ولاية الموصل والحقوق الكوردية بعد الحرب العالمية الأولى / الحلقة الخامسة

                                           

ولاية الموصل والحقوق الكردية بعد الحرب العالمية الأولى /الحلقة الخامسة

     

         

            


               

* قضية ولاية الموصل في عصبة الأمم
وخلال محادثات مؤتمر لوزان الأولى أثبت الطرفان أنهما غير راغبين في التساوم فيما يتعلق بموضوع ولاية الموصل. ولذلك ففي 4 شباط (فبراير) عام 1923، اتفقت تركيا وبريطانيا على إخراج موضوع ولاية الموصل من جدول المفاوضات وفي محادثات مؤتمر لوزان الثانية المشار إليها سابقاً. ظلت قضية ولاية الموصل العائق الرئيسي في سبيل توقيع معاهدة سلام، بين تركيا ودول التحالف. ولهذا السبب اتفق الطرفان على الانتظار تسعة أشهر لبدء إجراءات التسوية المباشرة لقضية ولاية الموصل ودمجت هذه ضمن الفقرة الثالثة لمعاهدة لوزان في 24 تموز (يوليو) عام 1923( ).
وبعد الفشل في إيجاد تسوية للنزاع في غضون الفترة المذكورة، أبلغت الحكومة البريطانية عصبة الأمم في 30 آب (أغسطس) عام 1924 أن الطرفين فشلا في تحقيق التسوية وقررت لجنة عصبة الأمم أن خط بروكسل (Bruxsels Line) الحالة الراهنة في الحدود بين العراق وتركيا هو الذي سيظل الفاصل الحدودي المؤقت، إلى حين الوصول إلى التسوية النهائية لنزاع ولاية الموصل. وفي دورتها 30 عام 1924، وافقت لجنة عصبة الأمم المعنية بالموضوع إنشاء لجنة لتقصي الحقائق، تقوم بزيارة المناطق المتنازع عليها، لجمع المعلومات الضرورية لاتخاذ القرار حول وضع ولاية الموصل( ).
وقبيل وصول اللجنة إلى ولاية الموصل في شباط (فبراير) عام 1925، اتخذت كل من تركيا والحكومة العراقية، المدعوة من جانب بريطانيا، تدابير عديدة بغرض تعزيز موقفيهما وتقويته، في أوساط الكرد. وفي كانون الثاني (يناير) عام 1925، قام وزير الداخلية العراقي بجولة في إقليم جنوب كردستان، ووعد بأن الحقوق الوطنية الكردية سوف يعترف بها، إذا هم قرروا البقاء داخل العراق( ). وتتبع هذا عقد مؤتمر في أربيل أعدّه المسؤولون السياسيون البريطانيون، في المقاطعات الكردية، وقرر المؤتمر:
1. تقديم تعويضات سخيّة إلى القبائل الكردية التي تأثرت قراهم ومحاصيلهم، في أثناء الحملات العسكرية التأديبية التي قامت بها القوات البريطانية والعراقية المشتركة، ضد الأكراد الذين ساعدوا ثورة الشيخ محمود الحفيد في منطقة مدينة السليمانية.
2. قام الملك فيصل الأول بجولة في المنطقة الكردية، لإعطاء ضمانات للكرد فيما يتعلق بحقوقهم القومية الكردية داخل العراق.
3. المشرفون من (حكام الولايات الإنكليز) في المقاطعات الكردية في ولاية الموصل سيمنحون للكرد تفويضا أكبر في تسيير الأمور المعاشية.
4. سيتم وضع خطط فورية لمواصلة مد حظ السكك الحديدية التي بناها البريطانيون إلى أعماق كردستان، من أجل إقناع الكرد بأن الحكومة البريطانية لا تنوي مغادرة المنطقة.
5. وأخيراً جرى الاتفاق على اتخاذ تدابير عدة وعاجلة، للتصدي لأي جهود تركية لخلق عدم الاستقرار في كردستان، في أثناء إجراء اللجنة التحقيقات في المنطقة( ). وفضلاً عن ذلك، وفي محاولة لنهج سياسة تقدميه في شؤون الموصل تمكنت المخابرات البريطانية من الاتصال بأزادي، النادي القومي الكردي في جنوب شرق تركيا، لتنظيم عصيان وتمرد داخل الوحدة (18) من قوات المشاة المتمركزين في الحدود (حركة بيت الشباب) وكان هذا العصيان ضربة قاسية لخطة تركيا، الهادفة إلى إتباع سياسة هجومية في ولاية الموصل، عندما تكون استطلاعات لجنة عصبة الأمم جارية في المنطقة( ).
وزعمت الحكومة البريطانية أن القضية المتنازع عليها هي مجرد رسم حدود، وهي لا تستوجب إجراء استفتاء. في حين، أدعت تركيا أن مسألة الموصل هي مسألة تقرير مصير بالنسب للولاية( ). وعلى الرغم من أن لجنة التحقيق اتفقت مع تركيا على أن النزاع ليس محصوراً، على أمر رسم الحدود، وأن المسألة هي تقرير الوضع النهائي للولاية، وقررت اللجنة إجراء استطلاعات منتخبة، بدلاً من إجراء الاستفتاء العام، ولأن إجراء الاستفتاء كان من المتوقع أن يواجه صعوبات فنية غير ممكنة الحل( ). وفي المرحلة المبكرة من التحقيق أصرت تركيا على إجراء استفتاء في الولاية، كوسيلة لتسوية النزاع( ).
وعارض البريطانيون هذا الرأي بحجة أن أغلبية السكان في ولاية الموصل أميون من رجال القبائل، ولعدم وجود أجهزة مناسبة لإجراء مثل هذا الاستفتاء وأن إجراء الاستفتاء قد يؤدي إلى تهييج القبائل، لخلق اضطرابات في الأراضي المتنازع عليها، وأخيراً، فقد أجريت عصبة الأمم استطلاعاً عاماً لرأي السكان في الولاية، من أجل اتخاذ القرار في شأن وضع الولاية( ).
إن معارضة إجراء الاستفتاء تنبع من قناعة المسؤولين البريطانيين وشعورهم، بأن الاستفتاء سيكشف أن الأغلبية من الكرد يرغبون في العودة إلى تركيا. وجادل المسؤولون البريطانيون في الحال قائلين إن الكرد يحترمون القوة والجاه فقط. ويقول (أدموندز) مؤكداً هذا الزعم: "إن الكردي العادي يعرف أنه لو صوت ضد بريطانيا فإن احتمال معاقبة فعله هذا، بعيد أو مستبعد وأما إذا صوت ضد تركيا فإن الأخير سوف "تقوم بمعاقبته"( ). وعبر اللورد (تسمون) السكرتير في وزارة المستعمرات، عن مخاوف مماثلة، وأضاف يقول: "ولذا فهو (أي الكردي) سيصوت لصالح تركيا ويثق بطيب خلقنا"( ). ويذكر السيد (آر. كلارك جونسون) سبباً مختلفاً لتردد البريطانيين في إجراء الاستفتاء، قائلاً "إن وجهة نظر بريطانيا متناقضة. ومع أن وزير الخارجية (كيرزون) أحجم بكل حرص عن ذكرها. فلابد من أن يكون قد أدرك أن الاستفتاء سيكون كارثة للسياسة البريطانية. إن الغالبية العظمى من الكرد في الولاية يريدون الاستقلال أو على الأقل ضمان الحكم الذاتي، ولن يقبلوا تحت أي نوع من الظروف بأن يحكمهم العرب"( ).
إن وجهة نظر جونسون، هذه، تعبر عن موقف البريطانيين المتعلق بالاستفتاء، وتؤيدها رسالة كتبها السيد (آرجاردين) مساعد المستشار البريطاني، المصاحب لوفد لجنة التحقيق، وقال إنه إذا كانت لرغبات الكرد أن تؤخذ في الحساب، "فإن عدداً ضخماً" قد عبروا عن رغبتهم في دولة كردية ذات حكم ذاتي، تحت ظل البريطانيين، أو عصبة الأمم( ). وفضلاً عن هذا فإن تقرير لجنة عصبة الأمم التي زارت ولاية الموصل والصادر في تموز عام 1925، عن نتائج تحقيقاتها في الأراضي المتنازع عليها، يؤكد وجهة النظر هذه ويقول التقرير إذا كانت الاعتبارات الإثنية (العرقية) ستؤخذ كعامل وحيد في تقرير مستقبل الولاية، فإن إنشاء دولة كردية مستقلة سيكون شرعياً( ). ومن الأمور المستأثرة بالاهتمام أن الأتراك لم يكن لديهم أية مخاوف جدية، من احتمال أن يختار الكرد إنشاء دولة كردية منفصلة. وسبب هذا يعود جزئياً إلى إدراكهم أن القوميين الكرد غير موحدين، وأنهم نخبة صغيرة محصورة في السليمانية، وأن الزعماء القبليين مع رجالهم القبائل منقسمون في ولائهم كذلك( ). ويبدو أن الأتراك كانوا على يقين من حصول تصويت لصالح الرأي الموالي لتركيا، إذا جرى الاستفتاء فقد كانت لديهم حسابات مبالغ فيها عن (عدد الأتراك التركمان) الساكنين في ولاية الموصل، والدليل على ذلك هو أن تركيا أدعت باستمرار، مثلاً، أن عدد اللواء (محافظة) السليمانية هو 32900. غير أن تقرير اللجنة يقول بأن عدد التركمان شخصان فقط( ).
والتعليلات المختلفة المذكورة عن سبب معارضة البريطانيين لإجراء الاستفتاء، فيها شيء من الصحة. فالغالبية من السكان كما يزعم البريطانيون أميون من رجال القبائل الكرديــــة. فقد لا يتمكنــــون مـــــن المشاركة في الاستفتاء، أو أنه لا توجد الأجهزة الضرورية لإجراء الاستفتاء الذي سيكون معتمداً وغير مزور، وانعكاساً حقيقياً لرغبة سكان الأراضي المتنازع عليها. ولذا فإن الموقف البريطاني لا يمكن إغفاله. ومع ذلك، ينبغي الملاحظة هنا أنه في عام 1921 أجرت الحكومة البريطانية استفتاءً في كل العراق لانتخاب فيصل بن حسين ملكاً للعراق.
وعلى هذه الصورة فإن رأي تركيا أيضاً صحيح وسليم، فتقرير مصير منطقة ما، تحتوي على المليون من النفوس يستدعي استفتاء أهلها أيضاً. وصحيح أيضاً أنه كان لدى الحكومة البريطانية بعض المخاوف من أن نتيجة الاستفتاء قد تدعو إلى إقامة حكم ذاتي كردي، وأن طلباً اجتماعياً شعبياً كهذا من جانب الكرد سوف يضع السلطات البريطانية في العراق في حيرة، وهم ممن قرروا في أثناء فترة ما بعد مؤتمر لوزان عام 1923 الدمج الكامل للمقاطعات الكردية بالعراق، في وضع مربك.
ومع وصول اللجنة إلى كردستان في شباط (فبراير) عام 1925، ازدادت نشاطات الجماعات الموالية لتركيا في ولاية الموصل عبر الحدود. وشرعت اللجنة السرية الموالية لتركيا، في العمل بنشاط، وخاصة أولئك الذين يتزعمهم زعماء تركمان مشهورون في كركوك وأربيل، مثل: أن فتاح بيك، وناظم نفطجي زاده، وهمام عضوان من المنطقة، واللذان كانا يمثلان الولاية في عام 1924، في المجلس الوطني الأعلى في أنقرة، فقد استخدما نفوذهما في ولاية الموصل لتشجيع العناصر الموالية لتركيا، بإعلان تعاطفهم معها( ).
ولذلك بدأ كثير من الزعماء الكرد في الحدود في تحدي السلطات البريطانية بنحو علني هذا التحدي من جانب الكرد يرجع جزئياً إلى خوفهم من أن تركيا قد تعود إلى المنطقة، وتنتقم منهم، مثلاً، ونشرت بياناً في أربيل، يقول:
"أيها المسلمون الكرد اعتقد الإنكليز إنكم لا تعرفون قداسة دين محمد صلى الله عليه وسلم وحرمته ... ومن أجل خلق العداوة والحرب بين الجماعتين (الكرد والأتراك) قاموا بإنشاء حكم ذاتي لمصالحهم فقط، متجاهلين أن الكرد والأتراك إخوان في الدين وأنهم أمة واحدة. وعندما أدرك البريطانيون هذه الحقيقة ألغوا الحكم الذاتي وقذفوا بالقنابل في قلب مدينة السليمانية، وقتلوا أولادكم ودمروا ممتلكاتكم ... إن الأتراك يعودون لإنقاذكم من الكفار ... قولوا للجنة [لجنة التحقيق التابعة لصعبة الأمم] نحن مسلون ونعيش معاً مع المسلمين الأتراك، الذي يخدمون الإسلام، لا نريد أن نعيش مع العرب والكفار ... فإن ساندتم الحكومة العراقية فإنكم ستكونون حلفاء للعرب والكفار ... ولن ينفعكم الندم"( ).
لقد جمع هذا البيان بين إثارة العواطف الدينية والتحذير من العواقب الرهيبة والوخيمة في حالة مساندة السلطات البريطانية من قبل الكرد، وقد رافقها نشر الشائعات. فقد قيل للكرد مثلاً، إن الشيخ محمود قد احتل السليمانية مرة أخرى، وإن عدداً كبيراً من القوات التركية قد عبرت الحدود في بلدة زاخو( ). ويبدو أن مثل هذه الشائعات كان لها صدى كبير في سكان شمال العراق. وفي آذار (ممارس) عام 1925، كتبت السيد بيل أن التهديدات التركية ودعاياتها كانت لها آثار معينة في الكرد، وقد استحوذت عليهم كثيراً بمساعدة "أشخاص سيئين"( ) وقد استمرت الاتصالات التركية في أوساط قبائل الكرد في الحدود مع تركيا في بهدينان، بصفة خاصة، واجتمع الزعماء الدينيون والوجهاء في الحدود الشمالية ووافقوا على سياسة عصيان مدني عام، وذلك عن طريق رفض دفع الضرائب إلى حكومة العراق؛ فضلاً عن ذلك، قام عدد من الزعماء في المنطقة بالاتصال بالقائد التركي (شفيق المصري) على الحدود معبرين عن استعدادهم للقتال إلى جانب تركيا، إذا قررت عبور الحدود( ). وفي غضون ذلك استغل مصطفى كمال حادث الثورة المعادية للكمالية التي قادها الشيخ الكردي سعيد بيران 1925، في جنوب شرق تركيا، ذريعة لحشد حوالي خمسين ألف من قواته، وقوات أخرى غير نظامية على الحدود( )، ويبدو من هذا أن تركيا كانت تحاول اتباع سياستها الهجومية المعتادة، وذلك بحشد أكبر عدد من قواتها النظامية لممارسة الضغط على العدو، وإرسال زمرة من القوات غير النظامية عبر الحدود، لحرب الإنهاك والاستنزاف. وهذه هي الوسيلة التي استخدمتها تركيا لإجبار فرنسا على الانسحاب من منطقة غازي عينتاب (gaziantep) في شرق تركيا، وكذلك في إجبار اليونان على الخروج من أزمير. وظنت تركيا أن إرسال "الجتا" (القوات غير النظامية) عبر الحدود الشمالية، للشن هجمات متزامنة مع هجمات الكرد يجبر البريطانيين على الخروج من أزمير. وظنت تركيا أن إرسال "الجتا" (القوات غير النظامية) عبر الحدود الشمالية، لشن هجمات متزامنة مع هجمات الكر والفر التي كان يشنها الشيخ محمود الحفيد، في الجانب الشمالي الشرقي للحدود، قد يجبر البريطانيين على الخروج من ولاية الموصل( ). والقصد من حشد القوات أيضاً إظهار تصميم تركي، على أدعائها لولاية الموصل، وأراد مصطفى كمال أتاتورك أن تكون لهذه الدعايات "تأثيراً معنوياً" في مناقشات لجنة التحقيق( ).
ولجأت الحكومة البريطانية، هي الأخرى، إلى التلاعب مع الكرد واستغلالهم. وقبل وصول لجنة التحقيق اتفق المسؤولين البريطانيون معم الكرد على عمل ترتيبات معينة وجرى تشجيع الكرد الموالين لبريطانيا في السليمانية لتكون "جمعية مدافعي وطني سليمانية" (الجمعية القومية للدفاع في السليمانية) ونشرت صحيفة (زيانة وهـ Zhianawa) آراءهم. كما نشرت المجلة المذكورة افتتاحيات ومقالات تذكُّر فيها الكرد بالعذاب والشقاء، خلال فترة سيطرة الترك السابقة، وأكدت الصحيفة الحاجة إلى وجود صداقة بين بريطانيا والكرد( ) فضلاً عن ذلك عندما كانت لجنة التحقيق في السليمانية، وعبرت عن استعدادها للالتقاء بالشيخ محمود الحفيد، قام المسؤولون البريطانيون بمعارضة ذلك محتجين بأن لقاء كهذا سوف يعطي الشرعية لثورة الشيخ محمود، في أعين الكرد، وسيؤدي إلى تعقيد مهام اللجنة في المنطقة.
وفي كركوك جرى اعتقال سيد أحمد خانقا الموالي لتركيا. وجيء بزعماء من عشيرة طالباني الكردية وعدد من الوجهاء ورجال الدين والشخصيات البارزة من قبل المسؤولين البريطانيين، ليعبروا عن استيائهم للجنة، فيما يتعلق بإلغاء الأتراك الخلافة. وجرى اتخاذ إجراءات مماثلة في أربيل. وأعطيت صلاحيات واسعة للكابتن (ليون) الضابط السياسي في الموصل، باعتقال كل العناصر الموالية لتركيا ونفيهم( ) وفي لواء الموصل كان العرب المسلمون والمسيحيون والكرد اليزيديون، في أغلب الحالات، هم الحريصون بقوة على الوحدة مع العراق وابتعد جزء كبير من الكرد عن مصطفى كمال، بسبب إلغائه الخلافة( ). وجرى سجن الزعماء الموالين الذين أظهروا ولاءهم لتركيا ورفضوا دفع الضرائب أو جرى نفيهم وخربت قراهم بالقنابل، وأحرقت من قبل المجندين الآشوريين المرتزقة.  وكان حملات القمع واسعة النطاق، حتى إن الشيخ أحمد البارزاني من بارزان كتب إلى الحكومة العراقية في 10 من شهر مارس (مايو) 1925 قائلاً لهم: "إذا لم تتوقف حملة الغارات فسيكون هو وعدد من القبائل مجبورين على الهجرة الجماعية إلى تركيا"( ) فضلاً عن ذلك، كانت عمليات الاعتقال والنفي تجري على نطاق واسع في ولاية الموصل، حتى إن لجنة التحقيق وجهت شكاوي إلى كل المسؤولين البريطانيين والحكومة العراقية حول الموضوع( ).
بالمقارنة مع تركيا، كانت الحكومة البريطانية لها الأفضلية بالنسبة للعلاقة مع الكرد، في أثناء الصراع على الموصل في عام 1925 وكان بعض الكرد قد أوجدوا لأنفسهم مصالح في الحكومة العراقية، وذلك عن طريق انتخاب ممثلين من الكرد في المناطق الكردية، إلى مجلس النواب العراقي، وفضلاً عن ذلك وعد الملك فيصل بضمان الحقوق الثقافية الكردية، إذا قرر الكرد البقاء داخل العراق. وحذرت وسائل الإعلام البريطانية والعراقية الكرد من أنهم إذا انضموا إلى الأتراك فسوف يفقدون حقوقهم الوطنية التي كفلت لهم في العراق( ). وأخيراً، وفي محاولة لطمأنة وجهاء المدينة والزعماء الذين امتلكوا الأراضي بصورة غير رسمية، ومن أجل كسبهم إلى جانب بريطانيا في النزاع، طلبت الحكومة البريطانية من الحكومة العراقية ألا تفتح سجلات الأراضي الخاصة بالطابو، في أثناء وجود لجنة التحقيق هناك( ).
لكن الحادثة التي كانت لها آثار بالغة في موقف الكرد خلال النزاع على ولاية الموصل، هي ثورة عام 1925 في أوساط الكرد في تركيا. فمنذ مؤتمر لوزان 1923، كان الأتراك يصرون بكل قوة على أنهم والكرد متحدون في الجنس والدين، وقد زعموا أن العلاقات التركية - الكردية كانت ممتازة دائمة، وثورة شهري آذار / نيسان (مارس / أبريل) عام 1925 التي قادها الشيخ سعيد بيران، والوحشية التي جرى بها قمعها، قضت على كل ادعاء بوحدة الكرد والترك، وهدمت كل الأسس التي بنت عليها تركيا ادعاءاتها بتركية ولاية الموصل. وجاءت الثورة بصفة خاصة في زمن غير مناسب للأتراك، وبذلك أيدت الإدعاءات البريطانية القائلة: إن الكرد لا يريدون أن يحكمهم الأتراك( ).
وبينما كانت لجنة التحقيق تقوم بجولة في المناطق الحدودية، كان المئات من اللاجئين الكرد يعبرون الحدود من تركيا إلى داخل العراق، يحملون معهم روايات عن فظاعة الأتراك ووحشيتهم، في التعامل مع الكرد. وكانت هذه ضربة لسمعة تركيا في أوساط قبائل الكرد على الحدود، والتي كانت غالبيتها من الموالين لتركيا( )، ونقلت صحيفة (زيانه وه أيضاً أنباء عن حدوث مذبحة واسعة النطاق، ضد الكرد في تركيا. وكذلك نقلت نبأ محاكمة الشيخ سعيد وإعدامه، مع عدد آخر من الكرد في شمال كردستان. وهذه الحادثة أبعدت الشيوخ الدينيين، الذين كانوا يدافعون سابقاً عن ادعاء تركيا في ولاية الموصل، وموقف حكومة تركيا( ). وفي الواقع فإن قيام مصطفى كمال بإلغائه الخلافة وقمعه ثورة الشيخ سعيد بيران 1925، قد قطع جذور ادعاءاته لولاية الموصل. ولاحظ جويدة قائلاً: إن قيام الشيخ سعيد بالثورة والوحشية التي جرى بها قمع الثورة، كانت لها بالتأكيد الفضل في حل المسألة لصالح بريطانيا( ).

* الكرد وقرار الحكم على ولاية الموصل
رد الكرد على قرار عصبة الأمم في 16 كانون الأول (ديسمبر)عام 1925، حين تبنى مجلس عصبة الأمم قراراً اعتمد بصورة رئيسية على توصية لجنة التحقيق، والتي قضت بضم ولاية الموصل للعراق. وكان هذا الحكم مرتبطاً بمجموعة من الشروط التي كانت لها آثار على مستقبل سياسة بريطانياً تجاه الكرد:
1. تعين خط بركسل (الخط المار والواقع) كفاصل حدودي بين تركيا والعراق.
2. ويطلب مــــن بريطانيا إعداد معاهدة جديدة مع العراق وتقديمها إلى المجلس والتــــي ستمدد فيها فترة الانتداب لخمس وعشرين سنة إضافية، إلا إذا جــــرى قبول العراق عضواً في عصبة الأمم، كما تنص على ذلك الفقرة 1: من الميثاق قبل انقضاء تلك الفترة.
3. الطلب إلى الحكومة البريطانية تقديم تفاصل عن التدابير الإدارية التي ستتخذ مع الأخذ بالحسبان ضمان الحقوق الثقافية للكرد وكذلك توفير التزامات التي تضمن للكرد نوعاً من الإدارة الذاتية( ).

إن إلقاء نظرة دقيقة لشروط قرار عصبة الأمم يبين بجلاء أثر قضية الكرد في نزاع ولاية الموصل. والدعوة إلى وضع معاهدة جديدة لتكون أساساً للعلاقات الأنجلو - العراقية لفترة خمسة وعشرين سنة القادمة، كما اتفق عليها في الشرط رقم 2 من قرار التحكيم، وأن تعد درجة معينة من قبل عصبة الأمم كي تضمن أن الحكومة العراقية ستقوم بتنفيذ الفقرات المتعلقة بالحقوق الكردية؛ وهذا الشرط كررته توصية لجنة التحقيق، بأنه إذا انتهت فترة الانتداب بحلول عام 1928، كما هو منصوص عليها في المعاهدة الأنجلو ـ العراقية لعام 1922، بدون تكفل الحقوق الكردية، "فإن غالبية السكان" يختارون الحكم التركي بدلاً من الحكم العربي( ).
وفي 13 كانون الثاني (يناير) عام 1926 جرى توقيع معاهدة جديدة بين العراق والمملكة المتحدة، وسط معارضة شعبية عامة في العراق. وطبقاً لإيرسكين صاحب كتاب - ترجمة حياة الملك فيصل-، فإن الملك قد أجبر على قبول المعاهدة الجديدة، والتي تمدد فترة الوجود البريطاني في العراق. وقد قيل للملك بكل وضوح إنه إما أن يوقع على المعاهدة الجديدة، أو يفقد كردستان( ). وهذا دليل آخر على كيفية استخدام البريطانيين القضية الكردية ذريعة لتمديد فترة بقائهم في العراق. ومن جانب آخر استخدمت بريطانيا القوميين العرب في العراق لاضطهاد الكرد، وليكونوا سداً في وجه التركي مصطفى كمال.
وفضلاً عن ذلك، أشارت لجنة التحقيق إلى أن الكرد، عامة، يفضلون الحكم الذاتي تحت الإدارة البريطانية. ومع ذلك يبدو أن البريطانيين استخدموا نفوذهم لدى اللجنة، وبعد ذلك استخدموها لدى المجلس أيضاً للتغاضي عن هذا الطلب من قبل الكرد. وبعد مؤتمر لوزان، أرادت بريطانيا اختصار مطالب القوميين الكرد التي أسماها البريطانيون بـ "المطالب العملية" التي أصبحت، فقط، حقوقاً ثقافية، وإدارية محلية، وكانت هذه السياسة منسجمة أيضاً مع أهداف سياستهم في إيران وتركيا( ). وهذه الملاحظات الآتية للسيد دوبيس في شباط (فبراير) عام 1926 تساعد على إلقاء مزيد من الأضواء على سياسة فترة ما بعد لوزان:
"... كانت الحقيقة أنه وفي أثناء الحرب، وبينما كان التوقيع على معاهدة سيفر ممكناً، كانت حكومة جلالته تبذل جهوداً كبيرة في تشجيع القومية الكردية التي كانت لها نتائج سلبية على مصالحنا والسياسة الحاضرة ... ومهما كان فهي محاولات للابتعاد عن أية سياسة انفصالية من جانب الكرد في العراق، وإن حكومة جلالته ملتزمة بأن ترى مطالبهم المعقولــــــة، فيما يتعلق باستخدامهم للغتهم القومية، وكذلك تعيين المسؤولين الكرد في المناطق الكردية ... قد نفذته الحكومة العراقية"( ).
وطبقاً لما ينص عليه الشرط، رقم (3)، من قرار التحكيم، فإن الحكومة البريطانية مطالبة بأن توفر "الضمانات" و"التدابير الإدارية" لكافة حقوق الكرد في العراق. إن التوقيع على معاهدة عام 1926 الأنجلو - العراقية بعد ثلاثة أسابيع فقط، من تسوية ولاية الموصل التي ألزمت بريطانيا، بالإشراف على سير تنفيذ الحكومة العراقية لالتزاماتها المتعلقة بحقوق الكرد، كانت الخطوة الأولى التي أشارت إلى استعداد الحكومتين العراقية والبريطانية للوفاء بالتزاماتهم( ).
وفي المأدبة التي أقيمت، في مقر المندوبة البريطانية، بمناسبة التوقيع على المعاهدة الجديدة، ألقي السيد بي. بوردلون، المندوب السامي البريطاني المؤقت خطاباً كان قد أجيز سابقاً من قبل أميري (وزير المستعمرات)، يذكر فيها الحكومة العراقية بوعودها المنصوص عليها في شروط قرار تحكيم الموصل وأضاف قائلاً:
"إن هدف الحكومة العراقية يجب أن يكون هو جعل كل العراقيين مواطنين صالحين. وسيصار إلى عمل هذا بصورة أفضل، عن طريق تشجيعهم لا عن طريق ثنيهم عن الاعتزاز بلغتهم أو عرقهم كأفراد. فالكردي ليس عربياً، كما أن الرجل الاسكتلندي ليس رجلاً إنجليزياً، بهذا سنجعله مواطناً عراقياً جيداً، لا عن طريق إجباره على اتخاذ الطريقة العربية في الكلام والتصرف ... بل بإعطائه الفرصة، والتشجيع ليكون فرداً كردياً جيداً"( ).
وفي رده على هذا الخطاب، كرر الملك فيصل استعداد حكومته لتنفيذ جميع التزاماتها، المدرجة تحت قرار التحكيم، في قضية ولاية الموصل. وأضاف الملك قائلاً: "إن بين أولى الواجبات على كل مواطن عراقي حقيقي، هو تشجيع أخيه الكردي العراقي ليتمسك بوطنيته ... وليكون أعضاء نشطين في وطن مشترك لهم، والتركيز على وحدتهم وتعاونهم فيما بينهم"( ).
وفضلاً عن ذلك، ففي 21 كانون الثاني (يناير) عام 1926 ألقى السيد عبد المحسن السعدون، رئيس الوزراء العراقي، خطاباً أمام مجلس النواب، كرر فيه النقاط في الخطابين المذكورين سالفاً، من قبل المندوب السامي والملك فيصل: "نحن على وعي أن الحكومة قد حددت سياستها تجاه الكرد ... وأنه من واجبنا أن نعطي شعب الشمال حقوقهم، بصورة مرضية ومنسجمة مع مصالح دولتهم ... سيداتي، إن هذا البلد لن يستطيع العيش ما لم يعط كل عناصر الشعب العراقي حقوقهم وكلنا يعلم أن الحكومة التركية قد عانت الخلاف والشقاق والتمزق لكونها اغتصبت حقوق العناصر الأخرى الموجودة ... وليكن مصير الأتراك درساً لمن اعتبر"( ).
وهذه الخطابات تبعتها أوامر الحكومة المرسلة إلى الوزارات، جمعها، بشأن تنفيذ السياسة الكردية الجديدة للحكومة. والتركيز العمومي على الخطابات الثلاثة المذكورة، فيما سبق، وهي أن الحكومة العراقية يجب أن تعمل على إعطاء شعور وطني للكرد، بجعلهم عراقيين، وليس بتعريبهم. ونسأل هل ألقيت هذه الخطابات لمجرد إرضاء عصبة الأمم، أم أنها تعبير لسياسة بعيدة النظر؟ ومهما كانت الدوافع السياسية لهذه التصريحات، فإنها تركت بصماتها في مجريات الأحداث في كردستان خلال السنوات (1925–1931م).
وفي كانون الثاني/فبراير عام 1926، كان تصور الحكومة البريطانية أن الحكومة العراقية ماضية بنفسها فعلاً في متابعة سياستها، بإعطاء ضمانات الحقوق الثقافية للكرد، وأن هذه السياسة ليس لها علاقة كبيرة بمسالة الالتزام بالشروط المنصوص عليها. في قرار تحكيم مسألة الموصل.
ولتجسيد وجهة النظر هذه، رفعت الحكومة البريطانية في 24 شباط (فبراير) عام 1926 مذكرة إلى عصبة الأمم والتي تحتوي على تفاصيل الإجراءات الإدارية التي اتخذتها الحكومة العراقية، لإرضاء التطلعات القومية للمعتدلين من الكرد. وأشارت المذكرة من بين أشياء أخرى إلى أن أغلب المسؤولين الرسميين في المقاطعات الكردية هم من الكرد، وأن الحكومة تحاول دائماً أن لا يجري تعيين مسؤولين عرب في هذه المناطق إلا في حالة عدم وجود أصحاب كفاءات من بين الكرد( ).

* الخلاصة
فمجمل القول هو أن سياسة بريطانيا، في أثناء أزمة ولاية الموصل، كانت إلى حد بعيد متأثرة برغبتها في الحفاظ على مصالحها الإمبريالية، مثل البترول، وكذلك في السيطرة على المنافذ الحيوية في المنطقة. وتركيا من جانب آخر، كانت قلقة إلى درجة كبيرة من تشجيع الحكومة البريطانية للقومية الكردية، في ولاية الموصل التي كانت تعدها تهديداً لمصالحها الوطنية، وكونها ضربة موجهة إلى سياستها المتمثلة في صهر الكرد التابعين لها في دولتهم القومية التركية. وقضية ولاية الموصل كانت أول مناسبة دولية يكون للمسألة الكردية أثر مهم في سياسات الشرق الأوسط.
الفريق الركن الدكتور
عبد العزيز عبد الرحمن المفتي
للراغبين الأطلاع على الحلقة الرابعة...

http://www.algardenia.com/maqalat/13966-2014-12-09-19-23-36.html

أطفال الگاردينيا

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

699 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع