يهود العراق – ذكريات وشجون (٣٣) يهودي عراقي-إسرائيلي في معهد الدراسات الأسيوية والإفريقية -٢

          

يهود العراق – ذكريات وشجون (٣٣) يهودي عراقي-إسرائيلي في معهد الدراسات الأسيوية والإفريقية (SOAS) بجامعة لندن- ٢

   

             

وبعد حفلة التعارف وانتشار نبأ انضمام يهودي إسرائيلي إلى المعهد لإعداد أطروحة الدكتوراه عن الشعر العربي الحديث، بدأت حملة الطلبة العرب لمقاطعتي مثلما قاطعوا إسرائيل المزعومة والبضائع الإسرائيلية. وعادت حليمة إلى عادتها القديمة.

كنت قد استرحت من مثل هذه الملاحقات من طلاب مدرسة السعدون وفي شوارع بغداد بعد لجوئي إلى إسرائيل، وإن كان الجميع فيها يشيرون إليّ بالعراقي أو الشاعر العراقي. كان العرب إذا التقوا في أوربا بيهودي يحاولون معرفة إذا كان يشم منه رائحة الصهيونية أو كراهية العرب، أما في إسرائيل فالذين يعدون أنفسهم أوروبيون أو جاؤوا من أوروبا، فانهم يحاولون معرفة إذا كان يشم من هذا الشخص الشرقي رائحة البدائية والتقاليد القديمة وإيمانه بالخرافات وبالقضاء والقدر كما يفعل علماء الفلكلور.

جاءت جولدا مئير، رئيسة وزراء إسرائيل آنذاك إلى لندن وقالت في اجتماعاتها مع الجالية اليهودية: عليكم بالهجرة إلى إسرائيل، فقد هاجر إليها عدد كبير من اليهود السود الأميّين من البلاد العربية، ونحن نخشى أن تصبح إسرائيل دولة ليفانطينية (شرقية) ونحتاج إلى يهود أوروبا لتعزيزها بكم. سألني الطلبة اليهود الإنكليز من أين بلد قدمت؟ قلت من العراق! قالوا وكيف تقول رئيسة وزرائكم بأنكم سود وأميون وأنت وأخوتك الثلاث تدرسون في الجامعات الأوروبية لتقديم أطروحة الدكتوراه، فأنتم لستم سود ومتفوقون في الدراسة.

قلت لهم: يا با؟ جايين أتقنعوني؟ متروحون اتقنعوا الأغا أحسن!، ولكني أظن أن هذه الدعاية السمجة هي لتشجيع يهود بريطانيا للهجرة إلى إسرائيل. قال: لقد أفحمناها بقولنا: ولماذا نهاجر إلى دولة فيها سود أميون متأخرون حضاريا، فمن الأفضل لنا أن نهاجر إلى دول متحضرة وغنية مثل كندا والولايات المتحدة أو نبقى في حماية الإمبراطورية البريطانية.

قلت له: الله أيكثر خيركم، والله خوش زوج كلام، لم أفكر به من قبل! وهكذا أضاع يهود البلاد العربية في إسرائيل في الستينات من القرن الماضي لحيتهم بين حانة العربية ومانة الأشكنازية. 

وفي لندن كان هناك من يخبر كل طالب عربي يتبادل الحديث معي بأني يهودي إسرائيلي ويجب الحذر منه فلعله جاسوس خطير يحسن العربية والتكلم باللهجة العراقية "ويجرّ الأسرار من جوّه لسانكم".

وعندما أخبروا رئيس لجنة الطلاب العرب العراقي الذي كان يحب تبادل الحديث معي حنينا إلى اللهجة العراقية بدل اللهجة المصرية التي كانت تفرض نفسها على جميع الطلبة العرب في المعهد، قال للواشي: أشكرك والله يكثر خيرك، والله لم أشك فيه فقد كنت أظنه عراقي مسلم، الحمد لله ما طلـّعتْ أسرار العراق قدامه! وكنت أقول لنفسي: هل أنا اليهودي الوحيد لكي يلقي الطلبة العرب تبعات إسرائيل على كتفي.
كان طارق الطالب العراقي للعلوم السياسية يأتي للقاء الطلبة العرب في معهدنا الذي أصبح النادي غير الرسمي للعرب والمسلمين لشرب الشاي والقهوة وللحوار وقتل الوقت. سمع طارق بالطالب الإسرائيلي العراقي. تعرف عليّ وأصبح لا يفارقني. حذره الطلبة المصريون: إزاي تصاحب يهودي إسرائيلي من مغتصبي فلسطين ومضطهدي العرب والقائمين بمذابح دير ياسين وغيرها؟

قال لي طارق بلهجة المنتصر: أنـت خايف عليّ؟ كلتلهم يا أغاتي! هذا البنات أيلحقوه وين ميروح، وياهي البنت اللي يذبها آني آخذها منه! فلما سمعوا حجته الدامغة وافقوا على أن يواصل صداقته معي على "أن ينـَوّل إلـْهُمْ كم وحدة طايفة اللي مش عاوزها هو". قلت له: والله، أكبر اتفاقية!
سار معي ذات يوم في طريق عودتنا من بيت هلليل، وهو نادي الطلبة اليهود في لندن حيث يقدمون في اللحم الحلال، بعد أن سئمت مطعم نهر جانجس الهندي، ومررت كعادتي بشباك سكرتارية فندق بورتلاند قرب راسل سكوير، فإذا السكرتيرات والنادلات الجالسات على الشباك المشرف على المعهد في فترة الاستراحة ينهضن مهللات وهن يقفزن ويرقصن فرحا ملوحات بأيديهن ويرسلن القبلات في الهواء باتجاهنا وهن ياندين: "دارلينج، دارلينج".

    

طار عقل طارق من فرحته: شوف عيني شلون من شافوني مكيفات، إيرقصن ويدِزّن البوسات بالهوا، تعال نروح أنوّل الهل فخاتي وانزلهن.

قلت له: ذوله كل مرة الأمُرْ بيها من هنا يسوون هل حفلة، رقص وبوس وتلويح، لا أتدير بال إلهن.

قال: إنت وين عقلك؟ والله هسه أروح أقول إلهن ينزلن، ويصعدونا إليهن ونسويها هوسه وفلة وياهن.

قلت له: لا تنخدع، هذوله عندهن استراحة وديتونسن ويلتهن ويقضون وقت استراحتهن بهل هوسه. ترى هذول مثل الدنيا:
لها ضحك القيان إلى غبي ولي ضحك اللبيب إذا تغابى
لا تبهدل نفسك وياهن. لم يكترث طارق لكلامي، ونفخ صدره وهو يعبر الشارع، وقد بدا قصيرا مثل الدندح وظهرت بوادر الصلع وراء رأسه وكرشه يندفع بلهفة إلى أسفل الشباك الكبير حيث يقفن كالحمائم البيض بلباسهن الرسمي. برم شاربيه ورفع يده اليمنى ملوحا لهن بالنزول إليه. "كـَمْ داون!، كم داون!"، وفجأة سهمت نظراتهن وساد صمت غريب وتوقفن عن كل حركة كأن لا يوجد رجل متلهف يناديهن للنزول.

صدم طارق لهذا البرود المفاجئ بعد أن منى نفسه بليلة حمراء دافئة مع من فتنهن برجولته وشاربيه. التفتَ إليّ مستنجدا وقد اسقط في يده: هاي إصار بيهن؟ سامي! خاطر الله تعال نزلهن.

ابتسمتُ ابتسامة الخبير بأمور النساء عليم: لا تضيع وقتك! ترى من هل زاغور ما يطلع عصفور! فأنت ممن قلّ ماله وإن لم يشب شعر راسك.

صاح: ولك تعال خاطر الأنبياء والأولياء نوللهن ونزل كم وحدة منهن.

قلت له: ليش آني مطيرجي أنوّل ابطير وأنزلك الكـشة، تعال ارجع وحافظ على شرفك.
عاد طارق الى حيث وقفتُ في الجانب الآخر من الشارع. فما أن ابتعد قليلا حتى عادت البسمات إلى وجوههن وعدن الى التلويح بأيديهن وارسال القبلات في الهواء، وترديد كلمة "دارلينج، دارلينج" مع رقصهن.

قال طارق: والله راح أنجن، اشو انت دهري، مو حرام عليك تذب هل فخاتي وتروح وادشرهن، مادتشوف شلون يردن تطلع عدهن. تروّح هيج فرصة من إيدنا؟

تركت المكان وتبعني طارق، وهو يقول: والله انت راح تخبلني!. قلت له: الفتاة التي تحبك لا تفضح نفسها بالهتاف وتوزيع القبلات في الهواء، بل تقف تنتظر مرورك وتحييك ببسمة خفرة حيية، وتنتظر كما قال أمير الشعراء: "بسمة وسلام وكلام وموعد فلقاء"، بمبادرتك أنت. وكان ابن شهيد الأندلسي أشطر منك عندما فهم أن الفتاة التي اعترضت طريقه تحاول التحرش به، فقال كأنه يتمم بيت شوقي:
"ومشت إليّ وقد ملكتها مشية العصفور نحو الثعلب
ترى بس هيج تمشى الحكاية ويّاهن والصياد الما عنده صبر ينصاد. قال طارق وقد فكر في صفقة رابحة: زين آني أروح للمعهد وأنت جيب كم وحدة، والتذبها (التي ترميها) آني آخذها. قلت له : ما يخالف، خوش اتفاقية، أنت روح وآني انزلك كشة منهن وأنت اتقاسمهن ويّا أصدقائك المصريين اللي أفتوك بجواز الحديث مع الإسرائيلي الغازي بسبب البنات. تريد أسويلك مثل ذاك الشبلاوي الذي طلب من قريبه في وزارة الخارجية تعيينه في السفارة العراقية في باريس. وما أن وصل باريس حتى بدأ "فـرة لحق نسوان" بشوارع باريس. وشاف واحدة شقراء أعجبته، مشى وراءها، دخلت مغازة فدخل وراءها، اشترت ملابس وأدوات تجميل وهو يدفع عن كل ما تشتريه ويحمل لها الأكياس عن طيب خاطر ويمني النفس بمغامرة على حساب الحكومة العراقية. ثم سار وراءها إلى البناية التي تقع فيها شقتها، أشارت إلى الطابق العاشر وقالت: أنا أسكن هناك، تهلل وجهه وقال: خير إنشاء الله، ترى راح إنحد السكينة! تناولت منه الأكياس وهي تبتسم له ابتسامة شكر وقالت: ميرسي بوكو شيغي، أورفوار! ودلفت بسرعة إلى المصعد وهي تلوح له شاكرة غباءه الكريم.

وقف مبهوتا وهو يحرك يده يمنة ويسرة ويقول والخيبة تأكل قلبه: لا انشا الله، خوش ليلة راح نقضيها وياج، أورفار أغاتي!. ألا تدري يا طارق أن بعض النسوان هنا مثل دليلة المحتالة في قصص ألف ليلة وليلة. روح حضر دروسك أحسن لك!

شاعت القصة بين جميع الطلبة في المعهد، وصار الطلاب العرب يتنافسون على صداقتي. ضجرت من ملاحقات طارق وهو يشير علي بصيد الفتيات اللواتي يخلبن لبه.

كنت جالسا في كافيتريا نادي إتحاد الطلبة العام مع فتاة جميلة ساحرة من مدينة مالمو بالسويد، كانت تدرس معي الأدب الإنكليزي في يونيفيرستي كوليج تعرفت عليّ حديثا، والغريب للغريب نسيب. وفجأة دخل طارق، فما أن رآها معي حتى تهلل وجهه وصاح ليلفت انتباها: يا هلا ابصديقي سامي، شلونك؟ واقترب ليجلس قربي ويفسد حديثي معها ولدعوتها فيما بعد لتناول الطعام معه. فكرت في طريقة للتخلص منه، قلت له: ها طارق، أشو ما شاء لله كرشك صار دبابة؟ ووضعت يدي على بطني مشيرا إلى حجم دبابته. ضحكت الصديقة الجديدة وهي تنظر إلى كرشه. غاضت البسمة الودودة من على شفتيه وإذا به يصيح بغضب صارخا: "ولك حسقققييييل، اشايف نفسك!"، وأعادني بثانية واحدة إلى أيام الطفولة في مدرسة السعدون. قلت له معاتبا: يابا، غير دنتشاقا وياك، بس وين صارت الصداقة؟ أشو تالي ما تالي طلعت الجيفة! استدار طارق بخجل غاضب وغادر المكان ولم يعد مرة أخرى إلى النادي.

ومن الطلبة الذين صاروا يهددون بالجولة التالية مع إسرائيل كان الطالب القبطي أنطون، قصيرا تدمع عيناه الجاحظتان الشديدتا الإحمرار ليل نهار بتأثير "السموج" (الضباب الإنكليزي المشبع بدخان مدافئ الفحم الحجري) الخانق بعد أن فرّ من رياح خماسين مصر الحارقة التي تحمل غبار الصحراء الغربية المقرحة للجفون. كنت واقفا مع أخي نتكلم باللهجة اليهودية البغدادية. أقبل علينا هذا الطالب وقال متحرشا:
- إسرائيل مش حتعيش أكثر من سنتين ثلاثة، إحنا بنحضر جيوشنا للجولة التانية.
- ونحن نمد لكم يد السلام.
- ليه! خافيين أندمر إسرائيل، ما تخافوش، بس حأنجيب إلكم سفن لتل- أبيب وحنرجع كل يهودي مطرح ما جاه، يهود أوروبا إلى أوروبا واليهود العرب إلى البلاد العربية.
- كثر خيرك يا بطل. ألا يوجد حل غير الدمار والذبح عندكم؟ أنت مسيحي وتدعي أن المسيحية هي دين التسامح والمحبة، راحت فين وصية المسيح اللي نسوها في أوروبا: من صفعك على خدك الأيسر أدر له خدك الأيمن؟
- العفو! العفو! ربنا يشهد! أبوي كان يؤللي: إبني لازم اتحب اليهود، ربنا المسيح منهم. أحنا بنحبكم، أنا بتكلم كده عشان المسلمين المتعصبين بتكلموا كده.
- وأنت تردد تهديداتهم مثل الببغاء. ترى إسرائيل تاخذ كل تهديد بمحمل الجد. فكروا بالسلام، وعلى الأرض السلام وفي الناس المسرة.
ومنذ ذلك النقاش كفّ عن التهديد بتوزيع سكان إسرائيل على الدول التي قدموا منها، ويبتسم لي بالخفاء.

ثم كانت الطامة الكبرى عندما أنتقل البروفيسور سارجنت المشرف على أطروحتي إلى جامعة كمبردج، ثم تلاه الأستاذ داوود كاون البريطاني (الذي كان قد أسلم وتزوج من مسلمة) وترك الإشراف على أطروحتي وسافر للتدريس في مدرسة شملان في لبنان. ألقيت مهمة الأشراف على الدكتور وليد عرفات، وذاك اليوم الإيهودي والمسلم صايرين مثل الحية والبطنج. حاول الدكتور وليد عرفات الدخول معي في جدل سياسي حول قضية فلسطين:
- يا مستر موريه، لم نعد نحن العرب فلاحين سـذ ّجا كما كنا في حرب نكبة 1948 فاليوم أصبحت لنا جيوش قوية وأسلحة وتحررنا من الاستعمار، وسنحل قضية فلسطين بحد السلاح!
- لا يا با، خلينا انخلص الدكتوراه بسلام، وين مدخلني أبهل جدل العقيم وأنت المشرف على أطروحتي، إحنا راح انحل هل مأساة الإنسانية بالكلام بينا؟ خلينا أنكمل الكتابة براس مرتاح، وبعد ما احصل على اللقب نتراجع!
وعندما عدت إلى لندن في عام 1970 تغير موقفه من إسرائيل وقال لي الدكتور وليد عرفات: إن إسرائيل أثبتت في حرب 1967 بأنها خلقت لتبقى ولذلك علينا أن نسعى إلى التعايش معها بسلام". قلت له: ما أنا من سنين أصيح وأقول بس المفاوضات تحل هل قضية، ولكن أمبيّن آني كنت "أصيح والهوا أيودي" (يذهب كلامي هباء)، هسه حسيت بعد أن أهدرت آلاف الدماء الزكية الشابة من الطرفين! رحم الله جميع الشهداء من الطرفين.

للراغبين الأطلاع على الحلقة السابقة:

https://algardenia.com/2014-04-04-19-52-20/fereboaliraq/40524-2019-06-18-07-29-54.html

  

إذاعة وتلفزيون‏



أفلام من الذاكرة

الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

670 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع