شارع المتنبي رئة بغداد الثقافية واستذكار من رحل من رواده

      

   

        


شارع المتنبي رئة بغداد الثقافية واستذكار من رحل من رواده

شارع المتنبي يفقد بلبله: نعيم الشطري أول من أقام مزاداً للكتب

         

غالبا ما تقفز الى الذهن صورة مؤلمة من تاريخ بغداد ، صورة الجيش المغولي وهو يلقي اطنان الكتب في دجلة ليتحول لون الماء في النهر الى لون الحبر. وهنا يقول نوفل الجنابي معدّ سلسلة (عين على بغداد) "إننا لواردنا تحديد المكان الذي جرت فيه مأساة الكتب البغدادية، فلن يكون غير شارع المتنبي"!!..

شارع المتنبي، رئة بغداد الثقافية، وملتقى عشاق الكتاب، يفقد رجاله عاما بعد عام، فقد ودّعنا من قبل رموزا واركانا كبيرة في تاريخ هذا الشارع الزاهي منهم: قاسم محمد الرجب صاحب المثنى، والحاج نعمان الاعظمي صاحب العربية، وحسين الفلفلي صاحب الزوراء، ومحمود القالبجي صاحب السلام، وعبدالرحمن حياوي صاحب النهضة، وابراهيم السدايري، وعبدالحميد الزاهد، ومحمود حلمي وصادق القاموسي، صاحبي المكتبة العصرية، ومحمد جواد حيدر صاحب مكتبة المعارف وسامح اسماعيل، ورشيد عبدالجليل صاحب الشبيبة، وعبدالكريم خضر صاحب الشرق، وعبد العزيز القديفي صاحب مكتبة القديفي... وغيرهم ممن رحلوا ولكن ذكراهم محفوظة بل محفورة في هذا الشارع العتيد.

ولقد شكل سوق الجمعة في المتنبي ظاهرة حية في الحياة الثقافية البغدادية فقد كان المشتغلون بالادب والفن والصحافة يجتمعون في مقاهيهم الاثيرة كل جمعة صباحاً، الزهاوي وحسن العجمي والبرلمان (التي زالت بعد ان بقيت طويلاً تحت اسم مقهى الرشيد) والمقاهي القريبة ثم يتحولون الى شارع المتنبي، يتجولون بين مكتباته ويقفون عند مكتبة الشطري حيث يبدأ مزاد الكتب النازلة حديثاً للسوق، حيث توزع مكتبة لعالم او اديب راحل الى اشلاء، بعد ان تباع بالمزاد في وقت يتهامس فيه اديب مع كتبي محاولاً الحصول على كتاب ممنوع ومستنسخ.

   

يقع شارع المتنبي في الذاكرة العراقية الحيّة بوصفه شارعاً للعقل والاحتفاء بنتاجه الجمالي والفكري والانساني، ومن أهم صفات هذا الشارع إنه جامع المتناقضات، بل ربما كان وما زال هو السمة البارزة للتعبير عن الشخصية العراقية المتجولة في هذا الشارع، الذي ينحصر بين نهر دجلة وشارع الرشيد ويعود تأسيسه الى فترة الحكم العثماني ويُعدّ مركزاً لتجارة الكتب في المنطقة التي كانت تعرف بـ سوق الوراقين في العصر العباسي، أنه الشارع المتخم بالحكايات، وهو متحف لتاريخ الفكر العالمي والعربي والعراقي.

يقال أن شارع المتنبي لم يكن عند إنشاءه متخصصا بالكتب والمكتبات، اللهم إلا المكتبة العصرية التي كان صاحبها المرحوم محمود حلمي قد أسسها في نهاية العقد الثالث، واستورد الكتب لها من مصر وبلاد الشام، وكان وكيلا لدار المعارف بمصر في العراق، ثم انتقلت ملكية المكتبة الى السيد محمد صادق القاموسي بعد وفاة حلمي. وكانت معظم المكتبات الرئيسية بما فيها مكتبة المثنى لصاحبها قاسم محمد الرجب والمكتبة العربية لصاحبها الحاج نعمان الاعظمي ومكتبة الفلفلي ومكتبة ابراهيم السدايري ومكتبة المعارف لصاحبها محمد جواد حيدر ومكتبة السلام لمحمود قالبجي وغيرها من المكتبات موجودة ومتراصة في سوق السراي، ثم اسّسَ الاخوان عبد الكريم وعبد الحميد زاهد مكتبتهما واعمالهما في القرطاسية في شارع المتنبي قريباً من شارع الرشيد، وعلى مقربة من صيدلية كاكا الشهيرة انذاك.

         
      
المتنبي يفقد بلبله نعيم الشطري:

من أبرز من فقدهم شارع المتنبي أخيرا، المرحوم نعيم الشطري، الملقب ببلبل المتنبي، فلا يمكن لأحد من رواد المتنبي أن ينسى صورة وصوت عاشق الكتاب، المرحوم نعيم الشطري وهو يصرخ بصوته المتميز

عارضاً أندر المجموعات الكتبية للمزاد في وسط شارع المتنبي.. مع تعليقاته المؤنسة، نعم لقد توفيَ الشطري وهو ابنُ شارعِ المتنبي الشهير ونابغتُه الذبياني الذي كان صوتُه وهو يُلقي القصائدَ يخترقُ الشارعَ حتى اصبحَ رمزاً من رموزِه، فقالَ البعضُ إن المتنبي اصبحَ مُظلماً بدونِ الشطري. ورِث عنه اولادُه مكتبتَه التي اختفى من عليها اسمُهُ بعد بيعِها وهو ما اعتبرَهُ روادُ المتنبي خسارةً كبيرةً ومفاجأةً من العيارِ الثقيل.

نعيم الشطري المكنى بأبي ربيع اسم في عالم الكتاب وشارع المتنبي، ويسميه المثقفون شيخ باعة الكتب او شيخ الوراقين.. رجل قضى عمرا طويلا بين الكتب .. رحل الشطري عن عالمنا أواسط عام 2012 عن عمر ناهز 72 عاماً، وهو يمثل كتابا بين دفتي تأريخ المكتبة العراقية بكل ماتعنيه هذه الكلمة من معاني الثقافة والمثقفين ورائحة الكتب المنبعثة بعطرها الذي لايقاوم من شارع المتنبي وسوق السراي ومايحيط بهما من أرصفة ومناطق تمتد الى قلب العالم، قديمه وحديثه، إنها بغداد قلب العالم الذي لم تتوقف نبضاته وإن ظن البعض ذلك.. ومن بين هذه النبضات المنتظمة، كانت خطوات ذلك الرجل الرائع، صديق كل عشاق الكتاب. إنه صاحب

مكتبة تعرف باسمه. الشطري يعد أوَّل مَن باع الكتاب في العراق بمزاد علني، فمزاده كانَ الأوَّل وبقي الأخير فيه.

                                  

كتب عنه راثيا الأستاذ زيد الحلي إذ قال:

(( كانَ واحداً من الطيبينَ الذينَ إذا لمْ يستنشقوا روائح الحبر والورق العتيق فإنَّهم لا يعدُّونَ يومهم يوماً، والشطري لمْ يتركْ جمعة شارع المتنبي أبداً، حتى في أسوأ حالات فقدان الأمن، بلْ هناكَ مَن يؤكِّد أنَّ نعيماً كانَ يتواجد في شارع المتنبي حتى في أيَّام منع التجوال))!! فيالَشجن الثقافة ولهفة روادها على شارع المتنبي وسوق السراي لما حلَّ بهما بعد كلِّ مَن فقدا من هؤلاء الرجال الأفذاذ ، رحم الله السابقينَ منهم، ورحم آخرهم أبا ربيع الأستاذ نعيم الشطري، وطيَّب ثراهم جميعاً، وأطال عمر من تبقى منهم، وما أحوجنا اليوم إلى أمثالهم...

  

اتحاد الادباء يستذكر الشطري:

اتحاد الأدباء، في مبادرة لطيفة وكريمة، أقام في شارع المتنبي، حفلا استذكاريا لتأبين الشطري، اٌقدم بائع كتب في المتنبي، والذي يعتبر عرّاب الشارع، انه أبو ربيع نعيم ألشطري، الذي توفي قبل عام عن عمر يناهز 72 عاما، متأثرا بعدة إمراض منها ضغط الدم، والقلب وضيق الشرايين. وقام مثقفون بإيقاد الشموع وعلقوا صور الراحل قرب مكتبته الصغيرة، وارتفعت في جنبات الشارع أصوات البعض عبر مكبرات الصوت مرددة قصائده وأشعاره التي كانت يطلقها باستمرار ساخرا من فقره وعوزه، ومن هذه الأبيات:

كِلمَن يُـﮕلّك زين ..ﮔلّه إنتَ ﭽَذّاب!!

ألشطري صار أسبوع ما بايع كتاب!!

ورغم هذه الشكوى إلا انه وبشهادة رواد المتنبي كان العلامة الأبرز فيه، والاكثر اريحية، والمحفز على اقتناء الكتب الجديدة والمهمة.

الناشر الأديب والصحفي مازن لطيف قال: "ان التهميش بات يطال اغلب المثقفين من كبار السن رغم أهمية ما قدموه في أصعب الظروف"، مضيفا "ان ألشطري مات وكان في جيبه عشرة ألاف دينار فقط. وقد كرر رواد الشارع النداءات خلال الفترات السابقة لعلاجه

لكن الحكومة والمسؤولين لم يلتفتوا لهذه الاستغاثات، فمات أبو ربيع حزينا على حاله وحال الثقافة العراقية"، وكرر مازن لطيف ان المثقفين طالبوا محافظة بغداد بتسمية شارع او حي باسم نعيم ألشطري عاشق الكتب، وأول صاحب مزاد للكتب في شارع المتنبي.

أما الكاتب كريم ألعماري من أصدقاء الراحل، وهو صاحب مكتبة في شارع المتنبي،فقد ذكر ان ألشطري بدأ بائع كتب متجول في عربة خشبية يطوف بها مناطق بغداد وذاعت شهرته منذ ستينيات القرن الماضي وكان صاحب فضل على مبدعين كثيرين من خلال أعارتهم الكتب أو منحهم الكتب بلا مقابل، ومنهم زامل سعيد فتاح، وعزيز سيد جاسم، وعلي الوردي، وعشرات الأسماء الذين يكنّون له التقدير والاحترام الكبيرين، وفي ثمانينيات القرن الماضي فتح مكتبة صغيرة في شارع المتنبي، كانت ملتقى للمبدعين، وابتكر أول مزاد فريد من نوعه لبيع الكتب النادرة من خلال ترديد القصائد، والتغني بها بصوته الجهوري المحبب.

برحيل الشطري فقد شارع المتنبي أجمل نكهاته المميزة لان أي زائر للشارع كان لا بد ان يقف معجبا بطريقة عرض ابو ربيع للكتب، حتى ان المثقفين والصحفيين من خارج العراق كانوا يأتون للشارع

خصيصا للتعرف عليه، والتقاط صور له باعتباره ظاهرة ثقافية قل مثيلها"!!

في كل يوم جمعة يتجمع حول مكتبة الشطري الصغيرة اصدقاؤه ومحبوه ورفاقه القدماء للتعارف والسلام والسؤال والنقاش حول آخر الإصدارات من الكتب وكذلك عن كل ما هو ساخن من الامور السياسية والحياتية، بالإضافة الى كون الشطري استعلامات غير رسمية للشارع فكل من يسأل على عنوان معين او شخص او كتاب يتوجه نحو الشطري فيجد دالته، انه كما يقال مختار الشارع غير المنتخب وكل من له امانة الى شخص لم يحضر يومها الى المتنبي يضعها عند الشطري ليستلمها صاحبها في اي وقت كاملة سالمة، انه الشطري الامين والصادق وحتى من لا يعرف الشطري من زوار شارع المتنبي، ما ان يدخل المتنبي من جهة شارع الرشيد الا ويسمع صوت الشطري وهو كالأسد الجريح الذي يزأر من شدة الالم بأبيات شعرية تتغنى وتمجد بغداد ودموعه تنهمر مع الاشعار آسفاً على بغداد وما حل بها او وهو يردد ابيات الجواهري الكبير في تمجيد رموز الحركة الوطنية في العراق :

سلاماً على مكبل بالحديد

ويشمخ كالقائد الظافر

كان القيود في معصميه

مفاتيح مستقبل زاهر

وعندما تخفت الحركة في السوق ويقل البيع يردد الشطري دارميته الشهيرة التي ذكرناها: كلمن يكلك زين كلة انت چذاب..الشطري صار اسبوع ما بايع كتاب !!

تميّزَ نعيم الشطري بمزاده العلني الاسبوعي في ايام الجمع من كل اسبوع، الذي يقول الشطري في تصريح له انه اخذ فكرته من النجفيين. ولم يتوقف نشاط الشطري عند حدود بيع وشراء الكتب، وانما مكتبته قامت بنشر كثير من الكتب في الشعر الشعبي، مثل حياة وشعر الحاج زاير "من منشورات مكتبة الشطري". وكان ألشطري ترك مدينته قضاء الشطرة شمال محافظة ذي قار منذ خمسة عقود خلت وتوجه إلى العمل في شارع المتنبي كبائع كتب جوال، حتى أصبح جزء من هوية الشارع وعلامة فارقة من علاماته. وتولى ألشطري المتاجرة بالكتب بين المحافظات في بداية حياته المهنية ثم ما لبث أن افتتح مكتبة خاصة له في شارع المتنبي قبل ان يستحصل الموافقات الأصولية لبيع الكتب عن طريق المزاد العلني الأسبوعي حيث كان هو أول من قام به في الشارع مستغلا صوته الجهوري .

  

بداية علاقته ببيع الكتب:

قال نعيم الشطري في حديث سابق له: "بدأت علاقتي بشارع المتنبي منذ اواخر عام 1963، حين كنت
اجيء اليه لشراء الكتب وارسالها الى مدينة الشطرة والمحافظات، واذكر اننا كنا نحملها في عربات من ذوات العجلات الثلاث وندفعها الى حيث مرآب السيارات لننقلها، وقد اخترت هذه المهنة، لان هوايتي منذ الصغر القراءة التي ابتلاني الله بها، وصار الكتاب كل شيء بالنسبة لي، وبعدها اسست اول مكتبة في (الشطرة) في شعر ايلول عام 1958، ثم سجنت لمدة سنتين، وبعد خروجي من السجن جئت الى بغداد لابدأ من هذا الشارع".

وعن مزاد الكتب الذي احياه وكان احد مظاهر الشارع، قال : "اود ان اقول اولا انني اول من اوجد بيع الكتب على الرصيف بما يسمى (البسطية) وكنت انثر الكتب في (عربانة) واقف على الرصيف ولم يكن هذا معروفا من قبل، ولاقت هذه الظاهرة حضورا كبيرا، اما المزاد فكان قبل عشرين عاما، اي في اواخر الثمانينيات بعد ان حصلت على موافقة من الامن العامة بعد ان اخذت وقتا طويلا، وقد شجعني على اقامة المزاد العلامة المرحوم حسين علي محفوظ والشهيد عزيز السيد جاسم وثامر عبد الحسن العامري والصحفي عادل العرداوي، فهم ساعدوني في الحصول على الاجازة، وجاءت فكرة المزاد من كتاب عنوانه (تأريخ أداب اللغة العربية) لـ (جرجي زيدان) انه كان يستعين بالاب انستاس الكرملي في معرفة المكتبات الشخصية في بغداد والمحافظات، ويقول في الجزء الرابع منه ان هناك في مدينة النجف في

مرحلة الاربعينيات يقام كل يوم خميس وجمعة مزاد للكتب القديمة والمخطوطات، وفي هذا المزاد كان الكتاب الجيد يباع بأبخس الاثمان كي يشتريه اصحاب المزاد بينما يباع الكتاب العادي بأغلى الاثمان كي يربحوا من بيعه، من هنا.. جاءتني الفكرة لاقامة المزاد في كل يوم جمعة، وبعد ان حصلت على الاجازة، ولي الشرف ان يكون اول مزاد للكتب في شارع المتنبي بأسمي، وحينها اتيت بأولاد اخي وفرشت لهم الكتب على الارض ورحت انادي لبيعها، ومنها انتشرت ظاهرة بيع الكتب على شكل (بسطيات) فيما كنت الوحيد اقوم بالمزاد".

حس فكاهة الشطري الثقافي:

كانت طريقته الجميلة والمحببة عنصر اخر في بهجة الشارع لترى جموع رواد المتنبي يأنسون بتلك الطريقة وذلك التلحين بالكلام، فيستطيب لهم الوقوف للاستماع الى تلك التلحينات اللطيفة واشهرها لازمته الشهيرة (كعيك بن جريك البقصمي)!!! اشارة لاسم مؤلف ما لإسباغ نوع من الطرافة على تلك الاجواء البهيجة، واحيانا يستفز اهل اللغة بتلحيناته بحيث يتلاعب بالحركات، فيقفون استطلاعا لما يحدث، كما استفز في احد الايام السالفة العلامة (مصطفى جواد) الذي كان بصحبة الدكتور (فؤاد عباس)، في احد امكنة بيع الكتب حينما كان يردد جملة (تنزيلاتٌ هائلة بالكتبُ)!! بالضم وليس بالجر)، وحينها التفت الدكتور مصطفى جواد رحمه الله.الى زميله (فؤاد عباس) وقال له (باوع دكتور هذا الشاب يستفزنا) واطلق ضحكة مجلجلة شاركه الجميع بها. ويذكر الكتبي نعيم الشطري بانه تعمد تلك الحركة للفت نظر العلامة مصطفى جواد. كما يتعمد في مزاده اللاحق استفزاز الكثير من الادباء واهل اللغة والتاريخ تعليقاته الساخرة ولازماته اللطيفة.

بعض المضايقات التي تعرض لها :

تعرض نعيم الشطري الى الاعتقال بتهمة كونه (شيوعي) وامضى مدة سنة ونصف في سجن الكوت حتى اتيح له الهرب من السجن مع عدد من المعتقلين من بينهم (فخري كريم زنكنة وحسن العتابي) لكنه اعيد اليه بعد اعتقالهم مجددا.. واوقف في موقف الامن العامة قرابة الشهر والنصف بتهمة بيع كتب ممنوعة من بينها مجلدات صحف الثورة والجمهورية واتحاد الشعب، وهي في الحقيقة جزء من مجموعة الباحث المعروف (سليم طه التكريتي) التي باعها له، بعد ان ضبطت بحوزة احد المواطنين الكرد وهو يروم نقلها الى شمالنا الحبيب. وكان التركيز على صحيفة (اتحاد الشعب) الشيوعية،اعتبر ترويجا لهذه الصحيفة الممنوعة وقتذاك، ولكونه شيوعي سابق.. ودوهمت مكتبته في احدى المرات من قبل اجهزة الامن على اثر وشاية تبرع بها شخص كان غارقا بأفضال الشطري المسكين، والغريب ان عناصر الامن كانوا يحددون موقع الكتب،

ويطلبون انزالها، ويقول: لقد وجدوا كتابا عن الخميني، وكتاب (انا يساري) لشاكر السماوي وكتب دينية، وافهمتهم انني لم اعرضها للبيع وانما جاءتني مع مجاميع الكتب التي اشتريتها وكدت اسجن في وقتها، فضلا عن مضايقات اخرى.

كان (نعيم الشطري) امينا وعاشقا لهذه المهنة النبيلة التي منحته رصيدا هائلا من الذكريات وهو يحرص كل يوم على التواجد في الشارع على الرغم من تواصل العمل فيه، والذي يقول عنه: ان زمن اعمار الشارع طال كثيراً، حيث ان العمل يجري ببطء، وقد تعثرت حركة الكتاب في الشارع الذي نأمل ان يكون زاهيا بحلته الجديدة، وسوقا رائدة للكتاب عموما، في العراق والبلاد العربية.. ويبقى قبلة لعشاق الكتاب، ومنارا للمعرفة والثقافة والعلوم وملتقى للاحبة والمبدعين.

   

الشطري يتحدث عن شارع المتنبي:

أجرت إحدى الصحف لقاء مع الشطري قبل نحو عام من وفاته وقد استحضر ذاكرته في بداية اللقاء ليتحدث عن شارعه المفضل قائلاً :

ـ يعود تأسيس شارع المتنبي الى أواخر الدولة العباسية وكان يسمى في ذلك الوقت بـ ( درب زاخا) وهذه الكلمة (آرامية) وكان مزدهرا آنذاك بالمؤسسات العلمية والدينية والفكرية والثقافية.. وكان في شارع المتنبي العديد من المدارس منها مدرسة (سعادة).

كان شارع المتنبي الذي يبلغ طوله نحو 100 متر وينحصر بين القشلة مرورا بمكتبة (نعيم الشطري) ومن شارع الرشيد حيث البيوت الممتدة على طول الشارع.. وقد سمي بشارع المتنبي عام 1932 وكان ذلك في عهد جلالة الملك فيصل الاول حيث شكلت لجنة متخصصة في ذلك الوقت لتسمية الشوارع والساحات في بغداد برئاسة (حيدر العمري) الذي كان يشغل منصب (امين العاصمة) حيث كان شارع الكفاح يسمى شارع غازي وكذلك تمت تسمية شارع المتنبي نسبة للشاعر المتنبي وتخليدا لذكراه الخالدة.

* عن بدايات افتتاحه مكتبته في شارع المتنبي ، قال :

ـ عندما تركت الدراسة في مرحلة المتوسطة و نظراً لولعي وحبي للكتاب والكتب وعشقي لاقتناء الكتب سواء القديمة والحديثة أسست مكتبة في الشطرة عام 1958 .

وفي عام 1963 أسست اول مكتبة في محافظة النجف وسميتها بـ (مكتبة نعيم الشطري) حيث كانت هذه الفترة مزدهرة في بيع الكتب . وبين عامي 1966-1968 عدت لبغداد وأسست مكتبتي الموجودة الآن في شارع المتنبي وقد افتتحها في بداية الأمر بالكتب القديمة جدا ومايطلق عليها بـ (الستوك) وكنت أضع الكتب في عربة وأسحبها داخل السوق وفي بعض الأحيان افترشها على الأرض.

* وعن مجموعات الكتب القيمة التي بيعت من خلال مكتبه نعيم الشطري،قال :

ـ في بادئ الامر بعت مجموعة نادرة وقيمة من الكتب والمصادر وبشتى المجالات منها الدينية والفلسفية والسياسية والتأريخية ومنها مجموعة (قصة الحضارة) وبيعت بسعر 400 دينار وكذلك مجموعة كتب أخرى كانت تتراوح أسعارها بين 200-300 دينار. أما المؤلفات الأخرى التي بعتها من خلال مكتبتي فكانت مؤلفات (لجورجي زيدان) وقد تم بيعها في ذلك الوقت بـ (150) فلسا.

* واسترسل الشطري في الحديث قائلا:

ـ تولدت لدي فكرة بعد تأسيس المكتبة في شارع المتنبي ومفادها بأن أقوم وبعض أقاربي من أبناء أشقائي وشقيقاتي ببيع الكتب وبمختلف المجالات وكما ذكرت عن طريق البيع بـ (المزاد) وافترشت الأرض بالكتب وعلى أرصفة شارع المتنبي وفي عربة خصصت لهذا الغرض ، وقد لاقت هذه الفكرة رواجا وحققت نجاحا كبيرا من قبل المثقفين والادباء والمفكرين . وقد شجعني وقتها العلامة (شيخ بغداد) الدكتور حسين على محفوظ حيث كان من رواد شارع المتنبي والصحافي عادل العرداوي كما حضر هذا المزاد الكثير من وسائل الإعلام وأبدى الحضور إعجابهم بإقامة مزاد كهذا .

* وعن أبرز رواد شارع المتنبي من الشخصيات والمفكرين والمثقفين ممن اخترنت ذاكرة الشطري أسماءهم سألناها ، فأجاب :

ـ لكل فترة زمنية روادها من المثقفين والادباء والمفكرين حيث أقام هؤلاء منتدى في شارع المتنبي وأصبح تجمعا لهم حيث يقيم فيه الادباء والمثقفون في كل يوم جمعة كرنفالا ادبيا وفكريا يحصل فيه إلقاء القصائد الشعرية وتبادل الآراء والأفكار في حوار صريح بينهم ، وكانت قهوة الشابندر خير دليل على هذا الحدث الفكري الثقافي

حيث تستقطب قهوة الشابندر العديدين من المثقفين والادباء وتستضيف شخصيات ادبية لإلقاء المحاضرات.

إن من أبرز رواد شارع المتنبي وقهوة الشابندر هو حسين على محفوظ وجمال الخياط ومحمد توفيق الحكيم في حين كان أكثر رواد الشارع من محافظة الموصل. وكان رئيس الوزراء نوري السعيد كثير التردد على الشارع.

أما الشخصيات العربية والاجنبية التي زارت شارع المتنبي واستأنست به فهو الدكتور زكي مبارك وفؤاد سركيس أستاذ اللغة العربية والزائر الفرنسي جاك بيرك وكان يسمى بصديق العرب ولويس ماسينيوف وقد أطلق عليه صديق (صاحب الحلاج) لأنه كان يحب كتب الحلاج كثيرا. وكذلك المطربة أم كلثوم حينما زارت بغداد وأبدت إعجابها به وكان ذلك في الثلاثينيات وفيلسوف الهند وشاعرها الكبير طاغور.

* وعن ابرز مشاهداته في أثناء مراحل التدمير والإعمار التي شهدها شارع المتنبي على اعتبار إن هذه التفاصيل جزء من حياة الشطري اليومية ، أجاب قائلا : لقد تألمت وحزنت حتى بكيت كثيرا عندما شاهدت شارع المتنبي وقد تحول الى ركام وأكوام من الرماد بفعل احتراق الورق جراء الانفجار .. لقد كنت حينها في زيارة الى أقاربي في محافظة النجف وحدث الانفجار وعند وصولي سمعت كلمات الترحاب والحمد لله على السلامة تردد عند استقبالهم لي فظننت اول الامر أن هذا الترحيب لسلامة الوصول لكنني عرفت فيما بعد بالانفجار الذي طال شارع المتنبي بما فيه.. بكيت وذرفت الدموع لأن شارع المتنبي متربع في كل جزء من أجزاء جسدي.

وجوابا على سؤاله عن مصادر الكتب التي يبيعها ؟ اجاب الراحل الشطري: ليس لدي سوى القديم الذي اجلبه من شرائي للمكتبات الشخصية القديمة، ولكنني في السابق، في السبعينيات، كنت استورد الكتب من مناشئها كما كنت اطبعها واذكر ان اول كتاب طبعته كان للشاعر كريم العراقي بعنوان (للمطر وام الظفيرة) وبعده طبعت مجموعة للشاعر عريان السيد خلف (الكمر والديرة) وتواصل في الطبع ولازلت الى حد الان اطبع.

* اي الشخصيات الشهيرة مرت في الشارع وتوقفت عندك؟ - كثيرة جدا ولدي مع البعض علاقات صداقة من الجواهري الى علي الوردي الى علي حسين محفوظوالبياتي وعبد الغني الملاح ومحمد الفيتوري واسماء عديدة لا تحضرني الان.

* كيف ترى حال القراءة الان من خلال تواجدك في الشارع؟ - لا يزال هنالك قاريء عراقي جيد رغم الانترنت والفضائيات، وما يشهده الشارع كل جمعة خير دليل، والمقولة الشهيرة التي كانت تقول ان مصر تكتب وبيروت تطبع وبغداد تقرأ يمكن القول انها انتهت ونستبدلها بالقول ان بغداد صارت تكتب وتطبع وتقرأ، اقول هذا على مسؤوليتي.

* ما نوعية الكتب التي عليها طلب اكثر؟ - كتب الفلسفة والتاريخ والادب.

* دعني اسألك عن امنياتك؟ صمت الشطري ولم يجب، طال صمته حتى تصورت انه لم يسمع السؤال، لكنه بعد برهة انفجر صارخا وباكيا، وعاتبني على السؤال، لكنني بعد ان هدأ اعدته عليه... فقال: حياتي كلها صعبة!!.

* لماذا؟ - لم ار النور في حياتي ولا الراحة، عشت تعبا نفسيا، ووضعا ماديا صعبا، انا ما زلت اعيش في غرفة حقيرة في منطقة (جديد حسن باشا / خلف شارع المتنبي).

* ما قصة بيت الدارمي الذي نسمعه عنك؟ - الشطر الثاني من تأليفي، كتبته وانا ثمل ولم اعرف

كيف، وفعلا مرت علي ايام لم ابع بها الا القليل جدا من الكتب.

          

* ما الذي تتمناه هذه اللحظة؟

- امنيتي بالدرجة الاولى ان تقوم الحكومة بأيصال الكهرباء الى شارع المتنبي، فما زال الى حد الان بلا كهرباء، والامنية الثانية ان تقوم الحكومة بتأسيس مكتبات للطفل العراقي في كل محافظة وقضاء وناحية وقرية، كما اتمنى ان اغيّر المكان الذي اسكنه وبصراحة انا مديون وامنيتي الخاصة جدا ان اسدد هذه الديون واستريح!!.

ولنتذكر دوماً أن الشطري صاحب القول : (قتل الكتاب أخطر من قتل الإنسان لأن الإنسان له عمر أما الكتاب فيبقى خالدا وقد حرقوه).

أفضال الشطري على الدارسين والباحثين:

يقول أحد خريجي الدراسات العليا ببغداد: (عرفْتُ هذا الراحل العزيز لأوَّل مرَّة بنفس مكان مكتبته في شارع المتنبي في العام 1992م ، وعرفه مَن هو قبلي في الأدب والثقافة بنفس مكانها أيضاً في بداية ستينيات القرن الفائت ، يومَ لمْ تكنْ أمي قد ولدتني بعدُ ، أي قبل أكثر من خمسين عاماً ! ؛ له فضلٌ عليَّ لا أنكره ودالة لا أجحدها ،

نعم : للشطري فضلٌ عليَّ ودالة يومَ كنْتُ دارساً للأدب العربي ولغته في تسعينيات القرن الفائت، بأنْ باعنِي الكثير ممَّا كنْتُ أحتاجه في دراستي وبحثي مِن المصادر والمراجع بأثمانٍ زهيدةٍ وأسعار رخيصة أو بأقلَّ من ثمنها الأصلي وقيمتها الحقيقية ، وأعارَنِي البعض الآخر منها بدون مقابل ، مساعدة منه لِي ولأمثالِي مِن دارسي الأدب ، حباً منه للأدب وشغفاً به لا غير ! ، ولم يقبلْ مع ذلك كلِّه منِّي حتى كلمات شكري التي كنْتُ أسقطها عليه وأمطره بها!، وكان يقولُ لي: إنَّ واجبه الإنساني والأخلاقي هو رعايتنا نحن طلاب البحث الأدبي ، لأنَّه يرى فينا الأمل والمستقبل على حدِّ قوله وتعبيره ! ؛ وبذا تكون الأجيال التالية التي ستأتي بعد يومنا هذا قد خسرته أو خسرَتْ – من دون تدري – مُعِيناً مخلصاً نزيهاً، وإنساناً طيِّبَ القلب، مرهف الحسِّ، رقيقَ المشاعر، مُحِبَّاً للأدب ، ومتذوِّقاً لنصوصه، راعياً لكلِّ الأدباء الذين يمرُّونَ به أو على مكتبته ومزاد كتبه ، صديقاً حميماً لهم؛ ما أحسنه من صديق !، وما أكرمه من إنسان).

ورحل نعيم الشطري:

ورحل نعيم الشطري عن دنيانا وافترق عن شارع المتنبي، وترك مكتبته فيه، لكن بعض وسائل الإعلام أوردت أن ورثة الشطري قاموا ببيع المكتبة الى شخص آخر. وقال مثقفون وباعة كتب في الشارع أن "الورثة قرروا بيع المكتبة لعدم تفرغهم"، وهو ما يثير قلق المثقفين العراقيين من أن تتحول المكتبة إلى شيء آخر. وطالبوا الجهات المسؤولة بالتدخل لحماية مكتبة الشطري وما تمثله في الذاكرة الجمعية. فهل يبشر الآتي ببقاء مكتبة الشطري كما كانت قبلة للمثقفين .

توفي صبيحة يوم 24/6/2012 في مدينة الطب بعد صراع مع المرض، عن عمر ناهز 72 عاماً. رحل الشطري وهو يمثل كتابا بين دفتي تأريخ المكتبة العراقية بكل ماتعنيه هذه الكلمة من معاني الثقافة والمثقفين ورائحة الكتب المنبعثة بعطرها الذي لايقاوم من شارع المتنبي وسوق السراي ومايحيط بهما من أرصفة كانت خطوات ذلك الرجل الرائع، صديق كل عشاق الكتاب. وقد نعت الأوساط الثقافية والاعلامية العراقية وفاة نعيم الشطري بعد رحلة معاناة مع مرض خبيث في القولون انتهت به في مستشفى (مدينة الطب) في بغداد حيث غادر الى مثواه الأخير . وتناقل محبوه من المثقفين خبر وفاته بحزن كبير وأقاموا له مجلس عزاء رمزي أوقدوا الشموع في وقد إتخذت شكل الدمعة ، أمام مكتبته .

وطبقا لما نقلته وسائل اعلام عن مقربين له فان ألشطري الذي عاش وحيدا ومات وحيدا أوصى بان يتم تشيعه في شارع المتنبي وليس في أي مكان أخر .

وداعا نعيم الشطري ... سيتذكرك شارع المتنبي دائما

هذا وقد طالب مثقفون وباعة كتب في شارع المتنبي الجهات المسؤولة بالتدخل لحماية مكتبة الشطري وما تمثله في الذاكرة الجمعية. فهل يبشر الآتي ببقاء مكتبة الشطري كما كانت قبلة للمثقفين .


فيديو افلام وثائقية عن المتنبي ومزادات نعيم الشطري يرحمه الله

http://www.youtube.com/watch?v=Jow0Q4hEzWU&list=PL7BC6382C6D05BD4D&index=4 http://www.youtube.com/watch?v=SPaif1pHj_I


رغم صوته العالي الحنين الا ان الدمعة كانت لاتفارق عينه الما واسفا على ما حل ببغداد والمتنبي

   

  

إذاعة وتلفزيون‏



أفلام من الذاكرة

الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

812 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع