أعـمـى بطـريق مـظـلـم / الحلقة الرابعة عشر

                                     

                     د.عبدالرزاق محمد جعفر

        

 صدر أمر تعيين "صابر" في قسم الكيمياء بدارالمعلمين العالية (كلية التربية / حالياً), وهي نفس الكلية التي تخرج منها,.. وصدرأمرجامعة بغداد في صباح يوم الخميس, ..

وتوجه  حاملاً أمر التعيين الى رئاسة القسم العاشرة صباحاً, .. وتعجب ذلك الرئيس من امكانية"صابر" على التعيين في بغداد,.. حيث جميع الوافدين الجدد يكون تعيينهم في جامعة الموصل أو بغداد, وما ان طلب "صابر" أمر المباشرة, حتى قال له رئيس القسم : كيف اصدر لك الأمروقد اقتربت الساعة من منتصف النهار, وغداً الجمعة,.. لذا تعال السبت صباحاً لعمل المباشرة !  استغرب صابر وهو الذي ذاق مرارة روتين التعيين منذ وصوله قبل ثلا ثة اشهر, ..اضافة للحصارالأقتصادي المفروض عليه بعد وفاة والده في اليوم الثاني من وصوله لأرض الوطن ولذا احتد السجال بينه وبين رئيس القسم ,ووصلت الأصوات الى خارج المكتب , وتمكن سكرتيرالقسم من اقناع الدكتور"صابر",فأطاعه وتفهم الأمر,.. وجاء السبت وعلم فيما بعد ان ذلك الرئيس من جماعة العهد الملكي ومقتنع ان كل من يحمل شهادة من الأتحاد السوفيتي ,.. فهو شـيوعي !,..وما ان اتصل به رئيس الدائرة الكيمياوية واعلمه بجدارة الدكتور "صابر", واكتشافه العلمي , حتى ترسخت صحبتهما بالرغم من فارق السـن بينهما!

                                                

وبعد مضي عدة أشهر على عودة "صابر",..استقر بعض الشيء ،  إلا أن النحس لم يمهله، حيث اندلعت حرب 5/6/1967 بين العرب والصهاينة ، ودبت المظاهرات  العاصمة وعموم المحافظات,.. فتخوف "صابر" من غلق الحدود وحدوث اضطرابات او انقلاب, لذا أضطرإلى تسـفـير زوجته الروسـية إلى وطنها على أن يلتحق بها في العطلة الصيفية,.. ولذا استخرج جواز سـفـرعراقي لولده وأعطى موافقته على سـفـره بمعيتها،الا ان الزوجة, ولغاية في نفس يعقوب,..لم تبرز جواز سفر الطفل العراقي عندما وصلت إلى مطار موسكو وعرضت جواز سفرها الحاوي على كل البيانات حول الطفل, أي دخل على أنه "روسي الجنســية ",.. وقد علم صابر بتلك الأمورعند وصوله موسكو ولمـس اصرار والديها على عدم عودة ابنتهما للعراق!

                          

بذل "صابر" قصارى جهده لإقناع زوجته وحثها على تغيير رأي والديها , وتنازل عن أخذ الطفل معه وتركه عندهم، إلا أنها لم تذعن لتوسلاته و كافة إغراءاته مطلقاً !
لم تذعن الزوجة لرغبة الدكتور "صابر",..وقد لـمـس اصرارها وترديدها اقوال والدها عن الحرب وخطرها, وطلبت منه البقاء في وطنها وهي تعلم علم اليقين استحالة ذلك.
 اقتربت الأجازة الصيفية من نهايتها, ولا بُـدً "لصابر" من العودة الى وطنه, وبعد ان يأس من أقناع الزوجة مرافقته,.. ألتجأت للخديعة,.. وطلبت منه ان يسمح لها بالبقاء فقط لهذا العام لأكمال سنتها الأخيرة في المعهد الذي تركته بسبب سفرها معه للعراق, وهكذا انطلت الخدعة على "صابر" وهو الذي يوصي الجميع بالحذر من الثقة العمياء!

صار "صابر" أمام الأمر الواقع ,..فأما الطلاق أو التريث لما بعد سفره على أمل أن يعمل الفراق على وتر المشاعر العاطفية أضافة لتعلق الطفل بأبيه قد يساعد من تغيير موقفها من العودة الى العراق ,..وهكذا غير "صابر" من السيناريوالمتشائم , لأعتقاده بتعلق زوجته به, فقد تحملت العذاب والطرد والـعـيـش بضنك لايمكن وصفه بسبب تعلقها به, فهل يعقل ان ينتزع الأهل منها "صابرجك", كما كانت تناديه وفق اللغة الروسية !   
 هدأ "صابر" وتعوذ من الشيطان لترك الأوهام, وراح يعلل النفس ويقول : فيها صالح !..
 حيث كان يأمل الحصول على عمل كأستاذ في أحدى الجامعات السعودية,.. فقد قدم وثائقه الى الملحق الثقافي قبل مغادرته بغداد,.. وان وجود الزوجة عند اهلها يتيح له السفر بمفرده, لأن المملكة لا تسمح للأجنبيات غيرالمحجبات الأقامة في مكة , وهذا لا يروق لزوجته !
***
طاوع "صابر" زوجته ووافق على بقاءها في موسكوعند والديها آملاً بـتغـيـرقرارها بعد ما يصعب عليها العـيـش المقنن في موسكو, مقارنة مع رفاه العيش في العراق آنذاك  مثال ذلك سهولة التبضع من دون الوقوف في (الأوجرد باللغة الروسية),أي (الطابور) أو( السـره), اضافة الى شراء النوعيات الجيدة التي كان من الصعب على الفرد في موسكوالحصول عليها الا بدفع اضعاف ثمنها او شرائها بالعملة الصعبة من مخازن حكومية لا يدخلها الا الأجانب !
***
تحدد يوم المغادرة من موسـكو, وحجزالدكتور"صابر" بالقطارالمتوجه الى  صـوفيا عاصمة  بلغاريا , لقضاء بعض الوقت بضيافة احد الأقارب الدارس في مدينة كيكندا.
حان موعد المغادرة وتوجه صابر مع زوجته ولفيفاً من اصحابه الى محطة القطار الرئيسية
في موسكو, .. ولم تظهر على "صابر" اي انفعالات,..وتسامر مع اصحابه على أمل العودة الى موسكو في عطلة نصف السنة القادمه ,..وفي تلك الأثناء صعدت الزوجة الى مقصورة "صابر", ووضعت شيئاً ما في حقيبتة اليدوية,..ولم يهتم لتصرفها, وبدأ القطار بالتململ معلناً بصفارته المعهودة بوجوب توديع الأحباب ,..وفي لحظات تم الوداع مع الحبيبة التي طفح عليها الحزن بشكل ملفت للنظر, .. فهون عليها الأمر وضمها الى صدره وهمس في اذنها عبارات كانت تسعدها, فهدأت وافترق معها وصعد مقصورته وراح يلوح بيده من نافذة القطار, ولوعة الفراق تزداد سعيراً !
***
جلس "صابر" بعد ان ابتعد القطار وانعدمت رؤيا الأحباب, وراح يستعرض ما مـرً به من عذاب,.. فأبتسم وغرق في حلم اليقظة ,..ومضى يحاسب ذاته على ما اقترف من اخطاء في مسيرته, وطوى الأحداث منذ اليوم الأول الذي وطأت بها قدماه أرض موسكو ,..واليوم الأول الذي التقى به وصحبه بباقة من الصبايا,..والسنين الممتعة التي قضاها مع(خطيبته آلجكا),  والتي لم يرضخ لمطالبتها بالزواج منه, وعاتب نفسه على تسرعه بالزواج من فتاة في مقتبل العمر ولا تملك قرارها, ولا يدري ما ذا يؤدي البعد عنها,.. لقد تركها لقمة سائغة لوالديها , اي" ودع البزون شحمه "  كما في المثل العراقي !
مضت الدقائق والساعات مسرعة, تتراقص على نغمات القطار السريع الذي يحيي المدن قبل الوصول اليها وعند مغادرتها , ثم توقـف  في احدى المحطات الكبيرة, واطل "صابر", ليراقب الناس وهم يسعون للوصول الى  مقاعدهم  قبل انتهاء الوقت المحدد للوقوف في تلك المحطة,  ولاحظ من على بعد امرأة بمقتبل العمروبمعيتها صبية تقتربان من عربته,ويصعدان في اللحظة التي بـدأ فيها القطار بالتحرك, .. فأســتعانت المرأة " بصابر", ليدلها على مكان مقصورتها (كابينتها), وتريه تذكرة سفرها, فيشير لها "صابر"الى نفس مقصورته, ويساعدهما بالدخول ,.. وما ان جلست المرأة وابنتها , حتى تم التعارف باللغة الروسية,فهن من يوغسلافيا و يسكنان نفس مدينة (كيكندا),المتوجه لها, وانهـن عائدتان من زيارة ابنتهما الكبرى المتزوجة من شاب روسي,..وان الصبية في سنتها النهائية في كلية الرياضة !
المفروض ان يصل القطاربعد ثلاثة ايام من زمن تحركه من محطة قطار موسكو,.. وبما ان  المقصورة تتكون من اربعة اسرة,..فقد ترك صابر الخيار لهن لأختيارالأسرة بالرغم من وجود رقم المكان على كل بطاقة,.. فشكرت الأم "صابر"ودعته لتناول العشاء معهن,..وابى صابر,.. ودعاهن للسهرة معه في مطعم القطار, فلبت الصبية على الفور الدعوة واعتذرت الأم عن المشاركة ورغبتها في التسطح لحين عودتهما!
لا اعتقد ان تلك السهرة بحاجة لشرح ما تم بها بين طالبة جامعية ودكتورشاب خريج من جامعة موسكو,.. فالحياة الأجتماعية متقاربة في كافة الدول الأوربية شرقية كانت أم غربية,.. لا شيئ يعلو فوق القانون!.. والقانون في مثل تلك الحالة هو التوافق والمشاعر العاطفية المتبادلة ,..وما فيش حـًد احسـن من حـًد ,.. وهكذا طمر "صابر" آلام الأيام التي قضاها بالتفاوض مع زوجته المتمردة او قل المخدوعة في موسكو, وليترك ما تؤول له الأيام للزمن ولينعم بما هو بين يديه من صبا وجمال ,..ولينـسى ولأول مـرة مُثله العليا  التي ترعرع في كنفها, وليعش ليلته مع هذه الغادة الجميلة وليكن من بعده الطوفان!
عاد "صابر" الى مقصورته مصطحباً الصبية معه,.. بعد سـهرة بريئة في مطعم القطار!
ووجدا الأم قد غطت في نومها ,..واكملا حديثهما في الممر,.. وتطرقا للعديد من مشاكل الشباب والزواج , والأفلام السينمائية والمسرحيات, واموراً غيرها, الى ان أشـرقت  الشـمـس  حيث تشرق في مثل ذلك الموسم عند الثانية مساءاً!  
لم يدري "صابر" باللي صار وجرى,..وكل الذي يتذكره أنه قد فاق من غفوته قبل منتصف النهار,.حيث وصل مفتش التذاكر,..فتبادل مع الأم والصبية تحية الصباح,.. وطلبت الأم من "صابر" ان يشاركهما الفطور,..فلبى الدعوة بشرط ان يجلب للجميع مشروباً ساخناً,.. وتم له ما اراد وتناولوا الفطورعلى انغام موسيقى عذبة تبثها اذاعة القطار, يتخللها تنبيه عن المدن التي سيصلها القطارلكي يتهيأ الركاب للنزول فور توقف القطار لدقائق محددة. لشراء بعض الضروريات ,.. والعودة بسرعة حال سماع صفارة القطار!

يتبع في الحلقة / 15 مع محبتي


للراغبين الأطلاع على الحلقة السابقة:

http://www.algardenia.com/maqalat/13425-2014-11-06-17-18-22.html
 

أطفال الگاردينيا

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

1081 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع