رواية - حفل رئاسي - روايات الصدمة الأولى

   

             روايات الصدمة الأولى

   

      

يدخل الحديثي مرتضى، من جانبه طريق التبادل الخاص بروايات الصدمة الأولى في القاء القبض، قائلاً، أنا كنت في مدريد، بمكتبي سفيراً يوم أتصل بي وزير الخارجية، سائلاً عن الوضع والعلاقة مع الاسبان، وتأثير ما نشر عن المؤامرة على العلاقات مع العراق. أتذكر جيداً إجابتي له أن الامور هنا عادية مع قليل من القلق يشوب الاوساط النافذة في وزارة الخارجية، وتأكيدي على ضرورة تزويدنا بالتفاصيل، التي تكفي لطمأنه الدولة الاسبانية على مستقبل أفضل للعلاقات معها والعالم الأوربي، وتأييده الاقتراح مع انتظار التعليمات. واتذكر أيضا اتصاله في اليوم الثاني، وتأكيده على ضرورة الحضور الى بغداد فوراً لمقابلة الرئيس للموضوع نفسه. 

لم تكن في ذاك اليوم رحلة للخطوط الجوية العراقية الى بغداد، مما اضطرني أخذ الطائرة التركية المتجهة الى اسطنبول، ومنها الى بغداد التي وصلتها فجر اليوم الذي يلي. فاتني أن أذكر وبعد أتصال الوزير بدقائق، وصلني تلكس من الرئيس السوفييتي بريجنيف شخصياً، بعبارات محددة، "لا تذهب الى بغداد، توجه الى موسكو، ضيفاً عزيزاً، الكي جي بي، لديها علم بالتصفيات التي ستجري في البلاد"، لم أعر الموضع اهتماما، وإن أقلقني بعض الشيء.
وما أن حل صباح الأول من آب، وأنا في بيتي ببغداد، أتصلت أولاً بعزة إبراهيم في محاولة مني، جمع بعض التفاصيل عن المؤامرة وما يحدث، ومن بعده تكلمت مع حامد الجبوري الذي حل محل الوزير مؤقتاً، لأستفهم عن الموقف السياسي قبل الذهاب الى الرئيس، لكني لم أفهم منهما شيئاً، وألح كلاهما على ضرورة الذهاب الى الرئيس، اليوم قبل الغد. عندها توجهت الى حامد الجالس في مكتب الوزير، أتصل الرجل على الفور بالرئيس، وأخبره حضوري. ومن بعد نصف ساعة كنت في مكتب الرئيس.
رحب بيَّ الرئيس بطريقة، في ظاهرها كثير من الحماس، طلب من سكرتيره ومرافقه الشخصي ترك المكتب، وابقائنا على انفراد. سأل أولا عن أجواء المؤامرة وصداها في اسبانيا، وباقي دول أوربا الغربية، وعندما أجبته بوجود قدر من القلق في أوساط الدولة، وكذلك بعض الغموض عند رئاسة الوزراء ووزارة الخارجية، فاجأني بسؤال فيه عتب عن دور السفارة. والقى موعظة عن افتراض قيامها بحملة مكثفة، لإيضاح دور الخونة في هذه المؤامرة القذرة. حاولت الاجابة، ناديته بالرفيق أبو...، وقبل اكمال اسم ولده الأكبر عدي، تلك الكنية التي اعتدنا مخاطبته بها يوم كان نائباً، قاطعني بالقول، مرتضى أنت الآن في مكتب الرئيس.
شعرت حينها، وكأنه ينظر اليَّ بعين الاحتقار، ومع هذا سايرته في الحديث، وقلت له سيادة الرئيس، لم تكن قد وصلتنا أية تعليمات من الوزارة، تُعِيننا على تقديم الايضاحات، وها أنا اليوم جئت للحصول عليها مباشرة.
أما هو فقد استمر بنفس النظرة، وكأنه يضمر شيئاً مسبقاً، حيث أشار بلهجة المعلم القاسي، من أن السفير الجيد، لابد وأن يمتلك القدرة على المبادرة، في توضيح ما ينبغي توضيحه للعالم الآخر، من دون انتظار التعليمات.
لكني لم أيأس من الايضاح حسب قناعتي، فأجبته أن الموضوع حساس، وبحاجة الى تفاصيل تعين على تقديم الايضاحات، هكذا هي آلية العمل الدبلوماسي في العراق، أو في غيره.
أقول لكم أنه يضمر شيئاً لم أكن أتوقعه ساعتها، كان هذا واضح من سؤاله عن رأيي في المؤامرة، وماذا أقول عن مشاركة عبد الخالق فيها، وقيادة محمد عايش لها.
لقد أنفعل غاضباً عندما أجبته، أني محتار جداً بدوافع محمد عايش للتآمر على الحزب، ومحتار أكثر بكيفية اتصال المتآمرين بعبد الخالق، وهو في سجنه الانفرادي، إذ سألني عمن أخبرني أنه في سجن انفرادي، وأجاب هو من عنده، لابد وأن يكون الخونة المتآمرين هم من أخبروك بذلك، ولا بد وأن يكون لك أتصال معهم، حاولت أن أجيب، أوضح له الحقيقة، لكنه لم يعطيني فرصة. بعدها ضغط على زر الجرس الذي أمامه، وأمر المقدم رباح، وشخص آخر دخل معه بكلمة واحدة "خذوه"، فأصبحت بعد نصف ساعة مسجوناً في بناية لا أعرفها من قبل، قريباً من الجندي المجهول.
لا أعرف لماذا سجنت، وما هي الدوافع الحقيقية لسجني؟.
هل لكم أن تعينوني على التفسير.
لا يحتمل طارق موقف الجهل بالتفسير، وبدلاً من أن يفسر شيئا غير قابل للتفسير، طرح الأمر من زاوية استفهام أخرى، مشيراً الى صداقته بالرئيس منذ استلام الحزب السلطة أول مرة بداية الستينات قائلاً، لقد فتشت في دفاتري القديمة وفي خلايا عقلي، لم أجد ما يشوب هذه الصداقة أي تعكير، بل وعلى العكس من هذا، اذ أن مناقشة قد جرت بيني وبينه قبل أشهر، أثناء زيارتي بغداد، ومشاهدتي منضدة الرمل في وزارة الدفاع، التي تؤشر انفتاح الجيش العراقي بفرقه المدرعة، اتجاه الحدود الايرانية، وسؤال وجهته الى عدنان وزير الدفاع، هل يمكن أن نحارب إيران؟. وأعدت توجيهه الى الرئيس بعد أن أشار عليَّ الوزير أن أسأله باعتباره صديقي القريب.
لقد أجاب الرئيس في حينه، بطريقة تبين أن إيران اليوم تتمدد أفقياً، بلا رأس يضبط مقتضيات حاجتها الى البقاء قوية. وأجبته من أن الأمر معكوس، فان إيران تنمو عمودياً، وإن الخميني الذي أعرف أسلوبه منذ وجودي في فرنسا، وعملي ملحقاً عسكرياً فيها، هو أعلى الهرم، قوي جداً، والمسافة بينه، وبين أقرب المؤيدين والمناصرين، بعيدة بقدر أصبحت تدفعهم الى اللهاث خلفه، مؤيدين خطواته مستعدين الى التضحية من أجله وايران.
قال في وقتها، "أبو نداء"، كيف؟. هذا كلام أسمعه لأول مرة في العراق.
شجعني قوله على الاسترسال بشرح، نظرية الامام الخميني في الحكم، والتأكيد على أننا نحن الذي نتمدد أفقياً، ونحن من يحتاج الى الرأس القوي، لبناء دولة الوحدة العربية القوية. وهو ومن فرط حماسه قال، ما حاجتك سفيراً في برلين؟. وما فائدتنا من وجودك هناك؟.
نحن رفيق "أبو نداء" نحتاجك هنا قريباً منا، لكي نناقش مثل هكذا أمور مهمة، كلما امتلكنا الوقت.
عند هذا الحد أنتهى الحديث، وتناولنا طعام الغداء سوية، ومن ثم أوصلني الى الباب.
هل أن علاقة من هذا النوع، تفضي الى توجيه أتهام لا أساس له من الصحة؟.
ومع هذا لم يتوقف عقلي عن التفكير، منذ اللحظات الأولى التي تأكدت فيها، إدراج إسمي في سجل المؤامرة، وكلام برزان بمعرفتهم عدم اشتراكي فيها، وتجريمي افتراضاً بعدم الاخبار، لو إني قد أخبرت بذلك.
فكرت كثيراً في السبب، أنا أعرف مثلاً أنك... موجها الكلام الى السيد مرتضى كنت وزيراً للخارجية، ومن قبله وزيراً للعمل والشؤون الاجتماعية، وعضواً في القيادة القطرية، وقد زعل عليك الحزب ممثلاً، في البكر وصدام.
كما إن حامد محسوب على الصقور داخل الحزب، وهو لا يسكت على خطأ ما، والمرحلة من وجهة نظرهم، قد لا تحتاج الى أمثاله لكي تسير السفينة، وحليم عسكري متميز أراد البعض ازاحته جانباً وكذلك سرمد، لاحتكار المناصب العسكرية العليا. لكن المسألة بالنسبة لي غريبة، ومع هذا قد يقول أحدكم أن لأقرباء الرئيس ضلعاً في عملية الاقحام، لكن لي علاقات جيدة، بل ومتميزة معهم جميعاً.
فالشقيق الأصغر وطبان، المرشح القوي لمناصب عليا في القريب، أنا من قَبِلهُ في دورة نواب المفوضين عام 1968 عندما كنت في لجنة قبول حزبية، وشقيقه الآخر، برزان رئيس الجهاز، يعي علاقتي بالرئيس ويحترمها، لكن لي موقف مع المجيد، قد يكون سبباً أو واحداً من بين الأسباب، لا أعلم، ومع هذا أود أن تعينوني على تفسيره. إذ وعندما كنت مسؤولاً عن، شعبة كركوك العسكرية عام 1973، تلقيت تقريراً من أحد الرفاق عضو قيادة فرقة، أكد فيه أن المجيد، رئيس العرفاء الآلي للوحدة "عضو قيادة الشعبة"، قد اشترى جميع السيارات العسكرية المصنفة درجة خامسة، أي التي لا تصلح للعمل العسكري للفرقة الثانية، وقام بإعادة تصليحها، وطلائها في مفرزة الهندسة الالية الكهربائية للفرقة ذاتها. وبما أني ضابط ركن في الفرقة، والمسؤول الحزبي للتنظيم، وكذلك لقائد الفرقة شخصياً، أَشرتُ على القائد، تشكيل مجلس تحقيقي بالموضوع، وفعلاً تم تشكيل المجلس، وكوني أنا المسؤول المباشر للمجيد أمرت بوضعه في الحجز، ولأني كنت في طريقي الى السفر ضمن وفد الى الاتحاد السوفيتي، بعثت على المجيد، وأكدت عليه بضرورة عدم النزول الى البيت، إذ قلت له بالحرف الواحد، أنك ابن عم السيد النائب، وإذا ما نزلت وكسرت أمر الحزب، فستنعكس على سيادته، وهذا ما لا نريده، خاصة وإن مدير الهندسة الآلية، يخاف منك شخصياً.
لقد وعدني بالامتثال الى أمر الحزب، مهما كانت النتائج. وقد وفى بوعده حسب علمي.
وماذا كانت النتائج، سأل عزام؟. فأكمل طارق ما بدأه:
لقد ذهبت الى موسكو، وبذهابي استلم الشعبة مؤقتاً الرفيق السامرائي، وطرح على المكتب العسكري موضوع المجيد بصياغة غير صحيحة، محاولاً التقرب من خلالها الى النائب، عندما صور تشكيل المجلس، افتراء على المجيد، طالباً ضرورة إنهاء حجز عضو قيادة شعبة، وعدَّ الحجز تجاوز على الصلاحيات، الممنوحة للرفيق أمين سر الشعبة أي أنا. لكن والحق يقال، وكما أخبرني الرفيق حميد عضو المكتب العسكري في حينه، مبيناً أن أمين سر المكتب العسكري، النائب آنذاك رد معقباً على كلام السامرائي بالقول، ان الرفيق طارق سيأتي من الوفد، بعد أيام وهو صاحب الشأن، وأنا أرى أنه كضابط ركن في الفرقة، يحق له حجز أحد ضباط صفها، وتصرفَ على وفق الصلاحيات، وما علينا سوى الانتظار، ومن بعده اتخاذ القرار.
لكني وعندما عدت من موسكو، وذهبت الى كركوك وجدت أن المجلس التحقيقي قد أُغلقَ، وإن الرفيق الذي رفع التقرير، سحبه معتذراً. عندها أمرت بإنهاء الحجز، وفي وقتها جاءني المجيد طالباً النقل الى أي مكان من العراق، بسبب المجلس وإن أنتهى بغلقه، فاقترحت نقله الى بغداد، والى شعبة الشرطة التي كنت مسؤولاً عنها أيضا. فرحب بالفكرة، وغادر كركوك متوجها الى بغداد خلال أيام.
خلاص، لقد بان الأمر بالنسبة لك، كان المجيد هو المسؤول، عن وضعك في قائمة المذنبين، قال حليم، فطلب منه أن لا يستعجل فللحديث بقية؟.
أكمل سيدي، فالوقت مفتوح.
بعد شهر من النقل الى بغداد، طرح النائب في اجتماع المكتب تقريراً، يطلب فيه المجيد إحالته على التقاعد، لتعبه من الخدمة العسكرية، التي قضاها في الوحدات الفعالة، والغريب في الأمر أن النائب أشار في ذاك الاجتماع، الى أن علي المجيد صحيح ابن عمه، لكن العلاقات معه مقطوعة، حتى إنه لم يعرف من قبل، أنه منتمٍ أصلاً الى الحزب، وإنه عضو قيادة شعبة، لأنه كان منعزلاً عن العائلة (وهنا أشك في الأمر، وأعتقد أنه كذب).
المهم لقد وافقنا على إحالته على التقاعد، لكنه طرح من بعدها مطلباً آخراً، هو إضافة ستة أشهر لخدمته حتى تصل الى خمسة عشر سنة، المدة التي تكفي لصرف الراتب التقاعدي، ووافقنا ايضاً.
هل انتهينا من المجيد؟. قال حليم، فأجابه طارق، ان مسلسله الذي أخذ منا كثيراً من الوقت، لم ينتهي بعد، إذ أنه وفي الاجتماع اللاحق، طرح النائب موضوع المجيد أيضاً، وهذه المرة يتعلق بقلة راتبه التقاعدي، مقترحاً إعادته الى الخدمة، ومنحه رتبة مفوض، وتنسيبه الى الامن العامة، حيث العمل في محيطها حزبياً. وقد أخذ رأيي بالموضوع، باعتباري مسؤوله الحزبي المباشر، فوافقت. على هذا لا يمكن الجزم، أنه المسؤول عن حشر اسمي مع المذنبين، لأنه لم يبدِ أي رد فعل سلبي على موضوع حجزه والتحقيق معه، وعلى العكس، فقد شكرني كثيراً يوم وافقت على منحه رتبة مفوض أمن.
دقيقة، طارق قبل أن تكمل ما يساعدنا على الاستنتاج، وددت أن أسألك، هل ان المجيد اشترى السيارات العسكرية المصنفة فعلاً؟. وهل قام بطلائها في مفرزة التصليح العائدة للفرقة الثانية وباعها لحسابه؟. أريد قناعتك أنت، سأل حليم بعد أن أستهواه الموضوع، فكانت الإجابة واضحة: نعم لقد قام بهذا، وأنا مقتنع بحصول التجاوز والمخالفة، ومقتنع أيضا بحجزه الذي لم يكون انتقاماً، بل لحماية الحزب من الانحراف، ولحماية النائب أيضاً من كلام، قد يطاله بسبب سلوك سلبي لشخص محسوب عليه. لقد تصرفت بمهنية حزبية، إلا أني وبعد سحب عضو الفرقة لتقريره، واتخاذ المجلس قراره بغلق التحقيق، لم يعد لي من بد سوى الرضوخ الى النتيجة التي جاءت بحسب تقديري بضغوط من جهات خفية، لا أعلمها، ولم أرغب بالتدقيق في أصولها آنذاك.
لا تعلمها، أم لا تريد أن تفصح عنها؟، قال حليم وطلب أن يسأل سؤالاً آخراً، فأجاب طارق أنه عارف بأسئلته التي سوف لن تنتهِ، وعارف بطبع له يدفع صاحبه الى حفر البئر بإبرة، حتى وصول الطين الحري، كما يقول المثل العراقي.
سأل عن مصير عضو قيادة الفرقة، الذي رفع التقرير، فأجابه، حسبما أتذكر أنه الملازم الأول جواد، آمر المفرزة التي ينتسب اليها المجيد، عندما كان ضابط صف، سمعت أنه قُتلَ في بيته بالحي الجمهوري، في كركوك على يد مجهولين، بعد سنتين من حادثة التقرير.
خلاص، كِملت، رد حليم.
سأله طارق مستفسراً عن مقصد قوله هذا؟. فحاول التملص من الاجابة، بالتأكيد على أنها معلومة أرادها لنفسه، لكنه وتحت الحاح طارق لمعرفة القصد، قال حليم أن هذه العائلة لا تنسى ثأراً لها مهما طال الزمن.
لكن طارق لم يتفق معه في هذا الاستنتاج، فأكد قائلاً:
من غير المعقول أن يكون المجيد هو السبب، خاصة وإني من رشحه ليكون، عضو فرع، يستلم مسؤولية قيادة شعبة الشرطة، بعد أن وجدت نفسي غير قادر على الايفاء بمسؤولية إدارتها، مع شعبتين اخريين في آن معاً، وقد أيدني النائب آنذاك في الترشيح. ومن بعد هذا أستمرت علاقتي به أكثر من جيدة، إذ صار بيننا ود ولقاءات خاصة، ودعوات متبادلة، وقد صحبني من وزارة الخارجية الى المخابرات قبل يوم من اعتقالي، كما أننا قد التقينا برزان معاً، وتكلمنا عن المؤامرة معاً. لو كان يضمر شيئاً في داخله، لما تجرأ وسايرني الى أن تركت المخابرات، باحثاً عن تفسير مقنع للمؤامرة، وَتَركها هو متجهاً صوب المكتب العسكري، الذي أصبح عضواً فيه بعد استلام الرئيس مسؤولية القيادة القطرية، بعد أيام من الاعلان عن المؤامرة.
رد حليم على اجمالي القصة قائلاً، تبقى غشيماً، وسأبقى أقول أن هذه العائلة لا تنسى ثأراً، ويكمل قوله لكل منا قصة أو موقف أو حتى وضع، دفع لأن يكون سبباً الى حشره في دهاليز هذه المؤامرة، أو الأصح اقتراح تسجيله في قوائم العقاب.
فحامد مثلاً وقاحته، آسف شجاعته المفرطة، وتمرده على الواقع قدمته قرباناً للعائلة، ومرتضى مهنيته الحزبية الزائدة عن الحدود الطبيعية، ومسؤوليته في صياغة تأميم النفط، قدمته قرباناً، لأن السلطان لا يريد تسجيل أي مكسب إلا باسمه، فجاء سقوط "أبو محمد" ليبقى هو وحيداً في ساحة المكاسب، يجول ويصول.
أما أنا فكنت قرباناً قدمني وزير الدفاع، إذ ومنذ أن عدت من حرب تشرين، وبدأ تسليط الضوء على حالتي، أخذ بعض الضباط من جيلي، بينهم الوزير وآخرين يتحسسون من حالتي، وبصددها قال لي سعدون غيدان، في جلسة خاصة جمعتنا سوية، في بيته عام 1976، ان الجماعة يدفعون بعدنان ليكون رئيس أركان الجيش، لكنهم يتحسبون لمشكلة وجود ثلاثة ضباط، معروفين بعلمهم العسكري، وإمكاناتهم القيادية، بينهم اللواء وليد وأنت، ورفض ذكر الاسم الثالث، مؤكداً ان جلسة تقييم حزبي ورد فيها اسمي، قال فيها عدنان آنذاك أني نظري، ولم أكن مُجرب عملياً، كذلك عصبي أستثار بسرعة. من هذا أستنتجُ أن عدنان وضعني في عقله من تلك الأيام، ولا أعرف ماذا قال أو دس في عقل الرئيس، من معلومات لتكوين صورة سلبية، هي من قدمتني اسماً في قوائم العقاب.
توقف حليم عند هذا الحد، كانه أكتفى بما عنده هذه الليلة، أو أنه أراد أن يسمع من غيره، ففي السجن عادة ما يميل المسجونين، الى سماع قصص غيرهم، يقارنوها مع قصصهم وعلى أساس المقارنة، يشعرون بالتوتر أو الارتياح.
لم يبق من هذه المجموعة، من لم يعرض خبرته، أو مأساته غير عزام، لم يتكلم عن جل الموضوع، ولم يتطرق الى تفاصيل حاله طوال الجلسة مكتفياً بالاستماع، فالتفت اليه حليم، قائلاً، والآن جاء دورك سعادة السفير.
قال عزام، وكانه كان مستعجلاً القول، بالنسبة لي، كنت مثل غشيم تلدغه الأفعى ذاتها، من المكان ذاته مرتين، إذ حضرت الحفل الرئاسي، في قاعة الخلد، وسجلت ذاكرتي القوية، كل تفاصيل ما جرى في تلك القاعة اللعينة، وخرجت منها الى الوزارة، اشبه بالمصروع، قدمت ايجازاً الى السيد حامد الجبوري الذي حل محل الدكتور سعدون لسفره، أخبرته بتفاصيل ما جرى، عدت بعدها الى مكتبي متيقن جداً أن في الأمر شيء غير طبيعي، وفيه أسرار، واحتمال ان يكون ملفق بنسبة عالية. بقيت بعد العودة من الحفل سالماً في الوزارة، داخل مكتبي الى ما قبل الافطار، لم أشأ الاتصال مع أحد، وبدلاً من الذهاب الى البيت، قصدت صديق تربطني به علاقة قوية، وددت أن ينورني في خطوتي القادمة، ويهوّن علي خوفي من حزبي، ودائرتي، ومن نفسي، فحصلت منه على تهدئة مؤقتة لقلقي، أعادتني الى البيت قبل السحور.
في الطريق الى البيت، مرت على خاطري كثير من الأفكار، بينها الاختباء مؤقتاً، أو السفر الى خارج العراق هروباً، لكن ترشيحي الى سفير في واشنطن، وموافقة الجانب الأمريكي على الاعتماد، وانتظار موافقة الرئيس على موعد السفر، أعاقت كل مشاريعي، قيدت قدرتي على المجازفة، وجعلتني مثل اسفنجة تمتص فقط ما يأتي من صدمات.
بقيت عدة أيام أتابع الموقف من بعيد، أدقق في قوائم الاستدعاء الخاصة بالسفراء، أراجع فكرياً أصول المتهمين، أنتظر موافقة الرئيس على الالتحاق بوظيفتي الجديدة، سبيلاً لهروبي بعيداً عن المحرقة، التي بات سعيرها يتسع، ولهيبها يقترب من أن يكوي الجميع.
لكنهم لم يتركونا نهدئ، فالسيناريو معد، والتنفيذ على مراحل.
أنا واثق من أن إسمي من بين أسماء، كانت موجودة منذ اليوم الذي حصل فيه الحفل بالقاعة البائسة، لكن السيناريو الذي أعدوه، يتطلب إخراجه لأن يكون التنفيذ على مراحل متتابعة. وقد بدأت المرحلة الخاصة بيّ، بالساعة السادسة من يوم 31 تموز، تلفون جاء من شخص، قال أنه خفر الوزارة، طلب مني تغيير ملابسي، والتوجه على الفور الى مقر الوزارة، لمقابلة السيد الوزير في أمر هام، هو بالانتظار، والسيارة التي ستقلك موجودة أمام الدار.
أرعبني التلفون، وطريقة إملاء الأمر بالحضور، هزتني من الداخل. بدأت أثناء تغيير ملابسي أضرب أخماس بأسداس، عاودتني فكرة الهروب، لكنها فكرة مجنونة، الهروب في هذه الأيام، كمن يرمي الهارب نفسه في حوض مليء بحامض الأسيد "التيزاب".
غيرت ملابسي، تسللت من البيت، لم أشأ اقلاق أحد يزيد من قلقي، لم أودع زوجتي التي أنجبت لنا ولداً قبل أسبوع، خرجت الى الشارع، فوجدت السيارة كما حددها الخفير، سارت بيّ بغير الطريق الذي تعودت سلوكه يومياً الى الوزارة، سالت السائق الذي لم أره في الوزارة من قبل، فطلب مني السكوت، ولما شاهدني أتحرك في مكاني، أعتقد أن لي نية ما، فأشار عليّ بضرورة الهدوء والامتثال الى الأوامر، ونوه عن سيارة أخرى تتبعنا من نفس النوع فيها ثلاثة شباب.
أوصلوني أولاً الى البناية الرئيسية لجهاز المخابرات، وضعوني في غرفة خاصة بجنب الاستعلامات، ومنها نقلت الى البناية التي جمعتنا في يوم المحاكمة، وما تبقى أنتم جميعاً تعرفون تفاصيله المشتركة.
أجلوا يا سادة أحاديثكم الى وقت آخر، الفجر قارب على البزوغ، وعلينا النهوض في السابعة، هل نسيتم التعليمات، قالها مرتضى، إيذاناً بالاستسلام الى نوم الليلة الأولى، في سجن ابو غريب، فأغمض عينيه على ألم الخيانة، وسلم نفسه طوعاً الى سلطان النوم.
أما طارق، وقبل الاستسلام لهذا السلطان العظيم، قد مسحت هذه الليلة، في هذا السجن من عقله كل ترسبات العقيدة، أزالت من خلاياه ما يخص الحزب ومبادئه، كأنها كشفت عن غشاوة غطت بصره، وبصيرته طوال تلك السنوات، فأخذ على نفسه عهداً، إن خرج منه على قيد الحياة، سوف لن يتردد دقيقة واحدة في مغادرة العراق، وعائلته ما بقيَّ الحزب حاكماً.
ومن جانبه أمضى السفير شكري، ليلته هذه كأنها عمر طويل، إذ لم يشعر منذ أن وطئت قدماه أرض السجن هذا اليوم، وكذلك في الزمن الذي سبقه ابان حكم عبد السلام عارف بليلة أطول منها.
فكر كثيراً، لام نفسه كثيراً على عدم الأخذ بنصيحة صديقه الدبلوماسي في وزارة الخارجية المجرية، وعاد الى العراق رغم التحذير الذي جاء على لسانه بشكل صريح.
بعد أن أخذ الجميع أمكنتهم على الأسرة، قال حامد من مكانه على السرير من دون اعارة الاهتمام، الى تعليمات الالتزام بالصمت، بعد حلول موعد النوم.
لقد حل هنا في هذه الزنزانة اللعينة الزمن المستحيل... الزمن الذي انكفأ فيه الحزب على رفاقه المخلصين.
لم يعد ثمة معيار للنضال.
كأن قادة الحزب اليوم ينكفؤون على قواعد حزبهم، ينشغلين بأعباء التمسك المطلق بالسلطة، وأدوات بسط السيطرة والنفوذ، بقوة القهر والتعذيب.
تصبحون على خير، فالمشوار من أمامنا طويل.

للراغبين الأطلاع على الحلقة السابقة:

https://algardenia.com/2014-04-04-19-52-20/thaqafawaadab/38256-2018-12-17-17-46-24.html

  

إذاعة وتلفزيون‏



أفلام من الذاكرة

الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

735 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع