ميجر هربرت يونك) و(ميجـر بابكوكR. D. Babcock) سكرتير اللجنة السياسية الخاصة بكردستان و(ميجر نوئيل) عضواً استشارياً.
جاء في المذكرة التي قدمتها (دائرة الشرق الأوسط) للجنة السياسية في مؤتمر القاهرة: "رأينا القوي. أن المناطق الكردية الخالصة القوام يجب أن لا تدخل في الدولة العربية التي ستقام في ميسوبوتاميا بلاد ما بين النهرين (العراق الحالي)، بل يجب العمل من جانب حكومة صاحب الجلالة وبقدر المستطاع على تشجيع مبدأ الوحدة الكردية، ورعاية الهوية القومية الكردية في المناطق الكردية. إن امتداد المنطقة التي ستتيح لحكومة صاحب الجلالة المجال والقدرة على مواصلة هذه السياسة، سيعتمد بحكم الضرورة على الشروط النهائية لتسوية سليمة مع تركيا بخصوص (ولاية الموصل) ومهما بلغت هذه المنطقة من مساحة فاعتقادنا أن سيطرة حكومة صاحب الجلالة ستسهل بوجود نوع ما من نظام كردي مركزي، يلحق به مشاور بريطاني. على أن يكون هذا المشاور مرتبطاً بالمندوب السامي البريطاني على ميسوبوتاميا (بلاد ما بين النهرين) العراق الحالي. ومن خلاله ستكون صلته بحكومة جلالته".
في اجتماع اللجنة يوم 15 من آذار 1921 تحدث (السير برسي كوكس) المندوب السامي البريطاني في بغداد حول محتويات مذكرة (دائرة الشرق الأوسط). فقال إن الكرد هم أغلبية فحسب في مناطق كركوك والسليمانية واربيل والمناطق الشمالية من ولاية الموصل (دهوك وعقرة) التي تؤلف جزء لا يتجزأ من العراق (الحديث) فاعتراض (هربرت يونك) واقتراح إقامة (دولة كردية فوراً) ومن دون تأخير وأن توضع تحت الوصاية المباشرة للمندوب السامي البريطاني في العراق لا أن تكون جزء من العراق أو ضمن مسؤولية حكومته (البريطانية) وأيده (ميجر نوئيل) في ذلك.
وكان من رأي (ونستون تشرشل) أنه يفضل حكماً ذاتياً كاملاً لكردستان الجنوبية Home Rule فقد يكون من المفيد لخلق دولة عازلة بين الضغوط التركية من (الخارج) وبين قيام حركة عراقية معادية لبريطانيا من (الداخل). وأعرب عن موافقته لما أبداه من رأي كل من (هربرت يونك) و(ميجر نوئيل). وعقب بقوله أن حكومة المستقبل العراقية ومن ورائها جيش عربي "ستتجاهل الطموحات والأماني الكردية وستضطهدها كأقلية" عندما يقوى عودها. وأضاف يقول محذراً "إن لم يتح للكرد المجال ليحكموا أنفسهم بأنفسهم وصير إلى إلحاقهم بالدولة الجديدة فإن أي أمير شريفي (نسبة إلى شريف مكة ويقصد هنا الأمير فيصل) مهما بدأ ديمقراطياً، ومتسماً بروح الحياد ما أن يجد نفسه في موضع قوةٍ، ليس ببعيد أن يقف في سبيل الطموح القومي الكردي ومصالح الكرد كأقلية عنصرية وكان هذا بعد نظر (ونستن تشرشل) المستقبل للكرد والمنطقة ولذلك يبدو ألا سبيل وتوفيقاً للمصلحة البريطانية إلا إقامة دولة كردية عازلة Buffer State بين العراق وتركيا.
وختمت اللجنة اجتماعها بتبني توصية (هوبرت يونك)، وفي إبقاء جنوب كردستان منفصلاً عن العراق. وساند هذا الاقتراح كل من (ونستن تشرشل) و(ميجر نوئيل) و(العقيد لورنس) وهم الأغلبية وعارض (السير برسي كوكس) وكيرترود بل (مس بيل) ولم يؤخذ رأي السكرتير (بابكوك) ولم يتدخل في المناقشة إلا أن الأكثرية وضعت قيداً احترازياً مجاملة (للسير برسي كوكس) هو "أن يبقى هذا القرار غير معمول به حتى يتيسر الوقت (بعد ثلاث سنين؟) ليتهيأ للكرد رأي تمثيلي قد يحبذ أو لا يحبذ الانضمام إلى العراق الجديد.
واستقر الأمر في الأول من أيار 1921 على هذا الأغلبية حبذت أو أرادت في الواقع جنوب كردستان منفصل عن العراق على أن توضع مسؤوليته على عاتق المندوب السامي البريطاني (السير برسي كوكس) وساندت (دائرة الشرق الأوسط) ووزيرها (ونستن تشرشل) في هذا مساندة قوية.
إلا أن سياسة مضادة - تصيب المرء بالدوار حقاً - قدر لها أن تطفو على السطح خلال الأشهر القلائل التالية تم خلالها تمييع قرار الأكثرية بل تجميده ثم تصفيته وتفضيل خطة (السير بوس كوكس) بالأخير وتطبيقها بكل الكوارث التي نجمت عنها. وكان (السير برسي كوكس) صاحب الدور الرئيس بمساندة معاونته كيرترود بل (مس بيل).
قيل أن (برسي كوكس) كان واقعاً في أسر الافتراض ورأي المسؤولين الذين تسلموا مقاليد الحكم بأن العراقيين أصلاً لا يريدون كردستاناً مستقلة وتحت تأثير فكرة الصعوبة التي سيواجهها من إيجاد زعيم طيّع ممتثل للأوامر إلى حد مناسب لإنشاء هذا الكيان الكردي المستقل وربما كان مأتى سياسته هذه الإصرار العربي على أنه لا يمكن عمل دولة جيدة من ولايتي بغداد والبصرة (فقط).
إلى جانب هذا القرار اتخذ قرار ترشيح الأمير فيصل بن الشريف حسين بن علي لعرش العراق. وكان قد وصل في العشرين من حزيران 1921 ميناء البصرة وفي 23 من آب 1921 توج الأمير فيصل بن الحسين ملكاً على العراق بعد استفتاء كسب فيه 96 بالمائة من مجموع الأصوات الكلي. وأغضى المندوب السامي البريطاني (برسي كوكس) عن امتناع السليمانية وكركوك ورفضهما المشاركة في الاستفتاء. إذ  كانت هناك مخاوف وشاع قلق عظيم هناك حول مستقبل السيادة العربية على حكومة بغداد.
بسبب من هذا ولأجل التظاهر المبدئي بأن المندوب السامي البريطاني (السير برسي كوكس) يمهد فعلاً لتطبيق قرار (مؤتمر القاهرة) في آذار عام 1921، أصدر في السادس من أيار عام 1921 بعد عودته من القاهرة تصريحاً نبه فيه الضباط السياسيين البريطانيين في كل من الموصل وكركوك والسليمانية وأربيل إلى ما سيجري العمل به إلا أنه كان في الواقع تمهيداً للشروع في خطته:
"ينظر المندوب السامي البريطاني (السير برسي كوكس) بصورة جادة وعلمية في التدابير التي وجب اتخاذها بخصوص إدارة المناطق الكردية في العراق. وقد بلغه أن مخاوف تساور القلوب من احتمال إلحاقها بحكومة بغداد الأمر الذي ألجأ بعضهم إلى المطالبة بنظام استقلالي كما بلغه في الوقت عينه أن قادة الرأي العام يشعرون بقوة الروابط الاقتصادية والصناعية التي تربطهم بالعراق. وفي هذه الحالة يرغب المندوب السامي البريطاني (برسي كوكس) في أن يحصل إن أمكن على ما ينير له السبيل إلى مطالب الكرد الحقيقية. فإن كانوا يفضلون البقاء ضمن إطار الحكومة العراقية فهو مستعد للاقتراح على الحكومة العراقية حلاً على الوجه التالي:
1. فيما يتعلق بالمناطق الكردية الواقعة في (لواء) الموصل والداخلة في مجال الانتداب البريطاني. يشكل لواء فرعي Sub Liwa يتألف من أقضية (زاخو وعقره ودهوك والعمادية). ومركزه (دهوك) ويكون بإدارة معاون متصرف بريطاني وقائمقامون بريطانيون أيضاً على أن يحل محلهم كرد أو عرب يحسنون اللغة الكردية ويرضى عنهم الكرد. ويذعن هذا اللواء الفرعي في شؤونه المالية والقضائية إلى حكومة بغداد الوطنية. ويرسل بطبيعة الحال ممثلين عنه إلى المجلس التأسيسي. أما في الأمور المتعلقة بالإدارة العامة فإن القائمامين يرجعون متصرفهم البريطاني. كما أن التعيينات الإدارية يتولاها المندوب السامي البريطاني بمشاورة الحكومة المحلية.
2. سيتدبر المندوب السامي البريطاني موضوع إشراك الضباط السياسيين البريطانيين في إدارة (أربيل وكويسنجق ورواندوز) وسيرتبطون بتعهد بمراعاة رغبات الأهالي الكرد في تعيين موظفين الحكومة. وستوضع تفاصيل لذلك حالما تسمح الظروف.
3. تعامل مدينة السليمانية كمتصرفية ويديرها متصرف يعاونه مجلس استشاري محلي. ويقوم المندوب السامي البريطاني باختيار وإلحاق مستشار بريطاني به. وإلى حين يتم تعيين هذا المتصرف، يقوم الضابط السياسي مقامه ويخول هذا المتصرف من السلطات ما يتراء للمندوب السامي تخويله بعد استشارته واستشارة حكومة بغداد. ويبقى القائمقامون في الوقت الحاضر بريطانيين، على أن يحل محلهم كرد حينما يتوفر لهذه الغاية أكفاء".
في رأيي كان هذا التصريح نقطة البداية لحرف قرار مؤتمر القاهرة آذار 1921/ عن الخط الذي رسم له وأول نذير للتحول وصل (دائرة الشرق الأوسط) في وزارة المستعمرات تقرير استخبارات من العراق مؤرخ في 15 أيار 1921 رأى فيه (ريدر بولارد) وهو واحد من ألمع موظفي تلك الدائرة وضابط سياسي سابق في العراق عمل مع الحاكم المدني العام - أنه من وحي (برسي كوكس) إن لم يكن أمر به فلا شك هناك بأنه أطلع عليه. والتقرير يشير إلى ظهور "سياسة جديدة" في سماء كردستان تعطي انطباعاً للميل إلى ترك أصغر ما يمكن تركه من ميسوبوتاميا (بلاد ما بين النهرين) العراق الحديث خارج سيطرة حكومة بغداد.
وما استنتجه (ريدر بولارد) من هذا التقرير أوضحه (برسي كوكس) بنفسه في رسالة إلى (ونستن تشرشل) جاء فيها أنه استخلص من منطوق المادة 64 من (معاهدة سيفر) لعام 1920 الوثيقة الصلة( ) بأن عليه الاستمرار في إدارة المناطق الكردية وأنه رد بجواب على احتجاج مجلس الوزراء العراقي بأن التدابير التي يراها هو ضرورية في كردستان قد تؤدي بالأخير إلى فصل كردستان عن العراق( ).
وأنبأ (السير برسي كوكس) وزارة المستعمرات أنه قام بعقد اجتماع لخبراء كرد. فيه تقرر بالإجماع بأن أفضل حل ممكن يؤخذ فيه جميع وجهات النظر هو أن تبقى كردستان جزء لا يتجزأ من العراق للأغراض المالية والميزانية. لكن ويقدر ما يتمشى مع فكرة الحكم الذاتي - أن يقوم المندوب السامي البريطاني بالإشراف على إدارتها مباشرة من خلال موظفين كرد وبريطانيين على أساس الأتونومية المحلية (الحكم الذاتي).
قد يُستخلص من هذا أن (برسي كوكس) يرى ما وصفته المادة (64) من (معاهدة سيفر) 1920 لمستقبل كردستان السياسي يفترض على أكثر تقدير (حكماً ذاتياً). وأضاف يقول إن كل المناطق الكردية باستثناء السليمانية تفضل الإنضمام إلى العراق وإنه واثق بأن هذا سيقع موقع قبول من عصبة الأمم والمحافل الكردية وأن سياسته هذه تتضمن أفضل حل وإنه يأمل أن يوافق (ونستن تشرشل) على رأيه هذا.
من الجدير بالذكر أن القضية الكردية بحثت بإسهاب في (مؤتمر القاهرة) في آذار 1921( ) كما لم تشر الصحف الصادرة في بغداد في حينه عن (اجتماع القاهرة) في آذار 1921م إلا إلى موضوع ترشيح الأمير فيصل لعرش العراق.
رد (ونستن تشرشل) على شرح (السير برسي كوكس) فوراً ببرقية مؤرخة في 21 ومرقمة (201) جاء فيه:
"غادرت القاهرة وأنا أحمل انطباعاً مختلفاً عن موازنة الآراء بخصوص السياسة الكردية. يتراءى لي أنكم تفصلون بين ذلك الجزء من ميسوبوتاميا (بلاد ما بين النهرين) العراق الحالي الذي يجب أن يدار مباشرة مهما كان مصيره بالأخير وبين الجزء الذي سيضم بالأخير إلى العراق".
ونوه (ونستن تشرشل) بان (برسي كوكس) لم يترق بشيء ما حول المنطقة الثانية التي تدخل فيها (أربيل وكركوك).
ثم عرج لتذكير (برسي كوكس) ببرقيته الموجهة إليه في 25 أيار 1921م موصياً فيه بأن لا تدخل (كركوك) في العراق لأنها كردية وغير عربية مؤكداً رأيه السالف المستولي على خياله الخصب "دولة كردية عازلة تتألف إثنولوجيا (عرقياً) من عناصر غير عربية".
ثم انثنى (ونستن تشرشل) ليصدر عدة تعليمات وأوامر إلى (دائرة الشرق الأوسط). منها وجوب عودة (الميجر نوئيل) إلى كردستان. وأصدر تعليمات تنص على التمسك بقرار (مؤتمر القاهرة) في آذار 1921م. ومنها وجوب إعادة (الشيخ محمود الحفيد) إلى السليمانية.
ولم يكن (برسي كوكس) مسروراً بهذا، وبدأت الخلافات الجانبية بين وجهتي النظر صغيرة تتعلق بكيفية التطبيق. إلا أنها انداحت بالأخير لتغدو سبيلين متناقضين في تطبيق القرار أحدهما يؤدي إلى خلق كيان كردي ذي حكم ذاتي منفصل عن العراق وآخر يبيت نية واضحة في ضم جنوب كردستان إلى الدولة العراقية الجديدة.
في التاسع من حزيران 1921م عاد (ونستن تشرشل) ليؤكد على لزوم الإفادة من خدمات ميجر نوئيل وتعلق ذلك بقضية الشيخ محمود الحفيد المبعد إلى (الهند) فقد طلب (تشرشل) إطلاق سراحه منذ الحادي عشر من نيسان عام 1921 وتعمد كوكس الإبطاء دون الإلتفات إلى سخط جرجل الذي أصبح الآن مدركاً إلى أي حد كان المندوب السامي البريطاني (برسي كوكس) يعارض في عودة الرجلين (الشيخ محمود الحفيد وميجر بؤئيل) مستفيداً من غيابهما من الميدان للعمل حثيثاً على دمج المناطق الكردية في جنوب كردستان بالدولة العراقية فلم يجب على مطالب واستفسارات (ونستن تشرشل) غلا بعد شهرين تقريباً. (في 8 حزيران 1921م) وإذا ذاك كانت السياسة الإدارية التي اتخذها برسي كوكس قد نفذت عميقاً في تربة كردستان.
واستخدم كوكس عللا وأسباباً أخرى لإقناع (دائرة الشرق الأوسط) بسلامة خطته في معالجة الأمور محلياً ففي حزيران 1921م وكان على إطلاع تام بثورة (الكوك جيري) في (درسيم)، بعث بجملة من البرقيات إلى وزارة المستعمرات تتحدث عن إضطرابات كردية ووقائع عنيفة في الأناضول معادية للكماليين. وأستفسر حول إمكانية استغلالها للمصلحة البريطانية "استثمار لنا أكثر من استثمار القوميين الكرد لها ضد القومية التركية" كانت ثورة (الكوك جيري) سلاحاً جديداً لكوكس.
ولم يحول هذا الإغراء الجديد عزم (تشرشل) عن متابعة نهجه. فأجاب ونستن تشرشل مؤكداً أنه ما يزال يفضل الأخذ بسياسة إقامة دولة كردية عازلة بين العرب والترك. كما تقرر في (مؤتمر القاهرة) في آذار عام 1921م إلا أن (كوكس) بدأ الآن يُغري معظم المناطق الكردية بالتعاون على إمرار سياسته وجعل النظام العراقي يمتد إلى أقسام (كركوك وأربيل) في حين بقيت (السليمانية) تحت حكم البريطانيين المباشر وبذل "كل جهد" في سبيل "تطوير الإدارة الوطنية على خطوط اعتيادية" متصدياً لما تبقى في لندن من شعور بالواجب واحترام التعهدات للكرد وظل يدور حول (تشرشل) ويناور وكتب إليه (تشرشل) بالأخير.
"إن الحكـم العربي في العراق يجب أن يقتصر على الأرض العربية فقط وتحديداً".
لكن (برسي كوكس) كان بوسعه الآن أن يقول له أن معظم الكرد قد استشيروا في (6 أيار 1921م) فاختاروا عدم الانفصال عن العراق وإنه من الصعب تجاهل رغبتهم فضلاً عن أن القوميين العرب صاروا الآن يعتمدون على بناء عراق تدخل فيه ولاية الموصل ذات الأغلبية الكردية وأن خيبة مبتغاهم الآن تعني المخاطرة بانفجار شديد مثلما حصل في 1920 (ثورة العشرين).
وعاد تشرشل يذكر كوكس أن اعتماده خطة إشراك الكرد في المجلس التأسيسي (البرلمان) المنوي عقده لوضع دستور الدولة العراقية - يجب أن يحترم مبدأ أن الكرد يجب أن لا يوضعوا تحت حكم العرب ضد رغبتهم"( ).
بالأخير كشف برسي كوكس عن أوراقه حين لم يعد لمداورة والمناورة موضع فوضع الأمر أمام (وزارة المستعمرات) بالشكل التالي: "في مؤتمر القاهرة 1921م كان هناك خياران: أولاً المنطقة الكردية تجعل جزء من العراق أو: ثانيا المنطقة الكردية تشجع على حكم منفصل ذاتي". ثم إنتهى إلى القول إنه "وبعد موازنة الآراء والمشاورة مع أولي الرأي، يرى أن يصار إلى الخيار الأول" ثم استتلى قائلاً إنه لن يتخذ أي خطوة في أي من السبيلين إلا بعد أن يتلقى جواباً صريحاً من الوزارة المستعمرات "كيلا يكون هناك سوء فهم".
كان برسي كوكس يريد أن يسمع من ونستن تشرشل رأياً واضحاً، فيما استدرجه إليه أي أن يصير بالنتيجة إلى الحل الأول أو على الأقل أن يكتشف في رد فعله أي ضعف أو ميل إليه قد يطلق يده في سلوك سياسة الاندماج للمنطقة الكردية التي يفضلها. وهو عاقد العزم عليها.
بتوالي التقارير وتعدد المراسلات ارتأى تشرشل عقد اجتماع (لدائرة الشرق الأوسط) يضم ممثلين عن سائر الوزارات ذوات العلاقة. وانضم إليهم كل من (ميجر سون) الذي لم يكن قد طرد من السليمانية بعد ومعاون الضابط السياسي (النقيب ستيفن لونكريك) للواء كركوك. وكان إذ ذاك في لندن، في السادس والعشرين من حزيران 1921 وفيه رفض معظم تقارير برسي كوكس ومقترحاته، باعتبارها مخالفة لما تم التوصل إليه في (مؤتمر القاهرة) لعام 1921م وأعطي التفضيل لثاني الخيارات وأيد هذا المنحى كل من (ميجر سون) و(النقيب لونكريك) وكتبت (الدائرة السياسية) ردها مشيرة إلى هذين بعبارةٍ تشبه التوبيخ:
"إن (الدائرة السياسية للشرق الأوسط) تظن أن ليس بين مشاوري السيد (برسي كوكس) من يستطيع أن يتكلم عن ثقة أو خبرة بقدر ما يملكه (ميجر سون والنقيب لونكريك) من خبرة وكفاءات".
وانحصرت المكاتبات بين (كوكس) و(تشرشل) لبقية العام 1921 وبداية العام 1922 في النقطة المركزية: هل يجب على بريطانيا مساندة قيام كردستان أوتونومية (حكم ذاتي). أو أن تضم المنطقة التي أطلقنا عليها مصطلح (جنوب كردستان) إلى العراق.
ولم ينجح (برسي كوكس) آخر المطاف في صرف (وزارة المستعمرات) عن قرار (مؤتمر القاهرة لعام 1921م) وصرف نظرها عن تطبيقه نهائياً إلا بالضرب على وتّر تشرشل الحساس وتّر الضرورة الإستراتيجية للإمبراطورية والتفكير في استحداث إدارة (انكلو كردية) عن بعد خشية جرح مشاعر القوميين الكرد المرهفة وبالصيرورة إلى أن "أفضل السياسة هو اعتبار الكرد أقلية كبيرة عراقية لكن بمنحهم فرصة إعادة النظر بعد ثلاث سنين في قرارهم( ) بقي (ميجر سون) يعارض هذه السياسة. وأعلن رأيه في نهاية العام بكل صراحة بخصوص خضوع السليمانية لحكم عربي إلا أن يكون مؤقتاً وتمهيداً لخلق دولة كردية. فأقيل فوراً ميجر سون من منصبه. كان مثل زملائه (النقيب ليز) و(الميجر نوئيل) وربما أقدم على ما أقدم بدافع الحقائق التي عرفها وشبيه عاطفة الأبوة ويظنه أن هذا هو خير ما يمكن تقديمه للشعب الكردي.
أجل بقيت دار المندوب السامي البريطاني ووراءها حكومة بغداد مستعدة للاعتراف بالهوية الكردية شريطة أن تكون ضمن الوحدة العراقية. ولكن كوكس أراد أن يكسو ذلك التدبير صفـة الديمقراطيـة. فقـرر أن من الضرورة "استشارة" الكرد رسمياً في السادس من أيار 1922م "للظفر بدليل على الرغبة الحقيقية للمجموعات الكرديـــــة The Kurdish Communities! هل هم راغبون في البقاء ضمن الحكومة العراقية؟( ).
لو شاء الكرد إبراز الهوية القومية المتمثلة في الحكم الذاتي. فتلك هي اللحظة الحاسمة فما وصفه كوكس باستفتاء أو "استشارة" "الجماعات الكردية". لم يكن كما قلنا غير استشارات جماعية علنية لنخبة من الوجهاء والشخصيات المنتقاه محلياً وأغوات ورؤساء عشائر معظمهم كانوا يعلمون أين تهب ريح السياسة البريطانية في ميسوبوتاميا (بلاد ما بين النهرين) (المستفيدين ولمصالحهم الشخصية) وقليل منهم من شعر باستعداد لتحديها والوقوف في وجهها بل حتى لو افترضنا وجود الرغبة في هؤلاء (الصدور والأعيان) لإقامة جبهة موحدة فلن يجدوا فرصة لتوحيد قواهم ورصها في جبهة واحدة، لذلك كانت أجوبتهم ذات طابع محلي ضيق. ورفض السليمانيون (أهالي السليمانية) أي نوع من الضمان إلى الحكومة العراقية إلا أنهم كانوا وحيدين في وقفتهم. في ذلك الحين من بين الأكراد حيث لم يصل التثقيف القومي الكردي إلى الجذور.
في العام 1922م، أخلت هذه المشكلة مكانها من جدول أعمال المندوب السامي البريطاني لمشكلة جديدة ذات خطورة آنية على المركز البريطاني في كردستان. وأقصد بها التدخل التركي العسكري في ولاية الموصل والوضع الناجم المهدد بالانفجار.
سادت الفترة التي سبقت عودة الشيخ محمود الحفيد أو بالأحرى إعادته فترة فوضى فكرية وحيرة في نفوس القوميين الكرد في جنوب كردستان. شجعهم البريطانيون آنياً ثم أخلفوا وخانوا العهد، وراقبوا إخوانهم في شمال كردستان وفي العاصمة استنبول خصوصاً يخرجون بمطالبهم إلى العلن بعد إذعان حكومة السلطان العثماني لمطالبهم بوثيقة دولية خطيرة وتابعوا تلك المفاوضات التي كان يجريها هؤلاء الأكراد مع الحكومة التركية في العاصمة استبنول على أساس تلك المعاهدة. والإقرار بحق حرية الكرد في تقرير مصيرهم وفقاً لتصريحات الحلفاء والمبادئ الولسنية (ولسن) الرئيس الأمريكي الأسبق البنود (14) لعام 1919م.

* مبادئ الرئيس الأمريكي ويلسون الـ (14) مادة عام 1919م (بخصوص حق تقرير المصير للشعوب)
في الخطاب الذي ألقاه الرئيس الأمريكي ويلسون بتاريخ 8 كانون الثاني عام 1919م، شرح النقاط والمواد الأربع عشرة التي يتضمنها برنامجه من أجل إحلال السلام العالمي، الذي يجب أن يقام على (بنية من العدالة الدولية في المجتمعات العالمية) وتشمل جميع الأمم، وهذه المبادئ هي:
1-    معاهدات سلام تنشر علنياً بدون أي مواد أو ملاحق سرية.
2-    حرية الملاحة الكاملة في زمن السلم كما في زمن الحرب.
3-    إلغاء الحواجز التجارية وشروط التعامل بالمبادلات.
4-    اتفاقيات من أجل تخفيض التسليح.
5-    حل المسائل الاستعمارية، مع الاهتمام المتماثل بالنسبة لمتطلبات الإمبراطوريات وسكان البلدان المستعمرة ذات العلاقة.
6-    إخلاء الأراضي الروسية التي يجب أن يقرر مصيرها ومستقبلها السياسي بكل حرية، وأن يسمع صوتها في عصبة الأمم.
7-     إخلاء بلجيكا وإعادة سيادتها.
8-    تحرير كل الأراضي الفرنسية، وإعادة منطقة الإلزاس واللورين إليها.
9-    إعادة رسم حدود إيطاليا على أساس المعيار القومي.
10-    إمكانية التطور المستقبل بالنسبة لشعوب الإمبراطورية النمساوية / الهنكارية.
11-    استقلال ووحدة أراضي البلدان البلقانية مع تخصيص قطاع يوصل صربيا بالبحر.
12-    إقرار سيادة تركيا، وإعطاء (حق تقرير المصير) للشعوب الأخرى التي كانت تابعة للإمبراطورية العثمانية، وإقرار حق الملاحة في مضائق الدردنيل.
13-     إنشاء دولة بولونية مستقلة، وإعطاءها الضمانات الدولية الضرورية.
14-    تشكيل عصبة أمم تضمن الاستقلال والسيادة ووحدة الأراضي لجميع الدول.
ووجدوا تناقضاً كبيراً بين ما يجري هناك وبين ما يحاوله الترك في الجنوب، حيث انبث وكلاءهم في أرجائه يدعون للأخوة التركية الكردية ويستنهضون الهمم باسم الدين الحنيف للانتقاض على حكم الكفار دون أن تحاول السلطة البريطانية وقف نشاطهم الذي نجح إلى حد كبير في استمالة عدد من العشائر الكردية لاسيما تلك التي بقيت تنقم على معاملة الشيخ محمود الحفيد المهنية.
في شمال كردستان كانت حكومة السلطان العثماني تحاول جهدها إبقاء الصلة الكردية بالعرش التركي مهما كان شكل الكيان السياسي الذي سيؤول إليه أمر تطبيق المعاهدة. محاولة إقناع المفاوضين الكرد بالرضا بشكل من الحكم الذاتي الواسع الرحاب بديلاً عن الاستقلال المفضي إلى الانفصال بإثارتهم العاطفة الدينية في الكرد. من جهة أخرى كانت هناك الحركة التركية الكمالية التي تهدد عرش السلطان العثماني بشكل ما أو بآخر، والحكومة التركية تحاول أثاء المفاوضات أن تجعل التعاون الكردي في مقاومتها شرطاً أساسياً لإنجاح المفوضات الجارية. وبخصوص جنوب كردستان كان حكومة استنبول وحركمة مصطفى كمال أتاتورك تتفقان على وجوب نزعة من يد البريطانيين، وبدت حكومة استنبول راضية تمام رضى عما يقوم به من مجهودات. هناك بلبلة سياسية( ) وفوضى فكرية وأزمة علاقة انعكست على مواقف القبائل الكردية الساكنة على طرفي الحدود المؤقتة وأفضت في أقصى جنوب كردستان (منطقة سوران) إلى انفجار ذي دوي عظيم.
الحركة الكمالية التركية لم تعترف بشرعية (معاهدة سيفر 1920م) أصلاً. ولكنها بنت دعايتها عند الكرد على الأساس الديني. إلا أنها كانت دعاية ضعيفة المردود في السليمانية علـى الحد الـذي لم يشعر (ميجر سون) بوطأة لها حتى عندما عصفت بالعراق انتفاضة العشرين عام 1920م الكبرى، وتركها وهو ناقم لخلفه (ميجر كولدسمث)، ولم يلبث هذا قليلاً حتى صدمته اضطرابات مزقت الهدوء الشامل في منطقة السليمانية كغيرها من أجزاء كردستان. هذه القلاقل كانت من عمل الأتراك.
في شتاء العامين [1921 – 1922] بدأ (محمد خان دزلي) الكردي الذي كان على صلة بالوكلاء الترك - بسلسلة غارات سلب لمنطقة (حلبجه). وجدت الإدارة البريطانية أن الوقت قد حان للمعالجة الجدية بعد سكوت عن النشاط التركي زاد عن السنتين. كان من الضروري وقفة ولو باستعمال القوة عند الحاجة. على إنها أفلحت في استرضاء (محمد خان دزلي) في أيار 1922 فأوقف نشاطه، إلا أن الأتراك أقدموا في أوائل ربيع العام نفسه 1924 على خطوة جريئة قدر لها أن تكون فاتحة لخطة التقدم التركي داخل كردستان العراقية لتؤدي إلى إغراق المنطقة بأسرها في لجة من الفوضى وعدم الاستقرار أشهراً عدة.
في 17 آذار 1922 أصدرت الحكومة التركية قراراً بتعيين (رمزي بك) قائمقاماً لقضاء (رواندوز) وبعثت به إليها. بعد وصوله المدينة وفي أواخر أيار 1922 أطلق حملة مركزة بين القبائل الكردية هي مزيج من التهديد والوعيد والملق والمداهنة. تتحدث بجملتها عن قرب وصول قوات كبيرة تركية بهدف انتزاع (السليمانية وكركوك وأربيل) من يد البريطانيين( ). وفي حدود أوساط حزيران 1922م بالذات لحق بـ (رمزي بك) ضابط تركي برتبة عقيد اسمه (علي شفيق المصري) وعرف بلقب (اوزدمير)( ) لم يخف مهمته إذ أذاع بأنه أقبل لإعادة فتح (ولاية الموصل).
بدأت أنشطة الترك تؤتي ثمارها. هاجم سيد محمد رئيس عشيرة (الجباري) مدير ناحية (جمجمال) وأصابه بجراح واستنفر قبيلته للثورة على "الحكومة" ولحق به (كريم فتاح) بك زعيم الهماوند مبتدئاً برسائل تهديد لمعاون الضابط السياسي البريطاني (بوند Bond) ثم تظاهر بتعديل موقفه ودعاه هو و(النقيب ماكانت Makant) إلى لقاء فقصداه رغم تحذير بعض الشيوخ، وفيما كانا يرافقانه على ظهر الخيل بمناسبة استقبال أعده لهما، أرديا بوابل من الرصاص من الخلف ثم انضم إلى (محمد الجباري)، وطاردته (قوات الليفي) و(القوة الجوية البريطانية) طوال شهر إلا أنه أفلت والتجأ إلى الترك. في عين الوقت تمكنت قوات الليفي التي أرسلت إلى (بشدر) من إنقاذ (بابكر آغا)، المهدد بفخذ من بشدر معادٍ وأعيدت إليه سلطته.
إلا أن الوضع في رانيه بات خطيراً فقد زادت الضغوط المزدوجة من (العقيد أوزدمير) أي (علي شفيق المصري) القائد التركي ومن التمرد الذي كان يقوده (عباسي محمود) من زعماء (البشدر). يقول الميجر إدموندز (المستشار البريطاني لوزارة الداخلية في بغداد):
"لخصت الموضوع برسالة مؤرخة في 2 تموز 1922م موجهة إلى كل من كولدسمث والمندوب السامي البريطاني. ومما ذكرت أن آغوات بشدر الثائرين أرسلوا وفداً مؤلفاً من أربعة أشخاص إلى الترك، ملحين عليهم بوجوب مساعدتهم في قيامهم بانتفاضة ضد البريطانيين. وفي حدود 28 من حزيران 1922م عاد ثلاث من أعضاء هذا الوفد ومع كل واحد منهم بندقية وخمسمائة إطلاقه على سبيل الهدية فضلاً عن رسالة مدونة على ورقة حكومية. ومصدرة بعنوان قائد الشعب الإسلامي في فلسطين وسورية. مذيلة بتوقيع [قائد الشعب الإسلامي في العراق وكردستان] ومما جاء فيا - إن (مصطفى كمال أتاتورك وجودت باشا) يعرفان جيداً خدمات أغوات البشدر وقد استغلتهما عن مساعدتهم الحرب في الشرق والغرب. والآن وقد أصبحت يداهما حرة فهاهما يرسلان [أحمد تقي] موفد كردستان إلى (وزنه) في إيران قرب عمود الحدود المرقم 116 برفقة خمسين جندياً لتقديم المساعدة الفعالة"( ).
وألح (ميجر إدموندز) بإرسال قوة تأديب دون جدوى. وتأزم الوضع إلى حد الخطورة بظهور (كريم فتاح بك) ثانية مع قوة من الترك اتجهت جماعات صغيرة منها إلى (رانية وبشدر). وكجزء من الخطة العامة بعث (أوزدمير) علي شفيق المصري رسائل إلى جميع الرؤساء في (نادوشت) يحثهم فيها على الانضمام إلى قواته.
ويبدو أن وصول قواتٍ بريطانية إلى (السليمانية) بقيادة (العقيد مينيت Minet) كان له أثره في تسكين الهياج الفكري من رخاوة البريطانيين في التصدي للدعاية التركية كما كان له أثره الفعال في القضاء على تردد القبائل في جوار (رانيه).
كان ثم هدوء وقتي نسبي لم يدم طويلاً فقد وصل (كريم فتاح بك) إلى (رواندوز) على رأس جمع من (عشيرة الهماوند). فبث شجاعة في الترك. ورفع من قدرهم ولم يضيعوا وقتاً تأهبوا للهجوم على (رانيه).
وعاد الضابط السياسي البريطاني (ميجر إدموندز) من كركوك يناشد بقوة، المندوب السامي البريطاني في العراق، إرسال قوات أرضية إلى المنطقة وشن غارات جوية على تجمعات القبائل التي أرصدها الترك للهجوم على (رانيه).
أخيراً استجابت دائرة المندوب السامي البريطاني في العراق لمناشدة (الميجر إدموندز) فأبلغ في مساء 17 آب 1922 برقياً بأن رتلاً عسكرياً سيتم تأليفه للقيام بعمليات عسكرية ضد التجمعات (التركية – الكردية) في منطقة (رانيه) وأطلق عليه اسم رتل رانيه Rania Column (واختصاراً رانيكول: Ranicol).
على أن إعداد القوة اقتضى وقتاً. وعندما تمام تشكيلها بدت قوة ضعيفة إلى حد يرثى له لا كما توقع (إدموندز) في 29 من آب 1922م رابطت هذه القوة في (دربندي رمكان) فباغتها قوات اوزدمير (علي شفيق المصري) التركية في صبيحة يوم 31 آب 1922م وألحقت بها هزيمة، وكان ضعف القيادة وترددها السبب الرئيس في الهزيمة. ففي نهاية ذلك اليوم وبعد أن اتضح لقائدها عجزها عن الصمود في مواقعها بـ (دربند رمكان) قرر الإنسحاب. وبسبب إصداره أوامر متناقضة إلى مرؤسيه في (رانيه) يومذاك سقطت البلدة  بيد الترك واضطر إلى الانسحاب باتجاه (كويسنجق) إلا أن ما كان القصد منه أن يكون انسحاباً منظماً انقلب إلى هزيمة ثم إلى مطاردة المهاجمين الذين انحدروا من المرتفعات المجاورة ليصلوا المتقهقرين بنار حامية من الجانبين ومن المؤخرة فمنيت القوة بخسائر كبيرة في الأرواح وفقد معظم مهماتها و(أثقالها) ولم ينقذها غير ظهور القوة الجوية البريطانية في الوقت المناسب، لتصلي المهاجمين بنار رشاشاتها وترغمهم على وقف المطاردة.
ذكر (ميجر سون) أن ما أصابه الترك من النجاح في (رانيه) يعود بالدرجة الأولى إلى السياسة البريطانية المتقلبة التي اتبعتها الإدارة في كردستان فضلاً عن أن هزيمة (سمكو آغا الشكاك) في إيران وتشتيت شمل أتباعه حملت معظمهم على الانضمام إلى الترك الذين استخدموهم فوراً وكان معظم قوة (اوزدمير) علي شفيق المصري من كرد جماعة (سمكو آغا الشكاك)( ).
هناك أسباب أخرى تعزى إلى استظهار الترك. أقرت بها تقارير الإدارة البريطانية: قوة صغيرة محدودة الموارد قادرة على إشاعة مثل هذا الاضطراب الكبير في كردستان وإلحاق الهزيمة بقوات نظامية بريطانية، تعود بلا شك إلى حنكة الضباط الأتراك الذي يقودونها معززة بانتشار الشائعة حول قرب تدفق قوات تركية نظامية كبيرة إلى كردستان.
احتلال (رانيه) والسيطرة على معظم منطقة (بشدر) والخوف من أن تكون (السليمانية) الهدف التالي دعت الإدارة البريطانية إلى اتخاذ تدابير عاجلة. وأصدر المندوب السامي قراراً بإخلاء الموظفين والضباط البريطانيين منها خشية تعرضهم إلى الخطر.
وأودع الضابط السياسي (ميجر كولدسمث) إمرة الإدارة - قبل مغادرته إلى المجلس البلدي الذي سارع باختيار (الشيخ قادر) وهو أخ الشيخ محمود الحفيد الأصغر رئيساً. وكان مبعداً في بغداد فسمح له بالعودة قبلها بأيام. وتضمن نقل السلطة انتقال محتويات الخزينة ومستودعات السلاح والذخيرة وقيادة مائتي عسكري كردي( ).
ثم وعلى حين غرة انطلقت نداءات من شتى المحافل الكردية ومن زعماء القبائل الموالية من متحدة مع مطالبة أسرة الحفيد البرزنجية الملحة بعود الشيخ محمود الحفيد.
كان رد الفعل تلقائياً وبدت الإدارة قليلة الحيلة إزاء التحركات التركية. إن هزيمة (رانيه) وإخلاء (السليمانية) شجع الترك كثيراً ولم يضيعوا وقتاً فقد ظهرت لهم قوة استطلاعية على ضفاف الزاب الأسفل مهددة خطوط المواصلات البريطانية وقبلها كانت قوة تركية صغيرة قد احتلت (كويسنجق)، ثم تقدمت لاحتلال (طقطق) على الزاب الأسفل وفي (كويسنجق) نصبوا قائمقاماً. وفي (طقطق) عينوا مدير ناحية وإنضمت إليهم (قبيلة شيخ بزيني) التي كانت تسكن ضفتي الزاب على الطريق الرئيسة بين (كويسنجق وكركوك).
واعتمد الترك حركات جريئة أخرى فدفعوا (بعباس محمود آغا) زعيم القسم المعادي من (يشدر) بإسناد عدد من الجنود الترك النظاميين ليهدد (السليمانية). إلا أن وجهاء السليمانية تمكنوا من إقناع الرئيس البشدري بوقف تقدمه في منطقة (سورداش) ... انتظاراً  لعودة الشيخ محمود الحفيد. وقيل أيضاً أن الترك يتهيأون للزحف على (عقره). لكن ما مضي شهر من الزمن وعلى إثر غارات عنيفة من القوة الجوية البريطانية - حتى أحبطت محاولات التقدم نحو (السليمانية) وعادت السيطرة البريطانية في المناطق التي لم تمتد إليها الاضطرابات.
الفريق الركن الدكتور
عبد العزيز عبد الرحمن المفتي

للراغبين الأطلاع على الحلقة الخامسة

http://www.algardenia.com/maqalat/14075-2014-12-16-19-09-23.html

أطفال الگاردينيا

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

564 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع