أمريكا كما أكتشفتها في أول زيارة صيف ١٩٦٨ كطالب بعثة في بريطانيا

     

       

                                                         أيوب عيسى أوغنا 

          معماري و خبير ومحكم دولي وخليجي معتمد
                     مسقط/ سلطنة عمان

       

أمريكا كما أكتشفتها في أول زيارة صيف ١٩٦٨ كطالب بعثة في بريطانيا

في برنامج لتبادل الطلبة بين الجامعات البريطانية و الأمريكية , كان يشمل توفير الفيزا للزيارة والعمل بين البلدين , لذا قررت في صيف 1968 أن أجرب حظي في التقديم , وأقول أجرب لأنني لم أكن متأكدا من نجاحي في الحصول على الفيزا , أولا كعراقي و ثانيا أن جوازي العراقي لم يشمل البلدان التي يسمح لي بزيارتها عدا بريطانيا و فرنسا فقط , ونظرا لعدم أهدار تلك الفرصة السانحة , قررت أن أكتب بخط يدي على الجواز أمريكا ( يو أس أي , اولسو أونلي) أيضا فقط , وذهبت الى القنصلية الأمريكية في ليفربول ويدي على قلبي من أكتشاف التزوير ورفض طلبي , ولكن المرأة كانت بشوشة بأبتسامة ترحيب ملأ قلبي بالأمل , وبادلتها التحية و الأبتسامة وأنا أضع الجواز العراقي المشؤوم بين يديها , ومن حسن حظي لم تتصفح الجواز وخاصة أنني كنت في طابور مع عدد من الطلبة الأنكليز وختمت جوازي بنفس السهولة مع الآخرين , ولم أصدق عيني للنظر في الختم على صفحة الجواز , وهكذا تحققت أمنيتي بالفوز بالتأشيرة وحجزت مقعدي للسفر بتاريخ 2 تموز على طائرة (أير لينجس الأيرلندية) التي خصصت عدد من رحلاتها لهؤلاء الطلبة بتخفيضات ميسرة , وبعد ترانزيت في دبلن و رؤية أيرلندة كبساط أخضر في غاية الروعة من الطائرة , أتجهنا بدون توقف الى مطار جون كنيدي في نيويورك , وما لفت أنتباهي في المطار أفراد الشرطة ومسدساتهم تتدلى في خصرهم ( ذكرتني بأفلام الكاوبويز) , لأن الشرطة البريطانية غير مسلحة ولا تحمل أسلحة نارية , مرة ثانية وضعت يدي على قلبي وأنا أواجه ضابط الجوازات , من أن يشير الى التزوير الواضح على الجواز ولكنه أيضا تصفح التأشيرة فقط و قام بدمغها للدخول و خاصة وأنني كنت مع بقية الطلبة بنفس التأشيرة التي كانت تشمل رخصة العمل أيضا . هكذا كانت بداية تلك الرحلة المشوقة , وتم نقلنا نحن الطلاب بالباصات الى فندق في قلب مانهاتن في نيويورك , وكان البرنامج يشمل يوم واحد في الفندق مجانا , وفي اليوم التالي تم الأجتماع بنا لشرح طريقة الحصول على رخصة السياقة و تزويدنا ببطاقات تسمح لنا العمل وأتجهت الى أقرب دائرة للعمل وحصلت على أول فرصة للعمل مع فريق من الطلبة لبيع بوليصات التأمين على الحياة , وكانوا على وشك السفر الى مدينة فيلادلفيا ومدن أخرى بسيارات الشركة المسؤولة , وهذا ما حفزني للأشتراك معهم لرؤية تلك المدن و الحصول على المال اللازم للمعيشة و السكن لثلالة أشهر أخرى وخاصة وأنه لم يكن في حوزتي سوى 40 باون , قمت بتبديلها بالدولار .
4th. Of July , Philadelphia
وفي يوم 4 تموز ( فورث أوف جولاي ) كان أهم يوم عطلة في أمريكا للأحتفال بعيد الأستقلال , وهكذا قام مدير الفرقة مع زوجته و عدد من الطلبة و الطالبات بأعداد للحفلة التي شملت الألعاب النارية , والأهم من كل ذلك شوي الباربيكيو , ولم أرى في حياتي تلك القطع الكبيرة من لحم الستيك الطازج , ولأول مرة أتمكن من أكل تلك المأكولات اللذيذة لأول باربيكيو في حياتي وألتهمت عدد منها الواحدة تلو الأخرى و الآخرين يتعجون من طريقة ألتهامي لها بتلك السرعة ,

   

وخطرت ببالي فكرة كنت قد شاهدتها في فيلم لبول نيومان في فيلم مع الممثل جورج كنيدي ( كوول هاند لوك ) والذي شاهدته قبل أشهر من السفرة , حيث راهن على أكل 33 بيضة مسلوقة خلال فترة قصيرة من الزمن في سجن مع بقية السجناء و السجان وما رافقها من مشاهد حماسية لتشجيعه على الأستمرار وهو يلهث من صعوبة البلع بيضة كاملة تلو الأخرى , ونجح بشق الأنفس و الحصول على مبلغ الرهن والآخرين يراهنون مع أو ضد نجاحه . وعندما أكلت القطعة رقم 4 , تحديتهم برهان مبلغ =40 دولار بأنني أتمكن من أكل عدد =10 , قام المدير و زوجته وهم مستغربين من تلك العملية الغريبة , وجمعوا مبلغ =10 دولار من 4 طلاب ليساوي مبلغ الرهان , وكنت مستعدا ليس فقط لأكل المزيد من تلك الستيكات اللذيذه جدا , وأنما أن أحصل على مبلغ الرهان , وبدأت بالعدد 5 , و6 و 7 , وبدأت بطني تنتفخ وخاصة كنت أشرب خلالها الكوكاكولا لتسهيل البلع , وبدأ الحماس بتشجيعي للأستمرار وكنت مصرا أن أموت من التخمة , بدلا من خسارة مبلغ =40 دولار وكانت بالنسبة لي ثروة طائلة , والحمد لله كانت فترة طهي الباربيكيو تستغرق بعدة دقائق , ولم تقتصر العملية على وقت معين وبعد جهد جهيد بدأت بالرقم 8 و بعد بعض الأستراحة للذهاب الى الحمام بحجة حاجتي للتبول , تمكنت خلالها من أفراغ نصف ما تحتويه معدتي من تلك الستيكات التي لم تعد معدتي تستسيغها , ورجعت بسرعة دون أن يلاحظ أحد ما قمت به , وبدأت بالرقم 9 , وكنت أتمكن بسهولة ألتهام رقم 10 ,وأظهرت بعض التردد الذي أعطى للطلبة المراهنين فرصة أمل للفوز , ولكن بقية الطلبة و الطالبات ( المجموع = 20 ) قاموا بحثي على الأكل ومنهم المدير و زوجته الجميلة التي لم أخيب ظنها , و أكلت الرقم 10 أخيرا و فزت بالمبلغ بدون أحتجاج أو شكوى أمام الشهود , وتذكرت مقولة الممثل عادل أمام في أحد مسرحياته :- الشاهد ما شافش حاجة !!.. أن الشهود الأربعة المراهنين لم يشاهدوا عملية أفراغ معدتي في الحمام , وحمدت الله على أنقاذ نفسي من تلك المراهنة الوحيدة في حياتي وحصلت على أعجاب الحاضرين وبدأ التصفيق و الهتاف والكل متخوف من النتائج على صحتي ومن شعوري بالضيق و صعوبة التنفس , ألا أني أجتزت تلك التجربة بنجاح . ولكنني بعد حوالي أسبوعين من هذا العمل الممل الذي تطلب الذهاب الى البيوت و المحلات التجارية ومقابلة أصحابها بكلام معسول , وبنجاح لا بأس به وجمعت دولارات كثيرة لتفيدني في الرحلة , وخاصة أن التأمين على الحياة كان ذو أولوية وخاصة للشباب حيث كانت أمريكا بعظمتها تحارب حربا ضروس بدون نجاح مع الفييتكونك الحفات الأقدام في فييتنام , قررت الرجوع الى نيويورك والى نفس الفندق الذي كان لا يزال يستقبل وفود أضافية من الطلبة الأنكليز , تمكنت من البقاء ليلة واحدة في نفس الغرفة مع عدد من الطلبة , وهذه كانت عملية روتينية مقبولة من الجميع , وفي الصباح كان الجميع 5 أو 6 في غرفة واحدة بسريرين ينهضون ويغسلون ويلبسون ملابسهم قبل أن تأتي المنظفة وتتعجب لوجود هذا العدد من الزائرين في تلك الساعة المبكرة في الصباح . وتطوعت للأشتراك معهم في عملية توصيل سيارات بين الولايات لأصحابها , وخاصة وأن الأمريكيين في تلك الفترة بعد أفتتاح عدد من طرق الهايواي السريعة كانوا مولعين ومدمنين على السفر بسياراتهم الفارهة , و الرجوع بالنقل الجوي بالطائرة و ترك سياراتهم خلفهم , وهكذا كانت توجد مراكز لتوصيل تلك السيارات بواسطة سواق يحملون ترخيص سياقة و مستندات شخصية , وكان أحد هؤلاء الطلبة قد سبق وأن قام بتلك العملية في سفرته السابقة , مع العلم بأن البرنامج كان يوفر لنا الحصول على ترخيص السياقة الأمريكي أعتمادا على ترخيص سياقة البريطاني , فذهب بوحده الى المكتب وتطوع لأيصال سيارة من نيويورك الى لوس أنجيليس كاليفورنيا , ونظرا لكون هذا الطريق مرغوبا للجميع , لذا لم يتم توفير نقود الجاز( البترول) للسائق , كما كان يتم مع طرق أخرى أقل رغبة , وبعد أنتظار عدة ساعات في المتنزه القريب , أبتهجنا بقدومه مع سيارة فورد كبيرة ستيشن واجن وأهم خاصية فيها وجود شبك معدني فوقها للعفش , وهكذا نحن عدد 3 ذكور و 2 أناث قبلنا بالمشاركة في نفقات السفر معا , وبدأت الرحلة بعد قيامنا بشراء حاجيات السفر , ونحن نصيح ونغني بأعلى صوتنا :- كاليفورنيا هير وي كم أون رووت 66 , كلمات الأغنية التي أشتهرت في تلك الفترة .

California here we come , On Route 66 !!..
وكان الطريق السريع الى كاليفورنيا ( طريق 66 المشهور) قد تم أفتتاحه منذ سنتين و أصبح قبلة المسافرين بين الشرق و الغرب , وقمنا بالتناوب في السياقة , وبعد عناء السفر كنا نتوقف في محطات الأستراحة وخاصة فندق هوليداي أن , حيث بدأ بلأنتشار السريع على هذه الطرق , وكان يقدم بوفيه بسعرمحدد وهذه كانت فرصتنا لملأ بطوننا الفارغة بسعر زهيد , بحيث كانت تجلب أنتباه الأدارة لعدد الزيارات على موائد الطعام وشرب عدد لايحصى من أكواب القهوة التي كانت تقدم مجانا في تلك الأماكن , ونستعمل دورات المياه للحلاقة و التنظيف من أتربة الطريق وخاصة أن تلك السيارات كانت حينها بدون أجهزة تكييف . وتم الأتفاق بالوقوف في عدد محدد من الأماكن السياحية المهمة التي أجتمع عليها عدد الأصوات , لذا كان الجريت كانيون في نيفادا و لاس فيجاس على رأس القائمة , وكنا قد قمنا بشراء معدات السفر للنوم ( سليبينج باج) و سترات ثخينة من مخلفات جنود حرب الفييتنام من محلات الملابس المستعملة( اللنكات) وننام في العراء , وهكذا قضينا أكثر من 3 أسابيع في الطريق , ونظرا لكثرة الأحداث و الغرائب التي واجهناها , فأنني سأقتصر الحديث و الأشارة على عدد من المحطات المهمة , وهي :-
Grand Canyon National Park, Las Vegas & Yosemite National Park

   

ويعتبر الجراند كانيون من عجائب الدنيا , وتوقفنا على المحطة التي منها يبدأ الطريق الضيق على سفح الجبال بدون حاجز سلامة ( ممرعرض أقل من مترين) والوعر من الأعلى الى أسفل القاع على سفوح الجبال الصخرية الصلبة ( أكثر من 3 كيلومتر عمق الوادي) , حيث يجري فيه نهر كولورادو المشهور والخطير بتعرجاته و شلالاته و سرعة منسوب المياه فيه ويبدو من الأعلى كثعبان أخضر تحت بريق الشمس ,

    

وأتذكره من فيلم للمثل روبرت ميتشام والممثلة المثيرة مارلين مونرو ( فيلم ريفر وف نو ريتيرن = نهر بلا رجعة ) و فيلم ( هاو ذي ويست واز وون = كيف تم الأستحواذ على الغرب الأمريكي ) تمثيل غريغوري بيك و جيمس ستيوارت, و لم تكن لنا النية أو الجرأة في البداية للنزول مشيا على أقدامنا و آخرين يركبون قوافل الحمير و الخيول المدربة على الطريق , ولكن الحماسة تغلبت على المنطق وقررنا النزول , وبدا الطريق في بدايته مغريا للأستمرار في الرحلة التي كلما أستمرينا فيها زادت الصعوبة ومشقة المشي وخاصة وأننا لم يكن لدينا حتى قبعات تقينا من الشمس الحارة الحارقة ولا قناني الماء ولا أحذية مناسبة على تلك الأرضية الصلبة , وأضطرينا خلع القمصان لحماية الرأس , وفي منتصف الطريق بدأنا نفكر بالرجوع أدراجنا ولكن الصعود كان أصعب من النزول وهكذا قررنا الأستمرار الى الهدف المنشود , وعلى أمل أستعادة حيويتنا في السباحة في تلك المياه لأعادة الحياة الى أجسامنا , وبشق الأنفس وصلنا الى محطة للأستراحة بالقرب من النهر , وبدأت أترنح من التعب و الظمأ وضربة الشمس ( سن ستروك) , وأستلقيت على أول مقعد فيها , ولولا أبلاغ قسم الطواريء بحالتي , لكنت قد فقدت الوعي , وتم أعطائي عدد من حبوب الملح و الماء البارد وقطع الثلج على رأسي , وبدأت حالتي تتحسن بسرعة مكنني من النزول مع الآخرين للسباحة في النهر بعد أن تم أنذارنا للبقاء بمحاذات النهر لأن المياه ستجرفنا الى عمق النهرالسريع الجريان , وهكذا أفلحنا في تحقيق ما كنا نصبوا اليه وقد بدأت الشمس تغيب بسرعة في ذلك الوادي العميق والضيق بين سفوح الجبال الشاهقة , ولكن كيف يمكننا الرجوع الى الأعلى وهذه المعضلة التي واجهتنا دون أن نفكر فيها في البداية و تحتاج الى مجهود كبير و وقت أطول لبطأ السير في الظلام لأن خطوة واحدة خارج الطريق كانت ستؤدي الى الوقوع ألى أسفل الوادي والهلاك , وتم أيضا أنذارنا من خروج أفاعي سامة من أخطر الأنواع من جحورها لطلب برودة الجو تسمى راتيل سنيكس ( أفاعي ذات الأجراس ) , ولم يكن لنا خيارا آخرلأننا تركنا السيارة في أعلى الجبل وعلينا مواصلة السفر , وهكذا بدأت الرحلة الشاقة المحفوفة بالمخاطر , ومن شدة التعب و الشعور بالنعاس كنا نصعد عشرة خطوات أو عشرين خطوة وننهار على الطريق ويغلبنا النعاس بثواني معدودة ولكن قائد مسيرتنا سبق وأن كان سابقا في فرق الكشافة في المدرسة (بويز سكاوت) , وكان يهزنا بيده للنهوض من سبات عميق لبضعة دقائق , وكنا محظوظين لبعض الوقت لضوء القمر قبل أن يغيب هو الآخر ورؤية حدود الطريق الوعر , وبعد عدة ساعات طويلة وكأنها عمر بلغنا منتصف الطريق , وكلما صعدنا كانت السماء أكثر وضوءا , وفجأة صاح أحدنا صيحة تردى صداها الى أسفل و أعلى الوادي من الألم , فتذكرنا على الفورتلك الأفاعي اللعينة و التي نظرا للأرهاق والتعب الذي كنا نعاني منه نسيناها تماما ونحن نستلقي على أرض الطريق نشاركها في المكان ,

          

وقفز الكشاف على الفور وهو يحمل السكين الذي لا يفارق الكشاف ( سويس نايف ذات المقبض أواليدة الحمراء) وفحص رجل الضحية وتأكد بأنها ليست شدة عضلة في الساق فبدأ بعملية مص السم بشفتيه من مكان اللدغة , وبعدها بغرس السكين عدة مرات في محل اللدغ ليسيل منها الدم مع السم المتبقي في الجرح , ولم يتوقف حتى تأكد من زوال السم من جسم المصاب , وبدأنا بمساعدته للمشي , وبعد تلك الحادثة رجعنا الى رشدنا ومعرفة صعوبة أوضاعنا والمخاطر المحدقة بنا , ولكن لم نجرأ على الأستلقاء وأن كنا نمشي ونحن نصف نيام , وبدأت خيوط الفجر تدريجيا تملأ السماء و ينكشف الطريق أمامنا بوضوح و نحن نحلق بأنظارنا ألى أعماق ذلك الوادي لانصدق باننا قد وصلنا الى ذلك العلو بحيث بدأ ضوء الفجر ينعكس من زجاج السيارة التي تنتظرنا فوق الجبل , وتنفسنا الصعداء , وأصبح صديقنا قادرا على المشي حيث كان جرح رجله قد توقف النزيف منه بعد شدها بقطعة من قميصه . وتمكنا من أخذ المصاب الى أقرب مستوصف وبعد أعطاؤه حقنة من الأدوية و الحبوب رجعت الأمور الى وضعها الطبيعي ومواصلة الرحلة الى مدينة لاس فيغاس في صحراء نيفادا . 

Las Vegas , Nevada , Arizona Desert

 

لقد سبق وأن سمعت بهذه المدينة كمركز عالمي للقمار في كازينوهاتها المشهورة , وبأفلام عصابات المافيا الأيطالية التي كانت تدير العديد منها وفي الطريق الصحراوي كنا نشاهد كتل جبلية بألوان رائعة تذكرني بأفلام الكاوبويز أند أينديانز/ الهنود الحمر , التي كنت أشد المعجبين بمشاهدتها على الدوام في دور السينما ( ولا أزال ) , وقضينا ساعات في بهو عدد من الفنادق والتي هي ساحات مكتظة بأجهزة القمار المختلفة , حتى في دورات المياه , ونظرا لحاجتنا الماسة للأحتفاظ بما في جيوبنا من دولارات , لم نجرأ لتجربة حظنا حتى على ما يسمى جهاز ( وان أرم بانديت) ..

  

وأسمتعنا برؤية المضيفات الساحرات شبه عاريات يشبهن فتيات البلايبوي المشهورة , و هن يحملن صواني بكؤوس صغيرة من المشروبات الكحولية وتقديمها مجانا للمقامرين (لحثهم على القمار), وبضمنهم نحن . و أنتظرنا الى الليل حيث تنهض المدينة من سباتها في النهار , وتصبح بتصاميم الأضاؤة الليلية الرائعة من الألوان خاصة صورة الكاوبوي الكبيرة و ( يصيح هاودي) على أحدها يرفع قبعته ليرحب بالزوار . وكان الغرض الآخر من الزيارة هو الحضور لمشاهدة البرامج الترفيهية و الغنائية الراقصة مجانا على مسارحها , وكانت سفرة ممتعة نسينا المخاطر وأهوال الجراند كانيون , وأن بقت في ذاكرتنا بحلوها ومرها كتجربة أو الأحرى مغامرة خطيرة كادت أن تؤدي بحياتنا الى التهلكة .

Yosemite National Park , Southern California

   

قررنا الخروج من أتجاهنا في الطريق الى لوس أنجيليس , بالرغم من أعطاؤنا أسبوع واحد لتوصيل السيارة لمالكها , ونحن الآن متأخرين على الأقل أسبوعين . ومن خبرة كشاف الفريق , من زيارته السابقة , بأن أعذارا وهمية ستفي بالمطلوب وخاصة وأن السيارة ستعود لصاحبها أخيرا ولا توجد غرامة التأخير . هكذا بدأنا نبحث بالخرائط التي كانت متوفرة مجانا في محطات التزويد بالوقود , ولتشجيع الأمريكيين للسفر والتعرف على بلدهم , خاصة وأن البنزين كان رخيصا ( = 30 الى 33 سنت ولا أعلم جالون أو ليتر) , وعن أقصر الطرق المؤدية الى يوزمايت ناشينال بارك , ويعتبر بعد يلو ستون ناشينال بارك أهم مركز سياحي و ترفيهي بجمال طبيعته و مناظره الخلابة والذي يعتبر من أشهر المواقع السياحية في العالم , وكان الطريق ممتعا بخلاف الطرق الصحراوية الحارة التي كانت في أريزونا و نيفادا , وبعد كل يوم كامل ونحن نتداول دورنا في السياقة وخاصة التقيد بأنظمة صارمة في تحديد السرعة لتجنب حوادث السير و لأن تلك الأيام لم تكن السيارات مزودة بحزام الأمان وأيضا لتفادي دفع غرامات تجاوز السرعة وكنا كالعادة نتوقف للأستراحة في الكثير من الأماكن المتوفرة على جميع الطرق , لأن الأمريكيين كانوا كثير السفر و السفرات للنزهة والأستمتاع بالريف الأمريكي و جمال البيئة والطبيعة , وفي تلك الأيام كان السفر آمنا و سليما , وكنا ننام في العراء في جوانب الطرق في فراشنا السفري دون خوف من أحد أو مساؤلة من الشرطة .
وصلنا الى هدفنا المنشود وبعد أن تفقدنا العديد من المناظر الخلابة و رؤية البحيرات الشاسعة و الطبيعة الرائعة , قررنا المبيت في أحدى الغابات والنوم في فسحة بين الأشجار أنتظارا لمواصلة الرحلة بأتجاه مدينة لوس أنجيليس , وكانت الليلة باردة و الريح قوية تهز الأشجار حولنا , وكان الفراش السفري ( سليبينج باج ) مزودا بغطاء مانع للمطر و ومبطنا بالقطن أو الصوف لمتطلبات الجنود في حرب فييتنام وربما كانت لجنود لقوا حتفهم في المعركة ولولاها لما قضينا ليالي داخلها براحة تامة وخاصة أمكانية غلقها من الداخل للحماية من الحشرات و العقارب و الأفاعي وحتى الحيوانات المفترسة في البرية .
وكنا عادة ننام قريبين بعضنا عن الآخر , فأذا حدث خطر أو مكروه لأحدنا , فيهب الجميع في تقديم المساعدة وتلك الليلة كنا يقظين وحواسنا كالوتر المشدود نستمع لكل حركة أغصان أو خشخشة أوراق النباتات بفعل الرياح و أصوات الطيور , وفجأة صاحت أحدى الطالبات منذرة سماع صوت حركة وراء الأشجار المحيطة بنا , ونظرا للأعلانات الكثيرة عن توخي الحذر من الدببة التي كنا نقرأها وبالحروف الكبيرة و بالصور , قفز عدد منا نحو الأشجار لمحاولة تسلقها في أول ظهور للدب , أما أنا فأختفيت داخل خيمة الفراش و كنت عازما على التشبه بالميت لأن الدببة لا تأكل الجثة الهامدة , تذكرتها من معلومات سابقة من الكتب , وهكذا مرت حوالي نصف ساعة ونحن بأنتظار الهجوم المرتقب , والذي لم يتجسد , وأعتبرنا الأنذار خاطئا من فتاة مذعورة أكثر منا في تلك الليلة القمرية , ولم نذوق طعم النوم فيها وفي بزوغ ضوء الفجر شدينا كل فراشه وتوجهنا الى السيارة , و قررنا بأن نتوقف فقط في سواحل لونج بيج المشهورة بركوب الأمواج العالية قبل الوصول الى لوس أنجيليس محطتنا الأخيرة .
Long Beach , Surfers Paradise

   

وصلنا الى لونج بيج حين بدأ الليل يسدل أستاره و قررنا النوم على الرمال بعيدا عن ساحل البحر و الأمواج الهائجة , وترك السيارة في موقف السيارات , أنتظارا لبزوغ الفجر , ورؤية ما سيجري على تلك الشواطيء من هواة ركوب الأمواج , و أيقضتنا حركة السيارات و الأصوات حولنا , وأسرعنا بشد أفرشتنا و وضعها في السيارة , وأرتداء ملابس السباحة للمشاركة في المشهد , وهنا أيضا كانت لوحات كبيرة منصوبة على الساحل منذرة من خطورة ظهور أسماك القرش البيضاء المرعبة بعيونها و أسنانها البارزة من ذلك الفك الكبير , والتي تذكرتها من نشرات أخبار عن ظهورها في بعض السواحل في كاليفورنيا وتهديد السباحين , ولكن هذا لم يثنينا عن السباحة بين ذلك الحشد بعد أنذارات ثعابين ذات الأجراس و الدببة , حتى أنني حاولت أن أجرب حظي في عملية ركوب الموج , بأستعارة لوح التزلج من أحد الشباب , ولكن العملية لم تكن بالسهولة التي بدت مع بقية السباحين راكبي الأمواج , بحيث في أول موج صادفته , جعلني أطير في الهواء و لوح التزلج كاد أن يهبط على رأسي ويفقدني وعيي لأنه كان متصلا برجلي بحبل , وقررت أنهاء تلك التجربة, وتركها لمن يجيدها أكثر . وبعد قضاء ساعات عديدة , قررنا الرجوع قبل مغيب الشمس الى مدينة لوس أنجيليس , محطتنا النهائية, وبعد وصولنا دخلنا أحدى البارات ننتظر قيام الكشاف بأيصال السيارة الى صاحبها , وللتأكد من أتمامه المهمة بنجاح بعد أن قمنا بوضع السيارة في الغسيل الأموتوماتيكي للسيارات , وبعد عدة ساعات رجع صاحبنا وهو يبتسم لنجاح المهمة , وتفرقنا بعد وداع كل منا للآخر بعد حوالي 3 أسابيع قضيناها معا ليل نهار , تخللها العديد من أختلافات في الرأي و الرأي الآخر لمختلف الأمور وخاصة السياسية عن حرب الفييتنام و الحرب العربية الأسرائيلية 67 والأنتخابات الأمريكية , وغيرها ولكن بطريقة حضارية كان الكشاف يحل أي نزاع كمحكم بيننا , وخاصة لقضاء الساعات الطويلة وراء مقود السيارة وكنت العراقي ( العربي) الوحيد بين هؤلاء الأنكليز, ولولا صاحبنا الكشاف لما سنحت لي الفرصة أو الجرأة للقيام بتلك المغامرة و كانت خبرة في غاية الأهمية مكنتني من مواصلة الرحلة بوحدي بعدها .
Hollywood , MGM , Los Angeles

   

بعد فراق أصدقاء السفر , توجهت الى أقرب محطة لباصات النقل المعروفة بالجرايهاوند ( كلب الصيد السلوكي) , وأشتريت بطاقة الى هوليوود , عاصمة السينما الأمريكية , حيث كنت من عشاق السينما وأفلام الكاوبوي خصوصا , وسمعت بأن مشاهد حية للكاوبويز يمكن رؤيتها مجانا في أحدى الستوديوهات , أضافة الى البيوت المتنقلة لكبار النجوم و النجمات و أيضا حديقة والت ديزني ( ديزنيلاند), لذا كان أمامي الكثير ولكن في جيبي القليل من النقود بعد أن تم صرف معظمها على الرحلة الطويلة , وخاصة وأنه كان أمرا مستحيلا لطلب مساعدة مالية من أحد أو طلب سلفة من البنك لي في ليفربول لعدم وجود حساب بنكي في أمريكا , لذا توخيت الحذر من المصروفات وأن كان للأكل , وعند وصول الباص الى المدينة , في صباح اليوم التالي , وضعت حقيبتي في صناديق مخصصة لترك العفش في جميع المحطات, والبدأ في أكتشاف المدينة , وعندما رأيت العلامة المشهورة لهوليوود على سفح الجبل في تلك المدينة , قررت أن أذهب وأتسلق سفوح تل التلال مشيا على الأقدام و تحري الأسماء على بوابات الفلل الفخمة لنجوم السينما , على أمل أن أرى أحد نجومي المفضلين ,

     

بيرت لانكاستر أو جاري كوبر أو مارلون براندو وربما أليزابيث تايلر وبينما أنا أمشي في تلك الأحياء وأتوقف لقراؤة الأسم على البوابات و أسرق نظرات الى الداخل ربما لرؤية أحدهم يتنزه في الحديقة , أوقفتني سيارة الشرطة وهم مستغربين لرؤية واحد يمشي وحيدا في الشارع وأن هيئتي لم تشير الى لص أو شخص خطير وأنا ألبس ربطة العنق ( البو تاي) , وبعد فحص مستنداتي وهويتي وجوازي , أثار أستغرابهم بقطعي تلك المسافات مشيا على الأقدام , لأن في تلك الأحياء كان الجميع يتنقلون بالسيارات حتى بين البيوت القريبة . وكنت قد وضعت حقيبتي في أحدى صناديق العفش وحملت معي المفتاح , ونظرا لمعاملتهم الطيبة فلم أتخوف من أمكانية أحتجازي وركوب السيارة معهم بعد أن أصروا على أيصالي الى مركز المدينة, وكانت الشوارع مكتظة بالفتيات وهن يحملن الزهور كتيجان على رؤوسهن والشبان بشعر طويل وخاصة وأن حملة شبابية تعرف بالهيبيس ( أولاد وبنات الورود) , كانت المودة الطاغية في جيل ذلك الشباب الأمريكي , وكحملة مدنية ضد حرب فييتنام . وأهم نقطة تجمع الحشود كان تقاطع شارع هايت وآشبيري , في قلب المدينة حيث يختلط الحابل بالنابل فيها , ويقدم فيه طعام وشراب مجاني للمارة من منظمات مدنية . 

Hippies ( Flower Power ) and Commune , Haight /Ashbury . Hollywood

     

فأنغمست بينهم , وخاصة وأنهم كانوا مسالمين و في غاية الود والمحبة , ونظرا لعدم وجود لي أي مكان للمبيت في تلك المدينة قررت البقاء معهم في تجمع يشبه العيش المشترك في الفضاء خارج المدينة , ويسمى ( الكوميون ) أي الأسرة الكبيرة , ومعظمهم تركوا بيوتهم وأسرهم للعيش كالبوهيميين , وكانوا يشتركون ويشاركون في كل شيء , يجمعون ما لديهم من نقود لشراء الأكل وخاصة الخبز و الجبن والخمر و الماريوانا وغيرها من المخدرات (حبوب أل أس دي السايكاديليك ) , وبعد أن بقيت معهم عدة أيام أشاركهم بكل شيء عدا تعاطي المخدرات و أن كنت أحيانا أمثل الدور لأكون مقبولا كأحدهم فلم أبلع دخان سيجارة الماريوانا خوفا من خطورة الأدمان عليها وأتحول كأفراد بقية الأسرة الكبيرة في حالة نشوة وسكر مستمر لذا بقيت الوحيد صاحيا بينهم طول الوقت و ربما الأكثر حيوية ونشاط ذهني و بدني , وكانوا يقصدوني في حل مشاكلهم الآنية , بعدها قررت مغادرة المكان بهدوء دون أن أترك أي أثر لأن مواعظي معهم لترك الأدمان و الرجوع الى حياتهم الطبيعية ودراستهم وأهلهم , لم تبدي نفعا وكان بعضهم يشبهني بالقديس أوغسطين ومواعظه في فلسفة الحياة , وجميعهم مسالمين كالأطفال , حقا كانوا أولاد وبنات الورود وكانت تلك الفترة وأمريكا تمر في أزمات سياسية وأجتماعية والفصل العنصري , حيث تم أغتيال القس ماتين لوثر كينغ زعيم حركة الحقوق المدنية للسود بيد عنصري أمريكي أبيض , وأغتيال روبرت كنيدي ( شقيق الرئيس جون كنيدي الذي أيضا تم أغتياله في دالاس ) أثناء ترشحه للرئاسة الأمريكية في لوس أنجيليس بيد فلسطيني سرحان سرحان في 6 يوليو 1968 , أي بعد حوالي أسبوع من وصولي الى أمريكا , وكانت حرب فييتنام على أوجها وحركات ومظاهرات عارمة ضدها و لوقف الحرب من الطلبة و الليبراليين والديموقراطيين , وكان تمرد الطلبة و الشباب المناهضين للحرب ونتيجة لتلك الظروف والتمزق الأجتماعي , ومنهم حركة الهيببس للهروب من واقع تلك الأحداث واللجوء الى المخدرات و الأبتعاد عن تلك الظروف وخلق مجتمع آخر غير واقعي .
بدأت أبحث عن أي عمل أتمكن من من جمع بعض النقود لمواصلة مسيرتي وخاصة وأن بطاقة السفر كانت محددة لنهاية شهر سيبتمبر , لذا كان علي البقاء طيلة تلك الفترة و أدارة أموري و معيشتي خلالها قررت بوجودي في عاصمة السينما الأمريكية أن أجرب حظي في التمثيل , وبعد عدة أستفسارات تمكنت من الحصول على مقابلة من رئيس مكتب لأكتشاف المواهب في أول ستوديو وصلت أليه والأهم في أنتاج الأفلام المعروف ( مترو جولدوين مايير , أم جي أم ), ومن خبرتي السابقة بتقمص شخصية المغني أنجيلبرت همبردينك في بريطانيا ( تمت الأشارة أليها في موقعي على صفحات الفيسبوك) , فقررت ألأدعاء بأنني أبن عم النجم المصري عمر الشريف , والذي كان في أوج نجاحه و شهرته وخاصة في فيلم ( فني جيرل , مع النجمة والمغنية المشهورة بربارا سترايزند) , وكنت قد كونت نظرة عن طبيعة و نفسية الأمريكان بأتسامهم بالسذاجة و عدم معرفة ما يدور بالعالم و مهتمين فقط بما يجري حولهم في داخل أمريكا وكان حسي صادقا في ذلك لأن هذا المسؤول صدق كلامي وأبدى أهتماما خاصا بي , وأكد لي بأن مستقبل باهر ينتظرني أذا تمكنت من النجاح في أختبار التمثيل ( أوديشن) , ولهذا صاحبني بسيارته الى ستوديو لتعليم التمثيل وعرفني به كأبن عم عمر الشريف ليهتم بي , ولكن تلك الأختبارات و عملية التأهيل تطلبت أجور عالية , وربما فترة زمنية وهي تعجيزية في كلتا الحالتين , وهكذا خرجت أجر أذيال الفشل وأنتهاء دوري في التمثيل وكيف لي أن أدعي بعدم قدرتي على دفع أجور لأعداد الأختبار وأنا كأبن عم عمر الشريف المليونير وأعترف بأنني مفلس . وكان علي طلب دور صغير مع من يسمونهم الأكسترا بدون تمثيل أو بأي عمل ولو حمال لنقل الأجهزة و المعدات , ولكن على الأقل يمكنني بفخر بأن أصرح بدخولي وخروجي من بوابة أكبر ستوديو للتمثيل في هوليوود وهي أم جي أم .
San Francisco , California

     

بعده نهاية مشواري في هوليوود , قررت السفر الى مدينة سان فرانسيسكو المشهورة بجسرها الحديدي المعلق ( جولدين جيت) و سجن ألكاتراز حيث كان من أشهر سجنائه ( آل كابون المافيوزي ) وأيضا عربات ( الكايبل كارز) , وباص الجريهاوند أستغرق الليل كله , تمكنت من النوم بعد أن أرهقني التعب من المشي في شوارع و طرق هوليوود طيلة اليوم , وفي الباص كنت جالسا بجانب أمرأة جميلة ذو شعر أحمر , ودعتني للبقاء معها لحين أيجاد عمل ومكان للعيش , وبقيت معها أسبوع كامل بالرغم من كونها مثلية الجنس , وكانت تقضي معظم الوقت مع صديقتها , حيث كانت المثلية الجنسية ذكورا واناث منتشرا والمدينة الوحيدة في أمريكا كانت تلك العلاقات شرعية , وتمكنت من أيجاد عمل لغسل الصحون في مطعم أيطالي تديره أحدى صديقات صديقتي المثلية , وعنما صديت محاولتها التحرش بي ولأنها لم تكن بجمال وعمر صديقتي المثلية , طردتي من العمل .وتم الطلب مني ترك الشقة لأن صديقتها أضطرت لترك شقتها و العيش معها , وكنت على الدوام أبحث في الصحف المحلية عن عمل آخر ونجحت في أيجاد شركة متخصصة في قطف الثمار و الخضروات من المزارع و تسويقها , وأنتقلت الى سكن للعمال في مدينة باسادينا على حساب الشركة , وكان عملي في البداية قطف الثمار و خاصة البرتقال ونظرا لكوني طالب جامعة يجيد الحسابات , تم تعييني مراقب لحساب المحاصيل المختلفة و منتوج كل عامل وحسابه اليومي , وبعد عدة أسابيع , رأيت أعلان عن وجود شاغر لبواب في أحدى العمارات السكنية الفاخرة في الشارع المطل على البحر ( أوشن بولافارد) , وتم قبولي بعد أن تأكد صاحب العمارة أنني لست من هؤلاء المشردين الهيبيس , وأنني طالب جامعة وبلهجة بريطانية , تم قبولي في العمل , وأهم شيء وجود مكان للنوم في كراج السيارات التابع للمبنى , وكان من مسؤوليتي أيضا سياقة السيارات من بهو البوابة الى موقف السيارات في الطابق السفلي من المبنى , وألتقيت بسيدة آشورية تسكن في العمارة , وتمتلك مناجم لأستخراج اليورانيوم , ونظرا لخوفي من خطورة الأشعاعات لم أطلب منها العمل في تلك المناجم البعيدة و طبعا كان فرحي شديدا للتكلم معها بلغة السورث , وتطورت علاقتنا بحيث عرفتني بأصدقاؤها الآثوريين الذين كانوا يقومون بزيارتها , و كانت أحداهن حفيدة رجل الدين المشهور في تاريخ العراق أيام الأنتداب البريطاني في ثلاثينيات القرن الماضي ( مار شمعون و أخته سورمى) حيث كان الآثوريون لهم قوة موازية للجيش البريطاني تسمى ( جيش الليفي) , ونظرا لخلافات في البيت الواحد و تآمرالأنكليز مع الحكومة العراقية بعد التخلي عن مساندة الآشوريين ( الآثوريين) والأستغناء عنهم , وللحد من نفوذ مار شمعون الديني و السياسي تم نفيه و تسفيره الى جزيرة مالطة ومنها الى الولايات المتحدة بتهمة التآمر على وحدة العراق ومطالبة الحصول على حكم ذاتي للآشوريين في سهل نينوى والتي كانت نتيجتها المأساوية الأبادة الجماعية للآشوريين في ما سميت بمذبحة سمايل 1933 من قبل الجنرال بكر صدقي الكردي في الجيش العراقي الجديد . وتمت دعوتي للحضور في أحدى المهرجات للآشوريين السنوية في مدينة دينفر في ولاية Denver, Colorado State دينفر بولاية كولورادو , حيث أقيمت أنواع الفعاليات من الرقص ( دبكة الشيخاني ) بالملابس التقليدية و خاصة التيارية ذات الريشة على قبعات الرجال و التيجان على رؤوس النساء من الحلى الذهبية , وأستمرت 3 أيام . وأستمر عملي هنالك , ولكن بعد حوالي شهر واحد و نظرا لشدة أعجابي بسيارة شيفروليت ستينج راي لأحد زوار أحدى الشقق قررت أن أسوق السيارة خارج المبنى بدلا من نقلها الى موقف السيارات , ونتيجة حادث أصطدام مع سيارة أخرى مسببة للحادث , أصاب السيارة بعض الخدوش و كانت سببا في طردي من العمل , تمكنت بعدها من أيجاد سكن مع جماعة تعمل بصياغة حلى من الخرز و مواد غير ثمينة وأحجارمن الزجاج و السيراميك , كان الذكور و الأناث يستعملونهم كقلادات حول العنق و أسوار على المعصم و أختام على الأصابع وما سميت المودة ( اليوني سيكس) , وكنت أتردد على معرضهم وأنا في طريقي الى العمل . وكان صاحب البيت بولندي الأصل يعمل في ( سي آي أي) جهاز الأستخبارات الأمريكية , كعميل للعمليات الخاصة داخل بولندا الشيوعية وضد الأتحاد السوفييتي , وكانت شقته مملوؤة بأنواع الأسلحة و الأجهزة وكأنها مستودع أسلحة لفرقة كاملة , وبالرغم من أنهم كانوا مثليين ( عدى البولندي) , تمكنت من العيش بينهم لأنني كنت أعاملهم بأحترام و أتقبلهم كأشخاص كغيرهم من البشر , لاعلاقة لي بعلاقاتهم الخاصة بهم , وكنت أشاركهم في المأكل والمشرب وحتى أنني كنت أرسم لهم بعض الأشكال الهندسية في الزخرفة الأسلامية كتصاميم للحلى الخزفية ولأرد عليهم جميلهم , وكنت في بعض الأحيان أرافقهم الى بارات خاصة ونوادي المثليين بدون أية مشاكل و يعاملونني كصديق موثوق به , وكما ولذا كانوا يحبذون العيش في هذه المدينة ويأتون أليها من جميع أنحاء أمريكا , ولا تزال كاليفورنيا معروفة بقوانين حماية حقوق المثليين وحتى الزواج ببعضهم الآخر ذكورا وأناث , وحتى حماية المهاجرين غير الشرعيين وخاصة من المكسيك , الذين يعملون بأجور مخفضة في المزارع و قطف الأثمار و أعمال النظافة وكعمال غير مهرة . وبعد بضعة أسابيع قررت بما تبقى لي من وقت أن أزور بعض المدن الجنوبية , وتحقق لي ذلك من أعلان في الجريدة المحلية عن طلب سائق لأيصال سيارة من سان فرانسيسكو ألى ميامي بيج فلوريدا , ونظرا لخبرتي السابقة و كوني طالب جامعة بريطانية و رسالة كفالة وحسن السيرة من البولندي صاحب المبنى وحصلت على السيارة مع مبلغ للنقود للمصاريف و قمت بتوديع من تعرفت عليهم في هذه المدينة الرائعة .
Miami Beach , Florida

       

فرحت جدا لمعاودة السفر والتعرف على ولايات أخرى كانت أسماء على خرائط ونسمع عنها في نشرات الأخبار وخاصة الولايات الجنوبية كألاباما حيث أشتهرت بالتمييز العنصري ضد السود من أصول أفريقية وخاصة نشوء جماعة كيو كلوكس كلان ( ك ك ك ) السيئة الصيت , وتكساس المشهورة بآبار النفط و المدينة التي تم أغتيال الرئيس جون كنيدي فيها سنة 1963 , وغيرها من المدن , وأنا أتصفح خرائط الطريق لبدأ الرحلة المشوقة وخاصة وأن السيارة جديدة شيفروليت موديل 1968 , و كنت مطمأنا على نجاح المهمة وخاصة من الخبرة التي أستمدتها من رحلة نيويورك – كاليفورنيا , وكنت أحبذ وجود آخرين معي للسلامة و تبادل الأدوار في السياقة والتغلب على الشعور بالنعاس أثناء السياقة وخطورتها , والبقاء صاحيا بالمحادثة و خاصة في الطرق السريعة والمملة . ولكن كنت أتطلع لأنتقاء من وجدتهم في محاذاة الطرق من الشباب و خاصة الشابات وهم يرفعون أبهامهم لطلب أيصالهم الى مقرات أقامتهم في نفس الأتجاه , ( الهيج هايكرز ) وكانت في تلك الفترة عادة مألوفة لوقوفهم على جوانب الطرق السريعة بدون خوف , هكذا كانت أمريكا آمنة وخالية من أعمال العنف و السرقة أو الأختطاف . وكنت أمارس نفس الطريقة السابقة في الوقوف في محطات الأستراحة للتزود بالوقود وشراء بعض الحاجيات الأساسية عازما على الأحتفاظ بما لدي من نقود لمواجهة المجهول وخاصة وأن الدولارات لا تنزل من السماء في أمريكا الرأسمالية , حيث كان الدولار سيد الموقف , وبالرغم من طيبة و سخاء الأمريكيين وخاصة خارج المدن وعدة مرات كنت أتوقف أمام بوابات مزارع ( رانجيز) وأستفسر عن أصحابها و أعرفهم عن نفسي وأنا أتكلم كبريطاني وباللهجة البريطانية التي يحبها الأمريكيين , فكانوا لايترددون في دعوتي للدخول و تناول الطعام معهم , وخاصة وأنهم كانوا مستعدين لأظهار ما يفتخرون به من نجاح و ثراء والحياة الرغيدة وأنجازاتهم الشخصية بالعمل الجاد . و لايترددون في أظهار عنصريتهم ضد السود الذين يعيشون على المساعدات من الضمان الأجتماعي ( الولفير) كونهم عالة على المجتمع وخاصة دافعي الضرائب وخاصة في داخل المدن الكبيرة . وكانت حملة السود في المطالبة بالمساوات بالحقوق المدنية في مجتمع البيض ( سيفيل رايتس موفمنت ) في أوجها و لم يمضي على أغتيال القس مارتن لوثر كينج بضعة أشهر , وكانت العديد من المطاعم يمنع السود من دخولها , حيث كانت التفرقة العنصرية سائدة في المدن الكبرى وخاصة الجنوبية , ولم أتوقف كثيرا في الولايات التي مررت بها , وهدفي كان أيصال السيارة سالمة لصاحبها و نيل رضاه عسى أن أحصل على مساعدته لأتمام رحلتي من فلوريدا الى نيويورك بسلام وكنت أتصور بأن ميامي بيج هي أحدى سواحل البحر في مدينة ميامي في ولاية فلوريدا , ولكن تبين لي بأنها مدينة مستقلة بذاتها , وحسب ما تصورت فأن أسم صاحب السيارة ( مربين شاؤول ) كان لشخص يهودي في منتصف الخمسينات من العمر , وكانوا يعيشون في شقة فاخرة في أحدى العمارات العالية وبعد تفقد السيارة من الخارج والداخل ( بعد عملية غسيل ميكانيكي مسبقا) أبدى أرتياحه وشكرني على المهمة , وقبل أن يودعني ذكرت له بأنني من أصل بابلي وأتكلم الآرامية الشبيهة بالعبرية ولا أعرف أحدا غيره في تلك المدينة , وبعد تردد مشوبا بالفضول لمعرفة المزيد , دعاني الى شقتهم , وتعرفت على زوجته و أبنه الشاب حوالي 20 سنة و أبنته الصغيرة 13 سنة . ومن حسن حظي كانوا على وشك تناول الغذاء , وأنضممت معهم على طاولة الطعام وأثناء تبادل أطراف الحديث ذكرت زوجته بأن جدتها كانت تذكرهم بأصولهم البابلية وهجرتهم الى جيروساليم في الوطن المنشود , وهكذا أصبحنا فجأة أبناء العم و ذات تاريخ مشترك و تمت دعوتي مشكورا للبقاء معهم عدة أيام لترتيب رجوعي الى نيويورك , محطتي النهائية . وفي اليوم التالي دعاني مع أبنه الى معرض اللوحات الفنية الذي يمتلكه في قلب المدينة , ونظرا لكوني طالب جامعة في قسم العمارة , ساعدته في صناعة بعض الأطارات لبعض الرسوم الزيتية لديه , وتبين لي بأن ما كان معروفا لبخل وحب المال من اليهود لم ينطبق عليه , لأنهم طلبوا مني البقاء أسبوعا آخر وخاصة قمت بمجهود مفيد في ترتيب الصور والمعروضات على الحيطان بدلا من تكديسها في المخازن , للمساعدة في بيعها . وأيضا شكرني لمحاولتي الناجحة لثني أبنه عن الذهاب الى أسرائيل و العمل في الكيبوتسات كعمال غير مهرة في المزارع و المصانع , والرجوع الى مقاعد الدراسة في جامعة ميامي , وفي أحدى الأمسيات دعاني للذهاب معه لأجتماع جمع التبرعات من الجالية اليهودية لأسرائيل , وأتفق معي بأنه سيضحك على أصدقاؤه ( نكتة براكتيكال جوك) بأنني أمثل شخصية أبن خالة الرئيس المصري جمال عبد الناصر , ومن خبرتي في تقمص شخصيات سابقة , كان تمثيل الدور سهلا علي , و كما توقعت بأن هؤلاء الأمريكيين يصدقون أي شيء وأن كانوا يهود , وتم أستقبالي بحماسة وترحيب وهم يرددون بعض الجمل بالمصرية المكسرة , وحبذا لو تبرعوا لي ببعض تلك الدولارات لأنني كنت في حاجة ماسة لها أكثر من أسرائيل .

Nassau , Bahamas

   

وأثناء أقامتي معهم , تعرفت على أصدقاء و صديقات أبنه و كانوا أيضا من اليهود الميسرين بل أن معظم سكان المدينة هم من اليهود الأثرياء , يأتون من نيويورك في مواسم الصيف الى شققهم الفاخرة لعدة أشهر , وفي أحدى الأيام قرر أحدهم القيام بسفرة نهاية الأسبوع الى ( ناسو) عاصمة جزر البهاماس القريبة جدا وطلبوا مني مصاحبتهم , وقبلت الدعوة برحابة صدر وخاصة وأنها على حسابهم , وهكذا وصلنا بسياراتهم الى المطار , وتم ختم جوازي العراقي بالخروج , وكنت مسرورا لهذه الفرصة لرؤية هذه الجزر التي سبق وأن دعيت لزيارتها من قبل أول فتاة سوداء ألتقيت بها في أول يوم وصولي الى لندن ( سبتمبر 1962) و سبق وأن ذكرته على موقعي على الفيسبوك ولا داعي لتكرارها , ونزلنا في مطار ناسو وأتذكر أسم المطار ( ويلكم تو ناسو) على الواجهة من أحدى أفلام جيمس بوند وكان حجز بطاقة الرجوع بعد يومين من تاريخه , ودخلنا المطار الصغير , ومر أصدقائي بسهولة وجاء دوري أمام ضابط الجوازات وبدأ يتصفح الجواز عدة مرات وينظر ألي وكأنني قادم من جزر الواق واق التي يجهل موقعها الجغرافي وطلب مني الأنتظار , وعندما علم الآخرين بوجود مشكلة أعطوني أسم الفندق وسيكونون بأنتظاري هناك . وبعد فترة قصيرة ولكنها كانت بمثابة ساعات , رجع وبدأ يشير الى أن الجواز غير صالح للدخول الى البهاماس لعدم الحصول على تأشيرة دخول , وبينت له أن لي تأشيرة أقامة في بريطانيا كوني طالبا في الجامعة , وكان ظني بأن جزر البهاماس محمية بريطانية تحت العلم البريطاني , وبأعتقادي أنها جزء من بريطانيا , ولهذا السبب لم أفكر بموضوع التأشيرة , وهذا الأعتقاد كان خطأ كبيرا لأنه أفاد بفخر بأن الجزر دولة مستقلة وأن كانت خاضعة للتاج الملكي البريطاني , ولذلك علي بالرجوع الى من أين أتيت , وعندما ذهبت الى مكتب السفر للخطوط الجوية الأمريكية ( فلوريدا أيروايز) وبطاقة الرجوع بيدي , وأنا ألعن ناسو وجزر البهاماس وأصحابي الذين ورطوني في هذه السفرة , ولكن بعد فحص التأشيرة الأمريكية تبين أنها لسفرة واحدة فقط و تم ألغاؤها بتأشيرة الخروج من مطار ميامي , وكانت هذه كصفعة زلزلت أركاني وبدأت أتلعثم في الكلام من شدة وهول الصاعقة , وخاصة عندما أجتمعت برئيس مكتبه وكان الجواب بأن الطريقة الوحيدة هي أرجاعي الى بلد الأصل وخاصة وأن مستنداتي وكتيب الأقامة البريطانية و بطاقة الرجوع الى بريطانيا كانت محفوظة في حقيبتي في ميامي بيج , ووظننت بأن الرحلة التي أستغرقت ساعة من الزمن لم تتطلب تلك المستندات خوفا من ضياعها , وبدأت أبكي وأندب حظي لتلك الغلطة كغلطة العمر والتي لم أحسب نتائجها وخاصة وأنني طيلة خمس سنوات دراستي لم أسافر خارج بريطانيا و لم أعلم بأن التأشيرات ليست متعددة وكنت على قناعة ساذجة بأن ختم التأشيرة لايعني ألغاؤها و عدم السماح للرجوع ألى أمريكا مرة ثانية , وبدأ جمع من الموظفين وضباط الأمن في ذلك المطار التعيس , ببحث عن سيناريو أيجاد خطوط جوية يمكن أيصالي الى بغداد ومن يدفع قيمة تلك التذاكر وأنا مفلس أعيش بضيافة الآخرين , عندما بدأت أصرخ بهم بأن حياتي ستكون في خطر داهم ليس فقط لذهابي الى أمريكا العدو اللدود لحكم حزب البعث الذي سيطر على العراق مرة ثانية وبدأ بمجازر ضد جميع القوى الوطنية وخاصة اليسارية والشيوعية التي قاومته بحرب شوارع راح ضحيتها عشرات ألالاف و أمتلأت السجون وأحكام الأعدام الفورية كانت على أقل شبهة وخاصة لمن كان يشتبه بكونه عميل أو جاسوس للغرب وأمريكا , ولم يتوصل الجميع الى حل و طريقة يمكن بها أيصالي الى بلدي الأصلي , وتم وضع المسؤولية على الخطوط الجوية لفلوريدا للسماح لي بركوب الطائرة دون التأكد من وجود تأشيرة سليمة لجزر البهاماس لأعتقادهم بأنني أمريكي مع الفريق بصحبتي , ومن يتوقع لعراقي أن يتواجد في مثل تلك الظروف وأن معظمهم لم يعرفوا موقع العراق على الخريطة , وعندها تدخل قبطان تلك الطائرة بفكرة بأنني نظرا لعدم دخولي الرسمي الى ناسو وعدم خروجي من مطار تلك الدولة , فأنه يمكن الحكم بأنني لم أخرج رسميا من أمريكا , ونظرا لأن لي بطاقة رجوع على نفس الطائرة الأمريكية , فأنا في حكم وجودي لا أزال على أرض أمريكية وعليه بطلان تأشيرة الخروج من الأصل . وتعهد بمصاحبتي بعد رجوع نفس الطائرة الى مطار ميامي وشرح الظروف الملتبسة و بأنني لم أغادر الطائرة بعد معرفة عدم حصولي على تأشيرة للدخول الى البهاماس , وهذا ما حدث و تمت عملية أنقاذي من الموت المحقق على يد السلطات البعثية كعميل و جاسوس أمريكي وأنا متلبس بالجريمة والتأشيرة الأمريكية والجواز المزور , وما كان سيحدث ليس لي وأنما أفراد عائلتي الذين لم يعلموا شيئا عن تلك السفرة لا من قريب و لا من بعيد !!.. 

بعد أن خرجت من المطار في ميامي وشعرت بانني أمشي على الهواء من غبطة فرحتي وبأنتهاء الكابوس المروع الذي وجدت نفسي فيه بدون دراية و بسذاجة منقطعة النظير , ولأحداث كان لايمكن تصور نتائجها الكارثية . ورجعت الى بيت أبن عمي شاؤول وأنا أجر أذياب الفشل و الهزيمة بعد كل النجاحات التي مررت بها طيلة تلك الفترة في ربوع بلد العم سام , وفي اليوم التالي حصلت على فرصة لسياقة سيارة باص فولكس واجن من ميامي بيج الى نيويورك , بعد أن توسط لي هذا الشخص اليهودي السخي مع تلك المرأة االيهودية لأيصال السيارة الى أبنها الذي يدرس الفنون الجميلة في أحدى جامعات نيويورك .
New York , East Coast

     

لم أصدق حظي وأنا أجلس خلف مقود السيارة بعد أسؤا تجربة مرت علي في حياتي , وأن أرجع بعدها سالما معافى أجرب حظي في السفر بأمان و حرية في بلد الحرية , وكان الطريق طويلا والنقود في جيبي بدأت بالنفاذ وخاصة تلك اليهودية لم تتبرع شيئا لمصاريف السفر و الوقود , ولكوني في حاجة ماسة لتوديع أفراد العائلة التي بدأت أشعر بأن مكوثي معهم قد طال أكثر من اللازم , وترددت الألحاح على اليهودية في طلب المساعدة خوفا من خسارتي لتلك الفرصة الذهبية للوصول الى المرحلة النهائية من رحلتي التي بقى لي منها حوالي 3 أسابيع من موعد السفر , وقررت أن أشارك مصاريف السفر مع من ألتقي بهم في الطريق , والمشكلة أن الباص ( الفان) كان ذو مقعد واحد أمامي فقط , أي راكب أضافي واحد . وكانت البداية جيدة الى ولاية كارولينا الجنوبية , وتذكرت بأن صديقي الآثوري منذ أيام كركوك ومانجستر و ليفربول روبرت خوشابا له أخ أكبر منه يعيش في المدينة , و قررت أن أستفسر عنه في مراكز الشرطة ومكتب الوالي , ولكن بدون نجاح يذكر و ربما أخطأت في الولاية لأنه ذكر لي ولاية كارولينا , والولاية فيها الشمالية والجنوبية ولايتان منفصلتان تماما , وهكذا قررت ترك الموضوع والأستمرار في الطريق , و لأول مرة وبغفلة مني أنسى قوانين مراقبة السرعة , ويتم اللحاق بي بسيارة الشرطة وصوت الأنذار و لأنوار الزرقاء فوقها تندلع بحماسة , وكانت الشرطة عادة تختبأ خلف الجسور في مداخل المدن و تنخفض

North Carolina, St. Helena County Jail

  

السرعة المسموح بها الى 50 كلم في الساعة وأنا أسوق بسرعة 70 , وتم أقتيادي الى بيت أحد القضاة , وأقول بيت وليس محكمة , لأنه في غرفة خاصة جلس خلف طاولته , وتم قراؤة صحيفة الدعوى :- سياقة بسرعة أكثر من 20 كلم في الساعة , وأعترفت بالجريمة , ولذا أصدر الحكم علي بغرامة = 20 دولار (دولار واحد لكل كلم ), ونظرا لوجود 30 دولار فقط في جيبي , لم أتمكن من دفع الغرامة , لحاجتي الماسة للوصول الى نيويورك , عسى أن أحصل شيئا بعد أيصال السيارة الى صاحبها , و عندما أدليت عدم أمكانيتي لدفع الغرامة , ظنا مني بأن القاضي سينظر ألي بعين العطف و التسامح , ولكن القاضي لم يأبه بجوابي وحكم علي بالسجن يومين أي 10 دولار لكل يوم , ولكنه أبدى ببعض العطف علي , و قرر سجن يوم واحد فقط بدلا من يومين لأنها أول تهمة ومخالفة سير , وهكذا تم حجزي في مقر الشرطة في مدينة صغيرة , ولكن لم يتم أعطاؤنا ملابس السجن لأن الحجز في مقر الشرطة ليس كدخول السجون الرسمية , وكنت مع عدد من المحكوم عليهم في تهم مختلفة في نفس الزنزانة التي سبق وأن رأيتها في العديد من الأفلام السينمائية لهوليوود , وتم تقديم لنا بعض السندويجات و الماء والقهوة , فأكلتها بنهم وأنا جائع و من شدة التعب و الشعور بالخجل أستلقيت على البطانية على الأرض و أستغرقت في نوم عميق معظم الوقت بالرغم من الأصوات والأزعاج من بقية السجناء وهم يصرخون في طلب الذهاب الى دورة المياه التي كانت خارج الزنزانة كأفلام الكاوبويز. وخرجت وأنا شخص محكوم عليه ومسجل في سجلات الشرطة , وعلى الأقل تم الأحتفاظ ب 20 دولار وهي أغلى ما عندي , و تجربة سأتذكرها طول عمري , وخاصة عندما أرى في الأفلام السينمائية تلك المشاهد عن مذنبين خلف القضبان وأتصور نفسي بينهم . وصلت الى نيويورك ولأول مرة في شوارع مكتظة بالسيارات وأنا أتابع السير لا أجرأ على التوقف خوفا من أرتكاب أي مخالفة مع شرطة نيويورك (أن واي بي دي) , وتوقفت عند أحدى الساحات وأتصلت بصاحب السيارة من تلفون عمومي , ومن حسن الحظ كان موجودا في البيت , فجاء بتاكسي وأنا في الأنتظار , وذهبنا الى شقته في قرية جرينويج ( جرينويج فيليج) وتصورت بأنها قرية خارج المدينة , ولكنها حي مشهور في قلب نيويورك ويسكنها الفنانون و الهيبيس و غيرهم من البوهيميين , و شرحت له موقفي وبأنني مفلس ولا مكان لي بالمكوث , وخاصة وأن والدته لم تعطيني نقود الوقود وأنني أضطريت لتصليح السيارة في الطريق كونها قديمة , فأبدى ترحيبه بي للبقاء معه لحين أحصل على عمل , وبأنه يعيش مع صديقته وعلي النوم على أرض البهو الخارجي , وهذا ما كنت متعودا عليه , وأنا لاأزال أحتفظ بفراشي السفري . وأثبت بأن اليهود أيضا يتمتعون بكرم الضيافة وأن والدته أرملة ليست ميسورة الحال . وفي دائرة العمل التي كنت دائم التواصل مع مكاتبها لأيجاد فرص عمل , حصلت على عمل في اليوم التالي في أحدى كراجات غسيل السيارات , فكانت وظيفتي تنظيف السيارة من الداخل بعد خروجها من الغسالة الأوتوماتيكية وكانت هذه الأعمال اليدوية الوحيدة المتوفرة والتي لاتحتاج الى عضوية نقابات العمال التي لا تسمح بعمل أي واحد غير مسجل في سجلاتها ودفع قيمة العضوية , وقمت بمساعدته في صبغ الشقة من الداخل , وتمكنت
Jones Beach , New Jersey State
بصحبتهم التعرف على أماكن لايعرفها معظم السواح في نيويورك, وتمت مرافقتهم الى ساحل البحر في الولاية المجاورة ويسمى جونز بيج المشهور في نيو جيرزي , ويقصدها معظم سكان نيويورك وخاصة في عطلات نهاية الأسبوع , وكانت صديقته طباخة ماهرة جلبت معها بعض المأكولات كبقية الحشود الغفيرة 

Buffalo. Niagara Falls , Cleveland ,Ohio State
ولكن فرصة أخرى لم أرغب في خسارتها , حيث كانت في الكراج الذي أعمل فيه , سيارة فورد موستانج الرياضية والمشهورة (ولا تزال) , تركها صاحبها للتصليح والمطلوب أيصالها الى مدينة كليفلاند في ولاية أوهايو وتطوعت فورا للقيام بالمهمة , ونظرا لقرب الولاية من مدينة بوفالو المشهورة بشلالات نياجرا قبلة السواح العالمية , فقصدتها وأنا أخرج من مسار طريقي مهما كانت النتائج , وأنا متحمس لمشاهدة تلك الشلالات التي تعتبر من عجائب الدنيا , ولكن وصولي كان في الليل , وكلما بدأت أقترب من الشلالات , يزداد ويقوى هديرها ويصم مسامعي , وكأنه صوت أنفجار براكين من تحت الأرض , وبدأت أرتجف من الخوف بأنني في ظلام الليل سأقع في مجرى تلك الشلالات السريعة و خاصة ما سمعت عن مغامرين في براميل خاصة يحاولون القفز الى أسفل الشلال , وعن حوادث أنتحار , وكل هذا زاد من رعبي وأنا أقترب شيئا فشيئا من ذلك الصوت المروع , فقررت الوقوف في مكان آمن بعيدا عن مجرى ذلك النهر ولحين بزوغ الشمس في اليوم التالي , وأنا في تلك الحالة المرعبة لم أرى مكانا لوقوف السيارات , ومن شدة التعب جازفت في الوقوف في الساحة الأمامية لأحدى البيوت خوفا من أرتكابي مخالفة لوجود السيارة في موقف غير مسموح به , وكذلك الخوف في الوقوف في مكان غير آمن نظرا لتوقع وجود عدد كبير من السواح والغرباء في القرب من الشلالات , وكان أمرا يستحق الحيطة والحذر وتوخي السلامة وخاصة بأنني سوف أنهض في الفجر قبل نهوض أصحاب البيت , و كعادتي ألتحفت بفراشي السفري وأنا أصم أذناي بقطعة قماش و غلبني النعاس وهكذا قضيت تلك الليلة داخل السيارة , ولكن نهضت على صوت طرقات قوية على نافذة السيارة , وفتحت عيني على شخص يحمل بندقية مصوبة ألي , وكان مذهولا لرؤيتي وأنا نائم بملابسي و لاتزال ربطة العنق ( البو تاي) متدلية حول عنقي , وقبل أن يطلق الرصاص علي كشخص متجاوز حرمة بيته , ومن حق ملاك الأرض حتى قتل من يدخل الى أرضهم بدون تصريح ( تريسباسينج ) , رفعت يدي عاليا وكما يفعل الكاوبويز ( هاندز أب) وأنا أبتسم من الخوف ونسيت تماما صوت وهدير الشلالات , وربما ربطة العنق أنقذت الموقف لأن مظهري لم يدل على أني سارق أو مجرم خطير , فأومأ لي بفتح باب السيارة والأدلاء بدلوي عن وجودي هكذا أمام باب كراج منزله , ومن حسن حظي أيضا لهجتي الأنكليزية لعبت دورا في تهدأة الأمور , فبدأ يبتسم لغرابة الأمر و حتى أنه دعاني لتناول الفطور مع عائلته , وأصطحابي معهم الى أماكن لمشاهدة الشلالات لايعرفها معظم السواح و هي النزول الى كهف أو مغارة في منتصف الشلالات مطل على مصب المياه الى البحيرة حيث ترتفع فيها الأمواج و رذاذ المياه كضباب أو كغيمة تتخللها تحت الشمس ألوان الطيف لقوس قزح رائعة الجمال , ومع الأسف كنت قد فقدت كاميرتي في بداية رحلتي ولم أتمكن من ألتقاط أي صور عدا شراء بطاقات البريد المعروضة لجميع السواح . وفي نفس اليوم عدت أدراجي الى الطريق المؤدي الى مدينة كليفلاند ولاية أوهايو , وبعد غسل السيارة بالغسيل الأوتوماتيكي كالعادة , تمكنت من أيجاد العنوان ورحب بي صاحب السيارة وأخذني في جولة في المدينة قبل أن يتركني في محطة الباص الجريهاوند للرجوع الى نيويورك , وخاصة ولم يبقى لي سوى بضعة أيام لرحلة العودة الى ليفربول , قضيتها في زيارة الأماكن السياحية وخاصة تمثال الحرية في جزيرة ستاتين ( ستاجيو أوف ليبرتي , ستاتين أيلاند) , والركوب في العبارة لنقل المسافرين بدفع دايم واحد فقط , أرخص سفرة بحرية في العالم وتمكنت من الصعود الى أعلى التمثال في المنصة العليا صعودا على الدرج الحديدي وبعناء شديد , ومشاهدة أروع منظر لناطحات السجاب في نيويورك مانهاتن , وحبذا لو كانت معي تلك الكاميرا لألتقاط تلك الصور الرائعة , والتي فقدتها في البداية
Liverpool , England ( Home at last !!..)

   

وفي مطار جون أف كنيدي (كان ولا يزال أيقونة في فن العمارة) , وفي دائرة الجمارك كان علي أن أدلي بما أحمله من نقود , ولقد كان في جيبي مبلغ 40 دولار , وتم فرض ضريبة دخل على هذا المبلغ البسيط 25% , أي دفعت منها مبلغ = 10 دولارات وحصلت على شهادة أخلاء الذمة من الخزانة الأمريكية !!..
و عدت سالما الى شقتي في ليفربول بعد 3 أشهر قضيتها في رحلة ماراثونية في أمريكا من الشرق الى الغرب ومن الغرب الى الجنوب و من الجنوب الى الشرق و من الشرق الى الوسط , عن طريق البر بين معظم الولايات لا يجرأ حتى أي أمريكي من القيام بها . لقد قمت بأنواع مختلفة من الأعمال , حتى أنني في الأسبوع الأخير ألتحقت بحملة للحاكم الجمهوري لنيويورك نيلسون روكافيلور التمهيدية في الأنتخابات لرئاسة الولايات المتحدة الأمريكية لسنة 1968 ( والتي فاز بها ريجارد نيكسون) , ولقد جذبي الأسم وما قرأت عنه كملياردير و أيضا أسم العائلة على أهم معالم نيويورك ( روكافيلور سنتر ) , ولذا الفائدة المادية والبذخ والمصروفات العالية للمشجعين لحملته ومن ضمنهم أنا وهم بحاجة لمن هب ودب من القاصي و الداني , حيث قضيت أسبوع كاملا أعيش مع هؤلاء الشباب في المراكز الأنتخابية في المدينة . وكان هذا آخر عمل في قائمة الأعمال الكثيرة التي قمت بها خلال 3 أشهر , ورفضت عملين فقط , بعد معرفة طبيعتها ومتطلباتها , وهي تنظيف في مزرعة لتربية الخنازير لقذارتها , و الثانية رعاية شخص مشلول الجسم على سرير , لتنظيف فضلاته أيضا لقذارتها , وتمكنت من من البقاء حيا يرزق , وأن في بعض الأحيان قضيت أياما بدون طعام , وطرقت حتى أبواب كنائس و أديرة بحثا عن وجبة طعام مجانية . أمريكا الرأسمالية لم توفر ملاجيء للفقراء و المشردين , فكانوا و لايزالون ينامون في الشوارع و الطرق و الساحات العامة , على الأقل كان لي الفراش السفري ( سليبينج باج) الذي قضيت فيه معظم الليالي طيلة 3 أشهر , نائما أما في السيارة أو في العراء , في رحلة ينطبق عليها تعبير أكتشاف و أستكشاف أمريكا !!..
وهكذا وصلت الى نهاية رحلة الألف ميل كانت شاقة و شيقة في كلتا الحالتين , بدأتها بأربعين جنيه أسترليني و أنتهيت بها بأربعين دولار أمريكي ولكن رجعت حاملا ذكريات لأحداث ومشاهد وتجارب حياتية , لايمكن أن يجمعها شخص أمريكي عادي في عمر بكامله , ولو ذكرت جميع تفاصيلها بالخط العريض لملأت عدة مجلدات , والقاريء الكريم في غنى عنها ودون أن يتم أتهامي بأفساد فكر الجيل الناشيء كما حدا بأحدهم عندما نشرت ذكرياتي عن قلعة كركوك القديمة , وأنا طفل مع طفلة بعمر 3 سنوات على سطح البيت والتي لا أزال أتذكرها كما لو أنها حدثت بلأمس القريب , وهذا يناقض رأي العلم الحديث بأن دماغ الطفل لايكتمل قبل بلوغه لخامسة من العمر وأن كانت الذكريات حتى في العمر +5 ضبابية أو معدومة بالنسبة لأغلبية الناس وأذكرها هنا لأثبات ذلك ( ربما حالتي نادرة الحدوث) , وقد يسأل قاريء لماذا الغوص في هكذا أحداث شخصية والجواب أن في سردها أحاول الرجوع أليها و معايشتها مرة أخرى وكرياضة فكرية لأبعاد خلايا الدماغ من الأصابة بالخرف . وعسى من يقرأها أن يستخرج منها عبر مفيدة في الحياة , والتعلم من تجارب الأخرين وعدم الوقوع في نفس الأخطاء , وكنتم خير قاريء !!..
أيوب عيسى أوغنا
معماري و خبير ومحكم دولي وخليجي معتمد
مسقط/ سلطنة عمان

   

  

إذاعة وتلفزيون‏



أفلام من الذاكرة

الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

1144 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع