وأد البطل نهاية جيش وملحمة وطن /الباب الثاني: حروب الهدم البنيوي - الفصل الثاني: حرب الخليج الثانية

  

الباب الثاني: حروب الهدم البنيوي
الفصل الثاني: حرب الخليج الثانية

         

              نهاية حرب وبداية أخرى

انتهت الحرب مع ايران في 8/8/1988، حسب التوقيت العراقي، وكان الجيش بفيالقه السبعة، مرهقا من الناحية المعنوية، بعد تعرضه لضغوطها طيلة ثمان سنوات مستمرة. وكانت مستويات ضبطه، تقل كثيرا عن مستوياتها بداية الحرب. وكذلك كانت سياقات تدريبه وتجهيزه التي تغيرت باتجاه السلب كثيرا ايضا. ومع هذا التغير والخلاص من هموم المعارك وضغوط القيادة العليا، شَعَر القادة بفراغ من نوع خاص، او انهم كمن فقد شيئا، واكتشفوا بعد توقف القتال أن معالم الضعف "الهدم" قد أصابت كل جوانب مهنتهم، وإن إصلاحها يستلزم جهودا غير متاحة، وترميم جوانبها يتطلب أموالا غير ميسورة، والمحافظة على مكتسباتهم ووجودهم يقتضي أوضاعا غير ممكنه، فأصيبوا بصدمة زادت من تعقيد الوضع النفسي لعموم القوات المسلحة، وبدأ البعض منهم يتصرف بصيغ الميدان، وبضوابط الحرب التي يجيد فنها استعراضيا، فحال دون التسريع في إعادة البناء المهدم لمرحلة ما بعد الحرب، فساعدوا بأفعالهم وتقاريرهم وادعاءاتهم القوة والتمكن، على حصول حرب أخرى، كانت هي حرب الخليج الثانية، التي قوضت ما تبقى من بنية القوات المسلحة. في ظروف دولية تتجه في بعض جوانبها الى التسريع بعملية التقويض، خاصة وان الوضع السياسي بعد أنتهاء الحرب مع أيران كان مرتبكا، يمهد الى حصوله. فالعالم الغربي، وبينه امريكا تؤكد ضرورة هيكلة الجيش وتقليص اعداده، بما يكفي للدفاع عن حدود العراق. ودول الخليج التي كانت تدعم خزينة الحرب، توقفت عن الدعم وتحولت نحو المطالبة بديونها التي سبق وان اعطتها للعراق، كي يستمر في قتاله مع ايران، ويكونون هم بعيدين عن نيرانها. تأكيدات ومطالبات، فسرتها القيادة العليا توجه لاستهدافها، فاوقفت خطوات الهيكلة، وعاودت التسلح والتوسع في التشكيل بطريقة هدم واضحة المعالم. وفي ظروف كان الوضع النفسي فيها مرتبك لما يقارب مليون عسكري منتسب قضوا فترة شبابهم بالقتال، تسرحوا لفترة قصيرة، فتشوا خلالها عن عمل يوفر لهم العيش، وقبل ان يجدوه، اصطدموا بتوجهات القيادة لاعادة تجنيدهم كأحتياط. واصطدموا ايضا بسوق العمل الراكد، والمصانع شبه المدمرة، وباستمرار بعض القاد العسكرييين الميدانيين، في التغريد بأنغام الحرب ومفرداتها في التضحية من اجل القائد...صدمة او مجموعة صدمات، حَرَفت كثير منهم عن الطريق القويم، وزادت من سرعة الهدم بشكل غير مسبوق. انها عوامل بطالة، وكساد، وعوز، وشحن نفسي، واحباط، اجتمعت مع عوامل السياسة، وخصائص القائد الاعلى الانفعالية، فاشعلت فتيل حرب ثانية في الخليج، كانت أقسى من الحرب مع ايران، وكانت نتائجها في مجال التهديم البنيوي، تزيد عشرات الاضعاف عن الحرب التي حصلت مع ايران.
امتدادات الحرب  
ان حرب الخليج الثانية امتداد طبيعي لحرب الخليج الأولى من الناحية السياسية، وان أداء العسكر العراقي في الثانية، واستخدامهم أداة طيعة في إفتعال الأزمة نتيجة حتمية لما آلت إليه الأمور في الحرب الأولى، إذ أن الضعف التابعي لكبار القادة العسكريين، وإمتثالهم غير المحدود لأوامر القائد الاعلى، وعدم استعدادهم لمناقشته في أبسط الأمور وأعقدها، والإشادة بخططه العسكرية الفاشلة، والثناء على توجيهاته الميدانية غير الصحيحة،وتقديم المقترحات العسكرية التي تستهوي ميوله، والركض من أمامه لإزالة العقبات، وغيرها خصائص ومواصفات، دفعته إلى التمادي في تجاوزهم، قادة وجدوا لأغراض تسهيل تنفيذ تطلعاته ورغباته.

    

هذا ما حصل مع صفحة الحرب الاولى "احتلال الكويت" التي نفذت بأسلوب المافيا والعمليات المخابراتية البعيدة عن خطوات العسكر في التحشد والتقدم وتنفيذ الهجوم بصفحاته المعروفة. حصل دون معرفة القادة الفعليين للجيش. بصدده ورد على لسان أحد ضباط التوجيه السياسي في شعبة التصوير التابعة الى التوجيه السياسي، أن:

       

الفريق الركن سعدي طعمة الجبوري وزير الدفاع خلال فترة الاجتياح، قد حضر بالساعة الثامنة صباح يوم 2 آب، الى مقر الشعبة في بنايتها الواقعة بالكرادة، لأخذ صورة فوتوغرافية في الاستديو الخاص بها. حضر وكأن الأمر طبيعيا، عدا استغراب كان باديا عليه، عبر عنه بصيغة استفسار من المقدم مدير الشعبة عن صحة دخول الجيش العراقي الى الكويت.

                         

كذلك كان الحال بالنسبة إلى الفريق الركن نزار الخزرجي رئيس أركان الجيش، الذي يتداول المقربون منه، أنه سمع بالاجتياح عن طريق نشرات الأخبار التي كان يتابعها من الراديو وهو في طريقه من البيت في زيونة الى مقره بوزارة الدفاع.

خطة التنفيذ المخابراتية
لقد جرى تقدم أفراد من جهاز المخابرات على منطقة العبدلي الكويتية، ودخلوها بحافلات توحي أنهم مسافرين، احتلوا المنطقة الحدودية، وقطعوا الطرق وخطوط الاتصال، فمهدوا لقطعات الحرس الجمهوري القريبة بالتقدم سريعا بالدبابات، وناقلات الأشخاص المدرعة،مدعوم من طائرات سمتية غير مسلحة جيدا، ليفاجئوا الكويتيين بتجوالهم في شوارع المدينة مع ساعات الصباح الباكرة يوم 2 آب 1990، لتبدأ صفحة جديدة من الأزمة، وصفحة ثانية من التخريب والهدم، لمرتكزات العسكرية العراقية. هذا ولمناقشة تأثيرات هذه الحرب على بنية الجيش والقوات المسلحة العراقية، لا بد وأن تكون المناقشة شاملة لأربعة مراحل هي:

1. الاجتياح والتحضير للمعركة الدفاعية
دخلت قوات الحرس الجمهوري، بعد انجاز الجماعات الخاصة للمخابرات، عزل مجمع العبدلي الحدودي الكويتي، لتأمين المباغتة وقوة الصدمة، تبعتها وحدات من الجيش، ومن ثم قواعد للجيش الشعبي، لينتهي الأمر احتلالا كاملا للكويت، وضمها لأرض العراق، محافظة تاسعة عشرة، وإنشاء دفاعات حول المدينة وفي داخلها، وتنظيم موضع دفاعي يمتد من نقطة التقاء البر الكويتي بالخليج العربي، ليتجه غربا بمحاذاة الحدود السعودية العراقية، مستوعبا غالبية الجيش العراقي، الذي يزيد تعداد أفراده آنذاك على المليون فرد، بقوا في مواضعهم حتى بدء الهجوم الجوي يوم 17/1/1991، ومن بعده الانسحاب المشهور يوم 25/2/1991. وهذه مرحلة عند النظر إلى تأثيرات الهدم فيها على بنية القوات المسلحة، لا بد من الإشارة إلى إنها امتداد لمعالم الهدم التي تمت ابان الحرب مع إيران. فالقيادة، هي ذات القيادة المدنية السياسية التي صادرت قرار القائد العسكري الميداني. وضعته تحت ضغط تهديداتها المستمرة. اشترت موقفه الوطني بثمن باتت تدفعه في مناسباتها المتعددة. وسياقات التعامل بين الأعلى والأدنى، لم تتغير طبيعتها في هذه الفترة عما كان يجري في تلك الحرب الاولى. والفردية الذاتية، والرفض القاطع لتحمل اعباء المسؤولية، والتوجس خيفة، والتحسب تورية، خصائص سلبية بقيت نسبتها عالية في الشخصية العسكرية. لكن الضباط الشباب الذين قادوا تلك الحرب مع إيران بخبراتهم المحدودة، أصبحوا الآن أكثر نضجا، وإدراكا لمستلزمات الحرب والقيادة، وأكثر خشية على الروح والمصالح واكثر تراكما لإنفعالات القلق في النفوس.
ان قادة الحرب الخليجية الاولى مع ايران، هم من قاد الحرب الخليجية الثانية مع قوى الائتلاف الدولي، بفنون قتال واساليب تعبوية تقليدية تتلائم ومستوى الطرفين المتقاتلين اي ايران والعراق، اللذان ينتميان سوية الى مجموعة الدول النامية تقنيا. واكتشفوا ان اساليبهم المعتادة، لم تنفع مع عدوهم المصنف اعلى مجموعة الدول المتقدمة تقنيا، لكنهم لم يستطيعوا فعل شيئ سوى الاستمرار بالمعركة، وتقبل الخسارة قبل وقوعها، فكانت حرب بمعارك شرسة تركت بصمات واضحة على بنية القوات المسلحة. لمناقشة متغيراتها، لابد من وضع المتغيرات التي نوقشت تأثيراتها في مرحلة الحرب مع إيران، في الاعتبار على انها عوامل مستمرة التأثير، وما جاء من بعدها في هذه الحرب متمم لها او ناتج من نتاجاتها، لان الاسلوب والادارة والتعامل لم يختلف لكلا الحربين. وعلى اساسها ستكون العناوين التي ستتم مناقشتها قريبة من تلك العناوين ذات الصلة بالتعبية، التي نوقشت من قبل، وقد يكون الاختلاف بينهما في شدة التأثير التي زادت في هذه الحرب، اذا ما نظرنا اليها من زوايا مثل:  
آ. اضطرابات الدفاع. أوكلت القيادة العامة مهـام الدفاع، إلــى أربعة فيـالق( فل1 ، فل3 ، فل4 ، فل7 ) وأعطت واجب الدفاع عن مدينة الكويت إلى قيادة قوات الخليج، وأبقت قوات الحرس الجمهوري لأغراض الاحتياط والهجوم المقابل. إلا أن طبيعة تهديد الحلفاء وشكل الأرض الصحراوية المكشوفة، حتم قيام العسكر العراقي باتخاذ وضع الدفاع لعموم قطعاته، أي حفر مواضع وملاجئ، وإعداد الأرض لتجنب تأثيرات القصف الصاروخي والجوي، والاختفاء من الرصد الجوي، ومتابعة الأقمار الصناعية جهد الإمكان. وهذا وضع فرض عليهم البقاء في مواضعهم لفترات ليست قصيرة خاصة بالنسبة إلى وحدات الجيش القريبة من الحافات الأمامية للموضع الدفاعي، لأن التحرك يعني الكشف، الذي يحتم التأكيد على الإقلال من الحركة نهارا والتعويض عنها فيما يخص الأرزاق والأمور الإدارية ليلا على الأغلب، إلا في الحالات الضرورية.... عامل إذا ما أضفنا اليه عزلة الموضع الدفاعي، عن التجمعات السكانية والمدن "عدا مدينة الكويت" نرى أن العزلة والشعور بها كانت منتشرة بين عموم المدافعين. عزلة مؤلمة قيدت الحركة بشكل حاد في الأيام الأخيرة"ما قبل القصف الجوي" فأضعفت المعنويات كثيرا، وزيدت كثيرا ايضا نسب الإصابات النفسية المتمثلة في الإيذاء المتعمد للنفس. والميل الى الانتحار. وتكرار المشاجرة. وغيرها، مشاكل اقتربت في وقتها من حدود الاضطراب،مثل الافراط في تناول الحبوب المهدئة والمهلوسة، التي يعد قلق العزلة، السبب المباشر لحصولها، ويعد ارتفاعه لدى الشخص المعزول، وراء صعوبة الاستقرار في المكان، وفي حالتها يجد المعني نفسه ميال إلى التحرك. يجلس في المكان تارة، ليكتشف أن الجلوس لم يخفف من قلقه، فيعود إلى الوقوف ثم المشي. حركات لم يساعد الموقف القتالي الدفاعي، على القيام بها، فازدادت شدة القلق، وتحولت انفعالاته إلى اضطرابات عصابية، وضعف في الحالة المعنوية(8).
إن العزلة وتقييدات الحركة المفروضة باستمرار الوقت، مع ترشيد ومن ثم منع الإجازات، وانعدام الترفيه، وقلة الاختلاط، وكثرة التحسب، تسبب في وضع نفسي لغالبية المنتسبين، قربهم من حافات العصاب.
ان هذه عوامل مع قيادة بنت اساليبها في التعامل على الشك والتهديد، وارزاق من الدرجة الثانية، تصل ناقصة، متأخرة عن مواعيدها، لغالبية قطعات الجيش، "باستثناء الحرس الجمهوري، الذي تُقَدم لمنتسبيه كاملة من الدرجة الاولى، وبالوقت التقريبي دون تأخير". مما عرض المدافعين، لأعباء الرفض المبطن بما يفوق طاقاتهم المستنزفة، ودَفعِهم باتجاه تشكيل مدركاتهم، متمحورة حول جسامة الخطر الذي يتهددهم...ضغوط نفسية، كانت شديدة عليهم طيلة تواجدهم في الموضع الدفاعي، تسببت في زيادة حالات الاكتئاب ومصاعب النوم، وفقدان الشهية والشعور بالإنهاك، وضاعفت من نسب الإصابات العضوية، النفسية مثل الانهاك، والطفح الجلدي، وعدم القدرة على الاسترخاء، لأعداد غير قليلة من المدافعين(9).
ب.اتساع ظاهرة الغياب. الغياب ظاهرة سبق وجودها حرب الخليج الثانية أو بالمعنى الأكثر وضوحا كانت قد بدأت خلال الحرب مع إيران، إذ بينت دراسة إحصائية قامت بها لجنة خاصة قبل انتهاء الحرب مع إيران بفترة قصيرة أن عـدد الماكثين في الهروب بلغ سبعون ألفا وثلاث وعشرون هاربا، وهو رقم يمثل فقط 05/64% من العدد الإجمالي للغياب والهروب الذي بلغ (109325) في وقت إعداد الدراسة بينهم ثمان وثمانون ضابطا، (10). اعداد عالية المستوى، مهدت مع الأستمرار بطرق التعامل غير الصحيحة مع الظاهرة إلى مضاعفتها إبان حرب الخليج الثانية، لاسباب عدة من اهمها:
أولا. عدم الإيمان بهدف القتال، الذي وجد العسكر أنفسهم محشورين وسطه، دون سابق إنذار.
 ثانيا. قلة التواصل بين الآمرين ومنتسبيهم، وكذلك بين المعنيين بالتوجيه المعنوي، والضباط والمراتب لعدم مساعدة الأرض الدفاعية على تجميع عدة أشخاص في مكان واحد.
ثالثا. قناعة العسكر ضباطا ومراتبا أن المعركة خاسرة، وإن العدو يتفوق عليهم بعشرات الأضعاف التي لا تعطي فرصة للخروج بسلام، رغم أن العديد منهم كان معتقدا أن المواجهة سوف لن تتم، وإن صدام يناور إلى آخر لحظة. شعور كان موجودا ولحين بدء القصف الجوي، أوجد صدمة زادت شدتها تأثيرا، بسبب الإحباط الذي ولدته تلك التصورات غير الدقيقة.
طول فترة الترقب والانتظار التي أنهكت الجهاز العصبي، وقللت من قدرة العسكري على التحمل، وأضعفت حججه وتبريراته في الصمود.
رابعا. التأثر النفسي بالإعلام العالمي، ودعاية الحلفاء الاستراتيجية، التي وظفت جهودا كبيرة لتأكيد الإحساس بالحياة، إي تنشيط غريزة الحياة، والرغبة في المحافظة على الذات التي لم يجد العديد من العسكر مجالا لتحقيقها، إلا من خلال الهروب من المواجهة.
خامسا. عدم ملائمة الدفاع الذي أعدته القيادة العامة، وأملته الظروف التعبوية على إشباع حاجات العسكر العضوية (الطعام، والنوم، والراحة) والنفسية مثل الشعور بالأمان، التي تضافرت لتزيد من نسبة اليأس الذي ساعد على الهروب.
سادسا. رتابة الحياة في الموضع الدفاعي، التي أوجدت نوعا من الملل عاملا اضعف المعنويات وزاد من نسب الهروب.
سابعا. التأثير السلبي لبعض العوامل العسكرية في إحداث الهروب، وزيادة نسبه مثل: تعرض العديد من المراتب إلى الضرب والإهانة والتجريح المستمر، بطريقة أشعرتهم بالدونية والرغبة بالتخلص من الموقف المهين. وعدم وجود أسس عادلة لتوزيع الواجبات، والإجازات، وحتى الأرزاق. وفساد الذمم واستشراء الوساطات، والرشوة في منح الإجازات، والإخلاء الطبي. والتمييز "النسبي" بين المنتسبين نفعيا، في كل ما يتعلق بحياتهم، وطبيعة خدمتهم في الوحدة. كذلك ضعف كفاءة البعض من الآمرين، وتدني مستويات معنوياتهم الذي انعكس سلبا على وضع المراتب وزاد من رغباتهم بالهروب، كذلك استخدام القسوة، والعقوبة بأبعد مدياتها من قبل الضباط والآمرين دون مبرر أحيانا. ومن ثم عدم تفهم ظروف، ومشاكل الضباط بالرتب الصغرى وضباط الصف والجنود، وعدم القدرة على حلها.
إن ظاهرة الهروب التي بدأت في القوات المسلحة،"الجيش على وجه الخصوص" اخذت بالانتشار، مع تقادم الأيام والاقتراب من يوم القصف، حتى زادت بشكل كبير وغير مسيطر عليه، مع بدء القصف التمهيدي، وتميزت بالإضافة إلى كثرة أعداد الهاربين، شيوع هروب الضباط، وضباط الصف وبنسب أثارت قلق القيادة وحيرتها. الأمر الذي أثر على المتبقين في الموضع الدفاعي، وكذلك على القدرة القتالية العامة.
ج. العمليات النفسية. كانت القيادة العامة، ومنذ الأيام الأولى للاجتياح تعاني مشكلة إقناع العسكر العراقي في أمور مهمة تتعلق بأسبابه، ودوافع عدم الانسحاب، وجدوى مواجهة اثنان وثلاثين دولة بينها أمريكا الأقوى في العالم. وكانت قيادة الحلفاء في المقابل، تمتلك من جانبها حجج مقبولة تتعلق بتحرير الكويت، والدفاع عن السعودية، ومحاربة التجاوز والدكتاتورية. أهداف للحرب النفسية، سمحت للحلفاء التحرك الواسع بحرية كاملة، وبوسائل وأدوات متعددة لعموم الكرة الأرضية من فضائيات، ومحطات إذاعية معروفة مثل (لندن، صوت أمريكا، مونتكارلو) وغيرها العشرات، وصحف عالمية ودور نشر دولية، وتحرك دبلوماسي واسع، حشدت جميعها، للتأثير النفسي على العسكر العراقي. وبالمقابل كانت أهداف الحكومة العراقية مرتبكة وغير واقعية، يتكرر عرضها باسفاف مثير للتوتر والانزعاج. هذا بالإضافة إلى محاصرة الوسائل النفسية العراقية في تلك المرحلة ومحدودية تغطيتها. إذ لا تصل الصحف المحلية إلى المدافعين بشكل منتظم. ولم تستطع دائرة التوجيه السياسي تنظيم أنشطتها في التوعية الفكرية، والمعلوماتية كما كان الحال إبان الحرب مع إيران. ومعدات الحرب النفسية التعبوية، سواء منها الخاصة بالطائرات أو العجلات باتت مقيدة تماما. الأمر الذي تسبب في نهاية المطاف، بقاء دعاية الحلفاء، وحربهم النفسية فاعلة بالنسبة للمدافعين العراقيين، لم يقتصر تأثيرها على الجانب المعنوي وزيادة نسب الغياب، بل والمساهمة غير المباشرة بفعل الانهيار والهدم الذي حصل مع بدايات إحساس العسكر بضعف السلطة الضابطة.
ان دعاية الحلفاء، التي عمقت مشاعر عدم الاقتناع بجدوى الحرب وبطلان أهدافها، نحجت في تعميق هامش المجهول في النفس العراقية بشكل عام، والعسكر العراقي على وجه الخصوص، إذ أنها باتت تركز على مسائل مثيرة لمزيد من القلق والتوتر مثل حجم الدمار القادم، والمستقبل غير المضمون. واحتمالات تقسيم العراق، وإعادته إلى عصر ما قبل الصناعة. وغيرها مفردات في الحرب النفسية الاستراتيجية، اثارت القلق، وعمقت هامش المجهول، الموجود أصلا في تفكير العسكر العراقي، بعدما وجدوا أنفسهم بمواجهة عشرات الأسئلة المبهمة، وهم غير مستعدين لقبول تفسيرات الحكومة التي لا يثقون بها، لطبيعتها غير المنسجمة وأفكارهم المخزونة. حتى اصبح، اي المجهول من أكثر العوامل إثارة لتوجس الخطر، والقلق الشديدين، اللذين أثرتا سلبا على حال العسكر، ومهدتا لفعل الهدم والانهيار. اذ ان التوجس والقلق اذا ما كانا بدرجات عالية، يؤديان باحتمالات كبيرة إلى ما يسمى بالتحفيز الفسلجي، الذي يدفع عددا من الغدد الصماء إلى إفراز الادرنالين، والنورادرينالين لمساعدة الجسم على التعامل في مواجهة الخطر، وبنسب تتصاعد مع تصاعد شدة الخوف والقلق، لتصل إلى درجة مزعجة تعيق التفكير السليم للعسكري في المواقف الصعبة على وجه الخصوص، وتجعل ردود أفعاله غير سوية، وتفقده الفعالية القتالية، رغم خلو جسمه من الإصابات العضوية(11)، وهذا ما حدث لعديد من العسكر العراقي قبل تنفيذ فعل الهجوم البري وحصول الكارثة. حتى امكن وَصفها بأجواء شحن انفعالي، مهدت الى الانهيار، واشاعة الفوضى السلوكية لعموم المدافعين، وانتشار الإشاعات المقلقة... اجواء مربكة ساعد في حصولها النشاط الاعلامي للحلفاء. وضعف الحكومة العراقية، وعدم قدرة أجهزتها على الرد أو حتى على صياغة إشاعات ملائمة. عندها تداخلت إشاعات الخوف الذي زادت شدة تأثيرها بتناقص الأمل، لتنتج وضعا نفسيا، بائسا، خاصة في الأيام التي سبقت الهجوم البري.
ان اكثر مواضيع الاشاعات رواجا وانتشارا بين المنتسبين، في تلك الفترة الزمنية، كانت تلك التي تناولت الهجوم، وبعض اساليبه. اشاعات اضاف لها العقل القلق مسحة خيالية، جعلتها أكثر اخافة وتأثيرا مثل النزول من الجو او القدوم من البحر، واستخدام اسلحة الدمار الشامل، وقتل القادة .... الخ.   
2. القصف الجوي وفعل الهجوم البري
لو جاز لنا الواقع السائد، متابعة حالة المقاتل العراقي في بعض جوانبها "السلبية" لتلك الفترة الزمنية الحرجة من الحرب الصعبة، ولو عدنا الى التقييم العام للحالة المعنوية آنذاك، وعلى وفق التقارير التي كان يرفعها المركز النفسي المتقدم المعني بتقييم ومتابعة*(12) الحالة النفسية، لامكن وصفها أي حالة المقاتلين في مواضعهم الدفاعية، بالآتي:
آ. إن النشاط العام للغالبية، ينقصه الدافع الذاتي، وتفكيرهم العام يفتقر إلى الوضوح بالرؤيا.
ب. ان البعض من معالم النشاط العسكري الخاص بنقل البريد والتموين والتنقل بين المواضع، قد تناقصت بشكل ملحوظ، لتكون شبه معدومة أو غير مرغوب بها مع بدأ القصف الجوي، حتى بات الوجوم يخيم على الوجوه، وبشكل ملحوظ.
ج. اعتقاد الآمرين بكافة المستويات، بعجزهم عن تقديم دعم لجنودهم، الأمر الذي حدد من حركتهم، التي باتت هي الأخرى غير مستحبة من قبل المراتب أنفسهم، لأن كثير منهم يظن أنها حركة يمكن أن تجلب طائرات العدو، وتزيد شدة القصف على رؤوسهم.
د. انها حالة ملل بالمفهوم العلمي للسلوك البشري، ورغبة ملحة لتغيير نمط الحياة ادت إلى الإحساس بالتعب والإجهاد، على الرغم من قلة الحركة، وانعدام المجهود العظلي.
هـ. وانها رتابة في التواجد بمواضع محفورة تحت الأرض، وصعوبة عيش في أجواء صحراوية شديدة البرودة، وقصف شديد، لا يتوقف، وحركة في النهار اصبحت معدومة، عوامل ضاعفت وبشكل ملحوظ مغالاة المقاتلين بتقدير وطأة الزمن، الذي باتت ساعاته أياما ثقيلة، تنذر بالهلاك شبه المحتوم.

           

تأثيرات القصف الجوي
لقد بدء القصف الجوي المعادي فجر يوم 16/1/1991، بعد يوم واحد من المهلة التي اعطتها الامم المتحدة لانسحاب القطعات العراقية، وكان قصفا شديدا شمل الجبهة وجميع مناطق العراق، بمجموع طلعات بلغت في اليوم الثالث والاربعين الذي توقفت فيه الحرب (109.867) بمعدل (2555) غارة يوميا، وبمجموع قنابل القيت بمقدار (60.624) طن. فكان قصفا مريعا، وان قلص من هامش المجهول المثير للتوتر ذو الصلة بالعدو، بعد أن أصبحت مقاصده واضحة بالنسبة إلى المدافعين، الا انه استبدله بصيغ اخرى للمجهول يتعلق بقواتنا المدافعة، وبمعالم توتر آخر، نتجت من:
آ. تقييد قدرة القيادة على المناورة. لقد استهدف القصف من بدايته مقرات القيادة، بدءا من السرية والفوج حتى الفرقة والفيلق، والمقرات الميدانية للقيادة العامة للقوات المسلحة، وكذلك عقد المواصلات، ومفارق الطرق، ومراكز الاتصال، ورغم توجه القيادة العامة لوضع خطط لإدامة الاتصال بين القيادات وتشكيلاتها. والتشكيلات ووحداتها، وهكذا حتى مستوى الجندي في الحافات الأمامية، لكنها في الواقع العملي قد توقفت عند المواضع القريبة من الحافات الأمامية لصعوبة التحرك، وتقلصت بشكل ملحوظ في العمق لنفس السبب، إلا في حدود المخاطرة بنسب عالية أو في الليل على الأغلب، وهذه حالة حيَدَتْ أو غيبت الوجود المادي والنفسي لقيادة منتسبين، لم يدربوا أو حتى لم يتوقعوا مثل هكذا مواقف، ودفعت بهم الى الارتباك منذ الأيام الأولى للقصف، وحَوّلَت هامش المجهول من جهة العدو إلى الجهة المعاكسة "المدافعة" التي بات المقاتل لا يعلم فيها عن آمره أو قائده في أحيان ليست قليلة، ولا يعلم ماهية الإجراء الذي يمكن أن يتخذ في المواقف المقبلة.
ب. هول الصدمة. للقوات المسلحة العراقية خبرة قتال مع إيران، لم يتناساها العسكريون الذين أدارت الحكومة وجهتهم فيها من الحدود الشرقية إلى الجنوبية والجنوبية الغربية في سنتين، ولم يأخذوا فيها فرصة للنسيان، وكانت خبرة لثمان سنوات تسمح في أن يخرج المشاة من مواضعهم للنظر إلى الطائرات الإيرانية، وهي تؤدي مهامها في القصف. وتذكرهم أن تشكيل الطائرات الإيرانية زوجي، أو رباعي في كثير من الأحيان. وأن احتمالات التعرض للإصابة بسبب تلك الطائرات ليست عالية. وإن قوة التدمير لقنابلها من الوزن الوسط بسيطة، وصواريخها ذات توجيه بطرق تقليدية، والمنطقة التي تستهدفها ليست واسعة نسبيا. خبرات وافكار عند مقارنتها بواقع الحرب الخليجية الثانية، حيث الأسراب المتعددة بالمئات لطائرات الحلفاء، بلغت أعداد المقاتلة منها فقط (1543) طائرة، وزعت مهامها توزيعا دقيقا بين مقرات القيادة، ومراكز الاتصال، وقواعد الصواريخ، والدروع، والمدفعية، وأكداس العتاد ونقاط الماء والأرزاق، والآليات حسب تسلسل أهميتها في المعركة، ستكون المقارنة في غير الصالح النفسي للمقاتل العراقي. وعند مقارنة القوة النارية للحرب السابقة مع هذه اللاحقة في التعامل مع مواضع المشاة التي شلت الحركة، إلا من انتظار بات مؤلما، ستكون كذلك في غير الصالح النفسي. هذا واذا ما اضيفت لها مقارنات اخرى، تتعلق بدقة الإصابة، وسعة التدمير للمنطقة المستهدفة، وفاعلية وسائل التشويش، والإعماء الإلكتروني المستخدمة، وآلاف الأطنان من القنابل الثقيلة والصواريخ التي توجه ليزريا، ستكون النتيجة ليست في صالح المجازفة بالخروج من الملاجئ، ولا في صالح المراهنة على احتمالات النجاح ولو بأدنى الدرجات، عندها حدثت الصدمة الانفعالية التي أعادت المقاتل إلى ملجأه محبطا، يتحين فرصة الخلاص، بهروب أو أختباء او استعداد للتسليم الى العدو. مقارنات في خبرات الحرب شملت بالاضافة الى الطيران الذي مهد لكسبها من قبل الحلفاء، المدفعية التي لم تعد تتوقف عن القصف التمهيدي منذ الساعات الأولى ليوم 17/1/1991 حتى الشروع بالهجوم البري في الساعة 400 0 يوم 24 شباط، بعيارات مختلفة، ومسافات متعددة، لا يمكن تقريب تأثيراته أو مقارنتها بمدافع حرب الخليج الأولى. وشملت كذلك الطائرات السمتية التي تجوب سماء المعركة في حركة دائبة لاصطياد الدبابات ومواضع المشاة، ومن ثم الـ (3850) دبابة قتال رئيسية بعتاد لليوارنيوم المنضب، وغيرها أسلحة، ووسائل تأثير لا تقترب من تلك التي استخدمت في حرب الخليج الأولى بأي شكل من الأشكال. فكانت نتيجة المقارنات الفكرية شبه المستمرة، صورٌ عقلية لكارثة متخيلة بطريقة تحتم حصول الانهيار. زيد أعلام العدو وحربه النفسية الاستراتيجية والتعبوية، من الاعتقاد بها، فكونت ضغطا نفسيا على المدافعين كانوا فيه شبه معطلين، إلا بالتفكير عن كيفية الخلاص، وتلك كانت إحدى أهم عوامل الهدم والانهيار.
3. الانسحاب السياسي
لم يكن صدام يريد الانسحاب من الكويت، ولم يفكر بطريقة الانسحاب خيارا أو نتيجةً لتقدير موقف عسكري مسبق في مواجهته مع الحلفاء، لاعتبارات شخصية على الأغلب، ولم يكن القادة العسكريين الميدانيين، يفكرون بطرح خيار الانسحاب، ولم يكن القادة القريبين من موقعه في القيادة العامة، العارفين جديا بالامكانيات المتيسرة والقدرة القتالية، قادرين على اعطاء تفسير منطقي لإصراره على عدم الانسحاب، وسعيه لقبول المعركة الخاسرة بكل المقاييس العسكرية. وعزز اصراره هذا بامر اصدره قبل الهجوم البري بايام، يمنع بموجبه كافة وحدات وتشكلات القوات المسلحة من الانسحاب، وامعانا في اعطاء الانسحاب صورة الفعل المحرم، نص، على عدم الامتثال لأية أوامر تخص الانسحاب من الكويت وعموم المواضع الدفاعية، وإن جاءت منه شخصيا، وعلى لسان حاله مباشرة، بأية وسيلة بينها الاعلام. فوضع بأمره هذا، البقاء في الموضع الدفاعي غاية تفوق أهميتها غايات أخرى، مثل قيادة معركة دفاعية ناجحة أو القتال من أجل العراق، والأهم منهما ارتباط الغاية في عقل المدافعين بانتحار جماعي سيحصل عند مواجهة غير متكافئة، وغير محسوبة مع عدو دولي متفوق في كل المجالات. فزاد من قلق او فكرة الهلاك الجماعي الموجودة في العقول المعزولة، واثار عديد من الأسئلة الخاصة بعدم جدوى القتال، وكثير من الشحنات الانفعالية السلبية، التي زادت او ضاعفت مستويات التوتر الموجودة اصلا.
ان الأمر الصادر بعدم الانسحاب، زاد من الاعباء النفسية المسلطة على القادة الميدانيين، ووضعهم في موقف الاستسلام للامر الواقع، وزيادة الضغط على المنتسبين لان يبقوا في مواضعهم، ودفع قسم منهم الى التوجه للهروب حلا يجنبهم ضغط الآمرين واحتمالات الموت الجماعي. فزادت فعلا نسب الهروب، والتسرب إلى الخلف، بمستويات لم تستطع إجراءات الحزب والاستخبارات العسكرية القسرية من الحد منها، وبحدود باتت فيها ظاهرة أخلت بالقدرة القتالية، لكثير من وحدات المشاة المدافعة على وجه الخصوص. اما الباقين، وهم نسب تقل عن نصف الموجود، قبلوا فكرة الموت في صحراء الكويت، أو نفذوها على أساس الانضباط القسري، الذي تكون في سلوكهم نتيجة حتمية لتصارع الأفكار، ذو الصلة باتجاهات الموت التجنبية المؤلمة، وهي في المواضع الدفاعية لتلك المرحلة، كانت صراعات بين احتمالات الموت إعداما من مفارز الحزب، وأجهزته عند ترك الموضع الدفاعي، وبين احتمالات الموت شهداء في مواضعهم الدفاعية بعيدا عن الذل، والمهانة لهم ولعوائلهم من بعدهم. فكان لشريحة الباقين في مواضعهم، تفضيل للاتجاه الثاني، خاصة بالنسبة الى الضباط، وبالمحصلة كان بقاءا قلقا، متأزما، له الاثر الكبير في احداث حالة الفوضى التي حصلت عندما عاود القائد العام اصدار امر انسحابه الفعلي، انسحابا تحول الى فوضى، وكارثة عسكرية قوضت البنية العسكرية.
أثر الانسحاب على عملية الهدم المستمرة
لا يمكن ان تنسحبوا حتى بأمر مني، وبعده بأيام لا بد وان تنسحبوا بأمر مني، اسحبوا معكم ما تستطيعون سحبه. أجلبوا ما يمكنكم حمله. دمروا ما لا تستطيعون السيطرة عليه....اوامر متناقضة لقائد عام، ابقى جميع المفاتيح في يده حتى آخر لحضة سدت فيها كل الابواب، الا باب الفوضى، التي مهدت لاخرى بعدها وأسهمت في التعجيل بعملية الهدم. هذا ولاعطاء تصور عن مدى اسهامات فوضى الانسحاب، في التعجيل، لابد من مناقشتها تحت العناوين الآتية:
آ. كارثة الانسحاب. ان توجيه أمر جماعي باستحالة الانسحاب، من الرجل الاعلى اي القائد العام،  لأي سبب كان وتحت أي ظرف يكون، كما مبين في أعلاه، ضاعف من درجات القلق في النفوس، وضاعف معه مستويات البغض الموجه إلى السلطة في داخلها. والحلفاء من جانبهم يشددون الضغط على أولئك المقاتلين المدافعين، فيجعلون القلق في أعلى درجاته، ويحولون البغض مقتا في أعلى مستوياته، وفي ظل هذا الوضع أصبح جل الهم بالنسبة الى المقاتلين، في تلك اللحظات الحرجة، كيفية التخلص من القلق القاتل، وجاءت الفرصة بالساعة 1800 يوم 25/2/1991 عندما أصدر القائد العام أوامره، بالانسحاب الفوري دون الرجوع الى القادة العسكرين الميدانيين، ودون الركون الى تقادير الموقف التقليدية.... انسحاب وجد فيه جميع المدافعين القلقين أنفسهم، مسرعين لترك مواضعهم بقوة دفع غير طبيعية، تضافرت مع جهد الحلفاء العسكري الضاغط، لتحوله إلى كارثة هدم عسكرية، لم تخبرها القوات المسلحة العراقية من قبل، كما لم تعرفها الجيوش القريبة من العراق في سابق عهدها. اذ أربك أمر الانسحاب، وطريقة تبليغه السريعة، وغير الاعتيادية الآمرين والقادة الذين ما زالوا يعملون بضوء الأوامر السابقة التي تحرم الانسحاب. ووضعهم في موضع الحيرة، خاصة وان الأمر، قد وصل إلى بعضهم برسالة شفوية، نقلها معتمدين مرتبكين، كانت لا تتعدى عبارة باللهجة العراقية الدارجة "خلصوا أنفسكم"، وبُلغ إلى بعضهم الآخر بالتلفون الميداني بعبارة انسحبوا فورا، وزاد الطين بلة، نص الأمر، على وجوب أن تُكمل كافة القطعات انسحابها إلى داخل حدود العراق خلال يوم واحد، وأن تسحب معها ما تستطيع سحبه من معدات، وبعكسه تدمر الباقي في أماكنه الموجودة قبل الشروع بالإنسحاب. فكان أمر انسحاب قد صيغ، صياغة مستعجلة مرتبكة، في ظروف مواجهة غير طبيعية لا تثير التوتر فقط، بل ومهدت إلى الفوضى والاضطراب، ووضعت المقاتلين عموما والقادة والآمرين خصوصا في حالة من التردد، وعدم التصديق، وفقدان التركيز، لم يفيقوا منها إلا ومنتسبيهم قد خرجوا من مواضعهم الدفاعية خارج سيطرتهم الفعلية. وكأن بعضهم قد سمع بالامر او تحسسه من المحيطين بالآمر، وبذا لم يكن أمامهم في تلك الدقائق الحرجة بدٌ غير السير خلف منتسبيهم باتجاه الحدود، مشيا لكثير منهم على الأقدام في حالات، وصل أصحابها الى مدن الجنوب العراقي، وأخرى الى بغداد.  لقد انقطع الاتصال بين المقرات العليا "القيادة العامة" والمقرات الميدانية" الفيالق والفرق" وبين بعضها البعض، وارتبكت منظومة تعبير الأوامر والمعلومات، وضعفت وسائل الضبط والسيطرة، فاصبحت بعض الوحدات خارج التبليغ الرسمي بالانسحاب، وبقيت في مواضعها منسية، أو تُركت لعدم تيسر الوقت والجهد لابلاغها، حتى أَسَرها الحلفاء على الفور، عند تحقيق التماس معها، وأخرى تلمسته من خلال ارتال الجنود والضباط المنسحبين، وقد تخللوا في انسحابهم مواضعها المرتبكة نفسيا أو مــروا قريبا منها، فحشرت نفسها في طريق الانسحاب باسلوب زاد من ارتباكهم. وضع مأساوي، وصفه العقيد صباح كاظم أحد آمري كتائب المدفعية الساندة للفرقة الخامسة، وهو في سجن رقم واحد في شهر كانون الاول عام 1991 بالقول " لقد شاهدت من موضعي في الكتيبة، آلاف العسكريين ينسحبون باتجاه الحدود، بطريقة غير نظامية، استوقفت بعضهم، لاسألهم عن طبيعة هذا المشي، فلم أحصل على إجابة واضحة سوى كلمة انسحاب تتردد على شفاه الجنود المنسحبين، فاعتقدت أن ذلك هروب جماعي، وعلى اساسه أصدرت أوامري لمنتسبي كتيبتي بعدم التحرك من المواضع، لكنني وبعد دقائق من أمري الصادر، بدأ جنودي يخرجون من مواضعهم، ويدخلون صفوف المنسحبين، تاركين مدافعهم، غير مبالين لمناداة بعض ضباطهم، وعندما هممت التدخل لمعالجة الموقف بطريقة الآمر المنضبط، لم اجد من يسمعني سوى مراسلي الذي كتب علي تقريرا حزبيا بعد انتهاء المعركة، يتهمني بالاستهزاء من أمر الانسحاب".
لقد اقتصر الانسحاب من الكويت"آليا وراجلا" على طريقين رئيسين  كان الأول طريق الكويت ـــ المطلاع ــ صفوان ــ البصرة. والثاني طريق الكويت ــ أم قصر ــ الفاو ــ البصرة. وطريق ثالث للقطعات المدافعة على الحدود العراقية السعودية، بصية ــ ناصرية. طرق محددة، جعلت المنسحبين هدفا سهلا لطائرات الحلفاء السمتية، التي دمرت كثير من الآليات المنسحبة من المواضع الدفاعية بطريقة نظامية، وقتلت المئات، في مشهد مؤلم، وصف طريق الانسحاب على اثره بطريق الموت. وهي طرق مزدحمة بالمنسحبين، المذهولين، باتجاه مدن الزبير والبصرة التي اكتظت بالعسكريين المنفعلين، من جميع الوحدات والصنوف. يجمعهم اليأس، والجوع، والرغبة في الوصول الى البيت، والاستهزاء بالقيادة وقرارها في الانسحاب، فتشكل على اثرها، وضعا معنويا متدنيا أو ما يمكن تسميته بالانهيار النفسي.
ب. فقدان السيطرة. كانت معالم القيادة والسيطرة قد تصدعت في مراحل ما قبل صفحة الانسحاب لأسباب تم ذكرها في أعلاه، وانتهت أو تعطلت تماما خلال مرحلة الانسحاب، لرغبة غالبية المنتسبين التخلص من ضغوط الحرب والالتزام، التي بقوا تحت وطأتها طيلة فترة الأشهر الخمسة التي سبقته، أي التحرر منها، ولأسباب فنية ساعدتهم على سلوك الفوضى في أدق مرحلة من مراحل الحرب منها:
أولا. عدم القدرة على تأمين الاتصال لا سلكيا مع بداية ترك الموضع الدفاعي، لتعطل بعض الأجهزة اللاسلكية، ولترك أخرى في المواضع الدفاعية، ولفاعلية التشويش والحرب الإلكترونية للحلفاء، ولخشية الآمرين من استخدام ما تبقى بعد أن أصبحت هدفا سهلا لطائرات الحلفاء.
ثانيا. التغير السريع بالموقف القتالي نحو الأسوأ، أربك القيادة العامة للقوات المسلحة، التي أخذت على عاتقها تحديد أماكن تجمع القيادات المنسحبة لحسابات بعضها أمنية أكثر منها تعبوية، وأربك القيادات الميدانية، التي وجدت في بعض الأحيان أن قطعات الحلفاء أو وحدات أخرى من فيالق أخرى، قد سبقتهم إلى تلك المواقع المؤشرة أو أنهم مرغمون لتركها، لاعتبارات الأمن الداخلي التي بدأت مؤشراته غير مشجعة بالنسبة للقيادة المذكورة.

             

وبهذا الصدد ذكر قائد الفرقة 26 التي انسحبت من موضعها الدفاعي العميد الركن فؤاد حسين علي، أنه وعند انسحابه، التقى قائد الفيلق السابع الفريق الركن أحمد حماش، الذي هو من نظام معركته، فسأله عن الوجهة التي يمكن ان يسحب قيادة الفرقة اليها، فرد عليه، أختار أنت المكان وانسحب اليه، وأضاف ان بعض ضباط الركن في مقر الفرقة المتبقين معه أشاروا اليه أن يكون انسحابهم الى بغداد، لكنه فضل الذهاب الى الديوانية، وبعد انتهاء فوضى الانسحاب، والقضاء على الانتفاضة، تمت محاسبة القادة الذين أنسحبوا الى بغداد، على اساس الشك بنواياهم، وأعدم بعضهم مثل اللواء الركن عصمت صابر واللواء الركن بارق الحاج حنطة، والعميد الركن كامل ابراهيم، وآخرين.
ثالثا. قطع الجسور، واقتصار العبور على وسائل محدودة، كَدَسَ عديد من الجنود في أماكن معينة مثل ضفتي شط العرب، التي استغرق العبور من جانبها في العشار الى التنومة يومي 1 و2/3/1991 ما يقارب الست ساعات للعجلة الواحدة، وتكدس الراجلة على الضفة حتى بادر بعضهم، باعطاء بندقيته ثمنا لعبور بواسطة "الشخاتير"، وهذا وضع مزرٍ يعبر عن حالة انهيار، تسبب في ازدياد عدوانية المنتسبين على دولتهم، وحرك في داخلهم توجهات التمرد ضد قيادتهم ومن ثم حكومتهم، التي مثلت سبب المأساة.
رابعا. تدمير الآليات العسكرية، وعدم وجود سيارات وشاحنات، وتوقف القطارات لنقل آلاف الجنود والضباط إلى مدنهم ومقرات وحداتهم الدائمة، جعلهم يتنقلون مشيا أو يتكدسون بالمئات في سيارة حمل لمسافات بعيدة، في أجواء القصف، وكثرة الخسائر على الطرق، وضعف المعنويات، أدى إلى انهيار أسس الضبط، وعدم الالتزام بالأوامر الصادرة من قبل بعض القيادات، والوحدات التي استطاعت المحافظة على كيانها رغم قسوة تلك الظروف، عندها عمت حالة الانهيار.
ج. وطأة الخسارة. تكبدت القوات المسلحة إصابات مختلفة في الحرب مع إيران قدرّتها بعض المصادر، بما يزيد على المليون إصابة(13)، تعاملت معها بطريقة استطاعت استيعابها، والسيطرة عليها لامتداد وقوعها على فترات مختلفة، ولمسافة زمنية بلغت الثماني سنوات، لكنها وفي حرب الخليج الثانية، قصيرة المدى،  كانت قد شكلت كارثة حقيقية على المجتمع والدولة وقواتها المسلحة، لأسباب بينها:
أولا. عدم استيعاب نقاط جمع الخسائر لأعداد الشهداء، التي تزايدت بشدة، مع قلة الثلاجات المخصصة لحفظ جثثهم، وانقطاع التيار الكهربائي، ما جعل البعض يترك جثة الشهيد التي اخلاها خارج الثلاجات وفي الممرات، ومن بعدها خارج النقاط والمراكز بطريقة تثير البؤس والاشمئزاز. خاصة مركز جمع الشهداء الكائن على طريق البصرة  الزبير، الذي عفنت فيه الجثث.
ثانيا. نقص عجلات الاسعاف أصلا، وتدمير بعضها، وعطل البعض اثناء التنقل على الطرق العامة، وعدم تيسر الوقود لبعضها الآخر، فتحددت إمكانية إخلاء الجرحى والشهداء، وبقي الكثير منهم على الطرقات ينزفون حتى الموت. كذلك قلة وسائط النقل التي يمكن استئجارها لاخلاء الشهداء بسبب نقص الوقود، وتعقيدات التنقل على الطرق، التي باتت غير آمنة، وكذلك شحة التوابيت المخصصة لهم، مما تسبب في تكديس جثث الشهداء، وزيادة تعقيدات الإخلاء.
ثالثا. وقوع الخسائر في أيام قليلة، وفي ظروف تفوقْ فيها الحلفاء بشكل مطلق، حال دون إمكانية تنظيم الإخلاء، بالاستعانة بالجهد المدني. كما ان عددها الكبير كان خارج قدرة المفارز الطبية في الوحدات على تنفيذ اخلائها، وكذلك وحدات الميدان الطبية، والمستشفيات الميدانية على استيعاب الإصابات وإخلائها، مما حتم ترك البعض من المصابين والشهداء قسرا في ساحة المعركة، وعلى طرق الانسحاب.
رابعا. انتشار وقع الخسائر وكثرتها على طرق ممتدة طويلا ومزدحمة، وغير مسيطر عليها من وحدات الانضباط العسكري، وفقدان الاتصال بالمقرات، وتعب الزملاء وعدم قدرتهم على تقديم العون الأخلاقي، تسبب في بقاء الجرحى ينزفون في أماكن إصاباتهم حتى الاستشهاد، وتسبب في بقاء الجثث عرضة للتعفن، ونهش الحيوانات في صورة يصعب استيعابها، وإن كان الظرف قاسيا، مسألة نقل طبيعتها المأساوية، رجل مسن راجع المركز النفسي المتقدم مساء يوم 27 شباط 1991، طالبا التدخل لدفن أو إخلاء شهداء قصفت طائرات الحلفاء عجلتهم على طريق التنومة، وبقيت جثثهم داخلها من اليوم الذي سبقه، حتى باتت عرضة لنهش الكلاب السائبة دون إمكانية أهل القرية لتقديم حل، بسبب خشيتهم من التعرض إلى المسائلة في حالة دفنهم، او من انقطاع وصلهم عن ذويهم، ووحداتهم لعدم التعرف على هوياتهم، وقد نقلت تفاصيل هذه الواقعة وأخرى غيرها إلى القيادة العامة في نفس اليوم، لكنها لم تستطع تقديم حلا آنيا وهي في وضعها المضطرب، وحدود حركتها المقيدة، مما دفع الأهالي بعد الاقتناع بعجز القوات العسكرية من تقديم حل، إلى دفنهم ووضع علامات على قبورهم أملا في أن تتذكرهم، بعد تجاوز محنتها.
إن وضع الشهداء الذي باتت جثثهم متناثرة على الطرق، وبين أروقة المراكز المعنية بالإخلاء والأرصفة المحاذية لأسيجتها الخارجية، ورائحة الموت المنبعثة منها، ودماء الجرحى التي تسيل على امتداد طريق الانسحاب، كونت في ذاكرة العسكر العراقي أفكارا، أبعدتهم كثيرا عن الالتزام بعسكريتهم وبأهداف قادتهم، وشعارات الحزب الحاكم لدولتهم، واستثارت في داخلهم سلوك التمرد والفوضى وعدم الالتزام.
د. الشعور بالخذلان. جنود يسيرون فرادا، وجماعات على الطرق، وبين شوارع البصرة، لم يأخذوا قسطا من الراحة، ولم يتوقفوا عن المسير. ضباط تعطلت سياراتهم، تركهم جنودهم، وتنصلت عنهم حماياتهم الخاصة وسط الطريق، وبين الاحياء السكنية، فلم يجدوا أمامهم سوى التزاحم مع جنود من غير وحداتهم خجلا من طبيعة المسير، وزملاء لهم تورمت أرجلهم من طول المسافة سيرا دون توقف، فخلعوا أحذيتهم التي ضاقت عل اقدامهم، وعاودوا المسير. جموع غاضبة، ملأت الارصفة، شغلت هياكل البنايات المتروكة. يتكلم اصحابها بصوت مسموع، عن خذلان قيادتهم، وتقصير آمريهم، ولعنة ضم الكويت لعراقهم، فلم يجدوا من يجيب عليهم أو يعتقلهم كما كان جاريا قبل انسحابهم، ففكروا بوسيلة أجدى لمقارعة العدو والحكومة، فلم يجدوا سوى المواصلة الدائبة للمسير. آخرون وقفوا أمام مطاعم، يتصيد أصحابها الجياع، لم تكن في جيوبهم نقودا تكفي لوجبة طعام بسيط. باعوا بنادقهم بالسعر السائد لوجبة غذاء واحدة، تعينهم على مواصلة المسير. زملاء لهم وقفوا أمام التماثيل المرصوفة على حافة شط العرب، لضباط اسشهدوا في الحرب مع إيران، يؤشرون بأياديهم الممدودة باتجاهها، يفكرون بامكانية ان تقيم الحكومة، تماثيل لزملاء قتلوا في هذه الحرب، باياد ممدودة هذه المرة صوب السعودية والكويت، وربما تركيا في المستقبل، فلم يحصلوا على إجابة مقنعة سوى الرغبة في المسير. ومثلهم وجدوا في زمن اللحظة التي يعيشونها وقع ثقيل، ارادوا التخلص من وطأته، قصدوا وسائل العبور العسكرية الميسورة الى الضفة الثانية لشط العرب، ادركوا انها مخصصة فقط للقادة وضباط الحرس الجمهوري، فقرروا مساومة أصحاب القوارب الصغيرة على أسلحتهم ثمنا يدفعونه لقاء العبور، أملا في عبور الزمن ومعاودة المسير. آلاف غيرهم أعياهم الظرف الصعب، وأوهن حالهم التعب والجوع والعطش، والانتظار، فتفرقوا بين البيوت والجوامع والكنائس، افترشوا الارصفة الموحلة، يأسوا، فقرروا ترك حالهم للقدر والتوقف عن المسير. كل ذلك جري على الارض قريبا من المقر المتقدم للقيادة العامة، وأعضائها المتواجدين هم ايضا محبطين، لم يفعلوا شيئا أو بالأحرى لم يستطيعوا فعل أي شيئ في تلك الظروف الصعبة. وان تنبه بعضهم الى فعل شيئ، يجد ان من المستحيل فعله. انها حالة مزرية تماما، كنت شاهدا على غالبية تفاصيلها، وفي أحد مراتها ذهبت ومدير التوجيه المعنوي اللواء الركن منذر عبد الرحمن ، المشرف على المركز النفسي المتقدم الى مقر القيادة العامة المتقدم في بيت بمنطقة المعقل في البصرة، حاملين آخر تقييم للحالة المعنوية والنفسية للفيالق والفرق المنسحبة، تمت مناقشته مع الفريق الركن سعدي الجبوري وزير الدفاع، والفريق الركن حسين رشيد رئيس أركان الجيش،

       

والفريق الركن سلطان هاشم معاون رئيس الاركان للعمليات، وخلاله تم التنويه إلى وجود مؤشرات نفسية لحدوث اضطرابات في الشارع البصري، بسبب ازدياد مشاعر العدوان في نفوس العسكريين اللذين لم يستطيعوا تصريفها باتجاه العدو، وبسبب سوء أوضاعهم البدنية والنفسية، وهم مستمرون في المشي إلى بغداد والمحافظات الاخرى.  وفي حينه رد رئيس الأركان، بانفعال شديد، متجاوز طبيعته المعروفة بالهدوء والاتزان، قائلا "إن ما تقولونه غير عملي، وإن كان كذلك، فلم يعد في أيدينا شيء نعمله، وكان الأجدر بكم إعلامنا بالذي يمكن عمله، ونحن في مثل هذه الظروف الصعبة". وعندما تم اخباره ان الحل هو في تسهيل وصول المنسحبين الى ذويهم لتصريف مشاعر العدوان، رد "ان هذا غير ممكن أيضا، لان الجيش لم يعد يملك وسيلة نقل واحدة، ولم يعد جهد الدولة الخاص بالنقل موجود". وبالفعل في اليوم الثاني وبحدود الساعة الثامنة صباحا أندلعت الانتفاضة، بهجوم على مركز شرطة الحيانية.
مؤشرات الانهيار
مشاعر خذلان، في وضع بائس وظرف صعب، وتاريخ طويل من الكبت الانفعالي، واحساس مفاجئ بضعف الدولة، تناثرت بين العسكر وجمهور البصرة،  منطقة التحشد الرئيسية لحرب الخليج الثانية، وساحة التجمع الرئيسية للمنسحبين، ونقطة الانطلاق الاساسية إلى بغداد العاصمة، وباقي المحافظات. مشهد بائس، لوضع نفسي بائس، مهد لحالة انهيار تمثلت بعض وقائعه على الارض بالآتي:
آ. فقدان السيطرة. لقد اختلط حابلها بالنابل، كما يقول المثل. ابتعد الجندي عن آمره، وحار الضابط في طريقه. لا يعرفان سوية اين هي وحدتهم، وباقي الزملاء. نجا الآمر من مقتل في القصف، او من ضرب على الطريق، توقفت سيارته في المنتصف، لنفاذ الوقود، تركه السائق دون استئذان بالانصراف، فاكمل المشوار مشيا على الاقدام، وصل البصرة في حيرة من امره، يتلفت يمينا وشمالا فلم يجد أحد من وحدته، فتاه في حيرته وفقد السيطرة على التفكير، مشهد تكرر. القائد الذي تعود الجلوس على طاولة تجتمع حولها هيئة ركن، يُصرف عن طريقها الاوامر والتعليمات، ويتلقى من خلالها المردود، قد تبخرت. لا احد يجيب على جهازه اللاسلكي، فالاجهزة تركها اصحابها المخابرون، بعد امتار من مواضعهم، عندما اصبحت ثقيلة على اجساد ارهقها المشي الطويل، فتاهوا مع الجموع. ومن كان محضوضا واحتفظ بقليل من اوعية البنزين"الجليكانات" لسيارته الخاصة، ونجا من سمتيات العدو اثناء السير على طريق الموت، ودخل البصرة سالما بهيئته وسائقه ومرافقه، وتخلص من أفواج الجنود اللذين يستهدفون سيارته سعيا لاغتصابها وسيلة انفاذ توصلهم للاهل. فقد الاتصال هو ايضا بالاعلى، وتاه عن مقر فرقته او فيلقه، فسلك الطريق الى بغداد، يستمد منها جرعة عون للبقاء على قيد الحياة، مشهد كذلك تكرر. الانضباط العسكري، غاب عن الشارع فجأة، ولم يعد احد يحمل شارته الحمراء، ومنظومة الاستخبارات الجنوبية اقفلت ابوابها، وضاعفت حراساها على اسيجتها من الداخل، لا تسمح الا لمنتسبيها بالدخول، ومن كان بعيدا عن مقرها من المنتسبين، عجز عن العودة اليها، فرمى هويته الخاصة بين الازبال المكدسة، وسار مع الجمع، يفتش عن صديق قديم عسى ان يأوي اليه ليلة يفكر فيها، بكيفية الوصول الى الاهل. وفي سيره مع الجمع هتف مع اهل الهتاف بالضد من صدام، معتقدا انها وسيلة تجنبه عيون الساعين الى ذبح اهل الاستخبارات، مشهد هو الآخر تكرر.      
لقد فقدت السيطرة تماما، الا من قليل جدا من الوحدات والقيادات العسكرية، والحرس الجمهوري الذي حافظ على تماسكه، لعدم زجه بمعركة الهجوم المقابل، كما كان مخطط له، ولان تجهيزه وتدريبه كانا جيدين بالمقارنة مع باقي وحدات الجيش، ثم انه لم يتعرض الى اضطرابات الموضع الدفاعي، وربما لإبقائه فاعلا للتعامل مع الانتفاضة وظروف العراق ما بعد المعركة كما يعتقد البعض، بالتأسيس على حقيقة وصول قوات الحلفاء الى حافات الهور من جهة الناصرية، وكذلك السماوة في محور آخر، وقيامها بقطع غالبية الجسور، والمعابر الموجودة على طريق البصرة - العمارة، وتدمير طائراتها، جميع العجلات العسكرية التي تتنقل عليه وباقي الطرق القريبة، ومحاصرتها غالبية وحدات الحرس الجمهوري في المنطقة. وعدم تدخلها بشكل مثير للاستغراب قبيل حدوث الانتفاضة، لتنقل ارتال من قواته الآلية والمدرعة على طريق واحد سالك في الهور، اوصلتها إلى بغداد وضواحيها في وقت قياسي دون اية خسائر. حقيقة شهد وقعها عسكر ذلك الزمان، أثارَت كثيرا من علامات الاستفهام حول النوايا، تعززت بسماح الحلفاء للقيادة العراقية، باستخدام الطائرات السمتية بحجة التنقل، وهي التي تعي جيدا طبيعة تسليحها، وكذلك باستخدام الصواريخ التي لا تزيد مدياتها عن (150) كم. حقيقة اوجدت أخرى عن فقدان سيطرة شبه تام، فكك وحدة البنية العسكرية، وزرع عوامل هدم في داخلها، ابقتها واهنة الى يوم انهيارها بسهولة في 9/4/2012.
ب. كسر الحاجز النفسي للخوف. الخوف من السلطة عند المدنيين والعسكريين العراقيين رافقهم من ايام العثمانيين، واستمر معهم خاصية تضاعفت شدتها بعد 1979 بدرجة اثرت سلبا على الوعي والادراك وعلى الاستجابات والسلوك. وجاءت فوضى الانفلات المذكورة، نهاية شباط وبداية آذار 1991، فوجد الخائفون وضع مفاجئ، فيه مصدر الخوف "الرئيس" قد غاب عن الساحة، وحصر في زاوية لا يقوى منها على الدفاع عن نظامه المخيف. وفيه تلاشت ادوات الاخافة الممثلة باجهزة الحزب والأمن والاستخبارات، وحشر منتسبيها في مقراتهم لا يستطيعون الظهور علنا. وهذه مع عوامل فقدان السيطرة، وكم الحقد والبغض الموجود ضد الرئيس وحزبه الحاكم في نفوس العسكريين، دفعت بعض "الجنود على وجه الخصوص" وبشكل فردي إلى التجاوز العلني على رموز قوته والحكومة، مثلما فعل سائق الدبابة الذي وجه مدفع دبابته على جدارية تحمل صورة صدام في ساحة سعد ليهدمها بقدر الهدم النفسي الذي تعرض له خلال أشهر الحرب مع الحلفاء، ومثلما فعل جنود آخرون في المدن التي دخلوها في بعض الرموز والصور المبثوثة على الطرق والشوارع، وتندرهم على السلطة وهم في اشد حالات التوتر والاحباط. وهي عوامل دفعت الشارع إلى التعاطف معهم، والتوحد مع معاناتهم فانطلقت أولى علامات التمرد على سلطة الخوف أو بالمعنى النفسي كسر حاجز الخوف، من ساحة سعد، من حادثة ذلك الجندي، ودبابته يوم 1/3/1991، منتقلة الى الشارع البصري، مارة بالحيانية، التي حملت نسائها العصي، وهجمت مع الرجال على مراكز الحزب والشرطة. حدث، سرعان ما تلقفه الشباب، والتف حول رموزه قليل من العسكريين "بشكل فردي"، وكذلك رجال الأهوار وأبناء العشائر، فسجلوا أضخم تمرد "انتفاض" في تاريخ العراق، ضد أعتى حاكم امتد، سريعا ليشمل أربعة عشر محافظة، سقطت فيها سلطة الخوف بيوم وليلة.
ج. تغيير منافذ العدوان. كان العسكريون مشحونون بانفعالات العدوان ضد الحلفاء والأمريكان، طيلة الفترة التي سبقت بدء القصف الجوي والهجوم البري، وأهداف إخراجها كانت موجهة ضدهم ايضا، لكنها وعندما بدأت المنازلة الفعلية، تبين استحالة توجيهها بشكل فعال ضد أولئك الحلفاء، وفي طريق العودة وظروف الانكسار وغياب أدوات السلطة القوية، تحولت اتجاهات العدوان في النفس العراقية من الحلفاء والأمريكان، كرموز لتصريفه نفسيا، إلى الحاكم كمسبب لذاك العدوان، وبدأت خطوات التصريف بهذا الاتجاه نقد لخططه العسكرية. تجاوز على أوامره الصادرة. استهزاء بمواقفه السياسية. تطورت لتكون سب علني وشتم بأعلى الأصوات، لتزداد شدتها أفعال ضد رموز الحكومة، ومن بعدها التمرد شعبيا، بطريقة وان لم تشترك في أحداثه القوات المسلحة كوحدات وقيادات "عدا قليل من الضباط بكافة الرتب، وضباط صف، وجنود بصفتهم الشخصية"، فان القليل المتبقي متماسكا من وحداتها وتشكيلاتها مع بدايات حدوثه اي التمرد "الانتفاض"، وقف مترددا، متفرجا على أحداثه وتطوراته، حتى استعاد صدام عافيته، فتغيرت الرؤيا تماما، وعاود الغالبية هتافهم من جديد.
د. اهانة السلاح الوطني. إن من علامات الانهيار والتجاوز على الأعراف والمعايير العسكرية، عدم احترام العسكريين لأسلحتهم ومعداتهم او اهانتها عمدا، إذ وبعد أن استلم المنتسبون الإذن بتدميرها عند عدم القدرة على سحبها، تكونت لديهم مبررات للتخلص منها، تضاعفت شدتها في طريق الانسحاب، عندما أصبحت عبئا على كاهلهم، تعوق أحيانا الانسحاب، زاد الحلفاء وتائرها عندما بدأ طياروهم يتقربون نحو البعض منها، ليعطوا إلى القائمين عليها أو الذين يركبونها إشارات تركها، ليحوموا حولها، ثم يقوموا بتدميرها، حتى سرت شائعات تضخمت كثيرا في عقول المنسحبين، قوامها أن الأمريكان يستهدفون فقط تلك الأسلحة والمعدات وحتى الآليات. فزادت عندها حالات ترك الاسلحة والمعدات سليمة على الطرقات. وزادت اتجاهات تعطيلها أو حرقها تفاديا لاحتمالات الاتهام بتعمد تركها، في حال  استعاد الجيش عافيته. اسلوب تعامل مهين، امتد من مجال الأسلحة والمعدات الثقيلة إلى الأسلحة الشخصية التي بيع آلاف القطع منها بأثمان رمزية. فكانت ظاهرة شكلت مع غيرها ماهية التردي والهدم.
هـ. استمرار النزف. وصل منتسبو أربعة فيالق، وقيادة قوات الخليج، التي كانت مكلفة بالدفاع عن الكويت وحدود العراق الجنوبية أو غالبيتهم إلى بيوتهم مشيا على الأقدام. قطع بعضهم خلالها مسافة من مدينة الكويت حتى بغداد. وتفرق الضباط إلى بيوتهم، وكذلك بعض القادة والآمرين. وبدأت أحداث التمرد او الانتفاضة تنتشر سريعا من مكان لآخر متجهة نحو بغداد. وتحرك الأكراد والتركمان في شمال العراق، ليصيبوا الفيلقين الثاني والخامس بنفس الحال، فسقطت محافظات الشمال أسوة بجنوب الوسط والجنوب. وكان البعض من العسكر الواصلين الى ثكناتهم او بيوتهم، مشغولون بتضميد الجراح التي استمر نزيفها دما حتى وصولهم. واستمر نزيفها مشاعر بؤس وشقاء، وشعور بالذل والمهانة الى ما بعد الوصول. عندها انشغلوا برد الأنفاس وتضميد ما تبقى من الجراح، والتخفيف من المعاناة. فخلد غالبيتهم إلى الراحة في سبات عميق، تبلدت خلاله المشاعر الوطنية، وتعطلت خلاله الأحاسيس بثقل الهزيمة، وقُيدتْ المدارك، إلا ما يتعلق منها بالالتصاق في البيت الذي عوضهم عن وطن تهدمت اركانه في أيام معدودات. فكانت نتائج كل هذا، حياد المؤسسة العسكرية "عدا قوات الحرس الجمهوري والاجهزة الامنية" بين شَعبها، والحكومة في مراحل الهيجان الشعبي الأولى، سرعان ما تبدد هذا الحياد بعد أن تبددت تلك المشاعر، وضُمدت تلك الجراح، وعاودت أنياب السلطة ظهورها، ومعالم القوة استعراضها، فتغير الحياد إلى انحياز واضح المعالم، وتغيرت معاني الهزيمة أمام الحلفاء إلى نصر على الأهل البؤساء. وتجمع العسكريون من بيوتهم، وأعيد تسليحهم من مخازن لا ينضب خزينها، ليكون بعضهم أدوات قمع قاسية. وبفعلتها هذه فوتت القوات المسلحة فرصة للتغيير تمحو عنها وطأة الشعور بالخسارة في حرب لم يكن لمنتسبيها دور في حصولها واستمرارها إلا الموت دفاعا عن الظلم. وهنا تجدر الاشارة الى أن موقف الحياد أولا ثم الانحياز الى الحاكم لاحقا الذي سلكته القوات المسلحة بعد أنتهاء حرب الخليج الثانية، لم يكن جديدا في مسيرتها التاريخية الطويلة، منذ تشكيلها بالصيغ التي ذكرت تفاصيلها سابقا، لان الحكومات التي توالت على قيادتها منذ الملكية الدستورية وحتى انتهاء حكم صدام، لم تتوانى في استخدمها خارج مهامها المحددة، فأسست بعملها هذا سابقة سحبتها بالتدريج الى سلوك الانحياز، واستخدام القوة المفرطة في التعامل، خاصة من قبل الجمهوريات التي ادعت الثورية كنتيجة حتمية للوهم الذي اصاب القائمين عليها "الثوريون" بأحقيتهم في الدفاع عن مبادئهم، وأهداف ثورتهم في إطار الشرعية الثورية، فابقتها أداة للحكومات الجمهورية، أكثر طواعية من دولة الملكية، لأن العسكر قادتها وضباطها الكبار أصبحوا حكام البلد وقادته الشرعيين، فزرعوا من يومها بذرة لاستخدامها في تخريب بنيتها من داخلها، بطريق تغذية شبه مستمرة لفكر سياسي غير موات. وتوجه قومي منحاز. وميل طائفي هو الآخر منحاز، الى درجة دفع البعض من القادة الى تنفيذ ضرب المراقد الدينية المقدسة بقذائف الدبابات، وقصف مدن العراق بالصواريخ، وسحق المدنيين في الشمال، وكذلك في الوسط والجنوب دون التفكير بعراقيتهم.
4. الحرب حتمية هدم مقنن  
 إن الاستعراض المذكور لوضع القوات المسلحة منذ البداية، وحتى نكبة انهيارها في حرب الخليج الثانية، وتقييم بعض توجهاتها ومستويات أدائها، والظواهر التي انتشرت بين منتسبيها، لا تعني أنها ظواهر ومعالم انهيار مطلقة، قابلة للتعميم على كافة المنتسبين ولجميع الوحدات والقيادات، لأن الملاحظ ورغم كل السلب الذي حصل في الحرب على سبيل المثال، كان هناك آمرين استطاعوا سحب وحداتهم والسيطرة عليها في ظروف قاسية، وسجلوا مثالا للمهنية العسكرية والانضباط العالي لا يمكن نسيانه، وهناك ضباط قادة وآمرين من غير طائفة الشيعة، وضباط عديدين راوغوا كثيرا وعطلوا وحداتهم في الطريق إلى تدمير مدن الجنوب وسحق المنتفضين، فاستحقوا الإشادة بعسكريتهم الوطنية، كما سجلت حوادث لطيارين أسقطوا حمولة طائراتهم من الكيماوي خارج أهدافهم المحددة، بعيدا عن سكان المدن الكردية، فكانوا عراقيين بالمعنى الوطني للعراقية، ولوحظ أيضا وجود العكس من هذا، فقد حصل في مواقف كان الممثلين فيها ضباطا من أبناء الجنوب، غالوا في استخدامهم لمبدأ التقية، وأوقعوا ضربا في أبناء جلدتهم أكثر مما فعله الآخرون. وهكذا عديد من الأمثلة التي تدفع إلى التأكيد على أن أسلوب التحليل المستخدم في عرض الوقائع والإشارة إلى بعض الأحداث جاء لمزيد من التفصيل، الذي من المؤمل أن يعطي صورة أكثر وضوحا عن حجم الكارثة التي أصابت المؤسسة العسكرية العراقية، وعن طبيعة دورها في رسم خارطة التدمير، الذي تعرض له العراق، وتدفع إلى الاستنتاج إلى أنه وعلى الرغم من وجود مثل أولئك الضباط الوطنيين، وضباط الصف والجنود النزيهين، إلا أن وجودهم بات وكأنه الشذوذ عن القاعدة، التي اتجهت غالبيتها نحو التخريب الذي مهد لحصول الهدم والتدمير، لأننا وطوال الخسين عاما من اللهاث وراء الحقيقية امكن القول:
لو أن القادة العسكريون كان لهم رأي مسموع، وتأثير فاعل في رسم الخطط، وتقادير الموقف إبان الحرب مع إيران، لتغيرت خارطة الحرب من حيث الوقت، والنتائج وربما في اتجاهات عدم الحدوث. ولو أنهم قد تجرأوا وأسمعوا تقديراتهم لحجم الكارثة إلى الحكومة بطرقهم العسكرية، وتوحدوا في رأيهم الخاص ببعض جوانبها، لدفعوا صدام ولو بشكل غير مباشر على الانسحاب من الكويت وتجنب الكارثة. ولو أن قادة الفرق والفيالق وآمري التشكيلات والوحدات أو بعض منهم، فكروا قليلا بمستقبل العراق، وما فعله صدام بالبلاد، وكارثة التوقيع على وثيقة الاستسلام في صفوان ورهن مستقبل العراق، وتوحدوا في فعل وطني يدعم شباب الانتفاضة، لساعدوا في تجاوز المحنة والكارثة، وساهموا في حماية أرض العراق من التدخل الاجنبي الذي أسهم في اتمام عملية الهدم. ولو فكر القادة وعموم الضباط بالثمن الذي يدفعونه من أمنهم وحريتهم ومستقبل أولادهم وبلدهم، في بقائهم مع صدام ومساعدته على الظلم، وبما يجنونه من حرية، واستقرار وتقدير العراقيين ورضى الخالق، لما بقوا متفرجين على ما يجري أيام الازمة، عندما كان تدخلهم قريب من إنقاذ العراق. انها افتراضات، تقترب بعض التصورات فيها من المثالية في حال العراق، الذي زرع في نفوس أهله الهلع عسكرا ومدنيين حد الخوف من الزوجة في كتابة تقرير عن الزوج رفيق العمر. والتوجس من صديق قد يفشي سر انتقاد صديقه للحكومة. والتجنب المقصود للتكلم مع الأولاد في المجالس الخاصة، خشية أن ينقلوا الصورة مشوهة إلى مدرسيهم والرفاق الحزبيين. والبقاء في وضع القلق دون الاستسلام للنوم بعد سماع نكتة سياسية في غرفة النوم. كذلك تجسس المراسل على الضابط، والمساعد على آمره، وآمر الحضيرة على عريفه. وترك ضابط الاستخبارات مهامه في جمع المعلومات عن أنشطة عدوه، وتحويل جهده لمتابعة تحركات قائده ..... الخ من متغيرات واضطرابات اسهمت في اتمام عملية الهدم في 9/4/2003، وجعلت النظر إلى موضوع الجيش والقوات المسلحة في تلك الحقبة الزمنية ومستقبلها فيما بعد أكثر تعقيدا، لكنه تعقيد من الناحية العلمية لا يمكن الاستسلام لتحديداته لأن العلم وشكل التغيير المرغوب للعراق المستقبلي، يفتحان المجال الى ايقاف حالة التداعي والهدم، اذا ما اعاد القادة حساباتهم الذاتية، وابدلوها بحسابات الوطن التي تُوقف حالة الهدم، وتعيد بناء ما تهدم. واذا ما تخلص المنتسبون من آفات الجهل والطائفية، واصروا على مهنيتهم سبيلا للمعاونة في عمليتي وقف التصدع، واعادة البناء. واذا ما غيرت السياسة من نهجها، وعملت جميع كتلها واحزابها على ابقاء الجيش والمؤسسات الامنية بعيدة عن نفوذهم، ومشاريعهم في السيطرة والاستحواذ.
للراغبين الأطلاع على الحلقة السابقة:

http://algardenia.com/2014-04-04-19-52-20/thaqafawaadab/29762-2017-04-30-17-58-22.html

  

إذاعة وتلفزيون‏



أفلام من الذاكرة

الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

690 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع