ناجي جواد الساعاتي و تراث بغداد

   

     ناجي جواد الساعاتي و تراث بغداد

  

    

في عام ١٩٧٥ بلغ عمر والدي المرحوم ناجي جواد الساعاتي ثلاث وخمسون عاما، قضى منها اكثر من أربعين عاما ما بين تعلم تصليح الساعات على يد عمه المرحوم عبد اللطيف جواد الساعاتي، ومساعدة أشقاءه الأكبر، المرحومين كاظم وإبراهيم ومهدي وفخري، في إدارة محلاتهم التجارية في سوق الكمرك او سوق الساعاتية ، قرب المدرسة المستنصرية. ثم خطا الخطوة الأجرأ والمتمثلة بمشاركته لابن عمه المرحوم عبد الجبار لطيف الساعاتي في افتتاح محل لهما في شارع الرشيد، الذي كان يمثل الشارع التجاري الرئيس وقبلة المتبضعين.

   

ثم استقل بعمله وافتتح محله الخاص به قرب ساحة الوثبة، او ما تعرف بساحة حافظ القاضي، في بداية الخمسينات. وتطورت وازدهرت أعماله التجارية حتى اصبح من اكبر تجار الساعات في العراق حتى تأميم التجارة الخارجية في السبعينات.

   

طوال حياته المهنية حرص والدي المرحوم ناجي جواد على جمع كمية من الساعات القديمة والنادرة، والتي كان يحتفظ بها ويعرضها في احدى اركان محله الكبير في شارع السعدون، وفِي العمارة التي بناها في الستينيات والتي عرفت باسمه، عمارة ناجي جواد.

وكان من بين تلك الساعات ساعة تعود الى المرحوم الملك فيصل الاول، واُخرى نقش عليها اسم المرحوم الملك غازي والتي كان يقدمها كهدايا للمتفوقين وساعات اخرى لمسؤولين كبار في الدولة العراقية حتى ذلك الوقت، لا بل وساعات لبعض الشخصيات الأجنبية. مع مجموعة كبيرة توضح تطور تقنيات صناعة الساعات الجيبية وساعات اليد والساعات الجدارية. وكان بعض المتخصصين من تجار (العنتيكات) او السلع القديمة الثمينة يحاولون إغراءه بأثمان كبيرة لكي يشتروا منه بعض هذه القطع النادرة، ولكنه كان يرفض وبإصرار. وحتى عندما حُرِمٓ من الاستيراد، الذي حُصِرٓ بالدولة، لم يقبل ان يفرط بهذه المجموعة من الساعات القديمة والنادرة.

  

وفِي عام ١٩٧٥، وبعد ان افتتح المتحف البغدادي (١٩٧٠)، من قبل أمانة بغداد وأصبحت له مكانة بين العراقيين، تألقت روح والدي البغدادية المعروفة وحبه الكبير لبغداد التي ولد وترعرع ودرس ونشر جهوده الأدبية فيها، و قام بحمل هذه المجموعة الاثرية التي جمعها على مدى عقود وأهداها للمتحف البغدادي، والذي قام بتخصيص ركن خاص لهذه المجموعة ووضع اسمه عليها. وهكذا ضرب ناجي جواد الساعاتي (رحمه الله) بذلك مثلا على إيثاره لجعل تراث بلاده ميسرا و متاحا للجميع، بدلا من ان يبقى مخزونا لديه فقط. ولما عاتبته على فعل ذلك بعد ان عدت من دراستي، وانه لا يوجد ما يضمن انه سيتم المحافظة على هذا التراث النادر. أجابني ان هذا واجب وطني وبغدادي يجب ان يحتذي به الجميع، وانه واثق بان العاملين على المتحف سيحافظون عليه وعلى ما معروض فيه.

بعد احداث ٢٠٠٣ تحققت مخاوفي، بعد ان تمت مهاجمة المتحف أسوة بالمتاحف والمكتبات التي تحوي النادر من تراث بغداد. وحاولت ان اعرف مصير هذه المجموعة، ولجأت الى اخي الوفي وصديق العمر المهندس عصام عبد الغفور الخانجي، الذي شغل منصب مدير عام التصميم الأساسي في أمانة بغداد حتى تقاعد، فقال لي ان الجواب عند اخينا وصديقنا الفنان (الرسام) علاء الشبلي (رحمه الله)، الذي كان يشغل منصب مدير المتحف البغدادي ، فذهبنا اليه ، وبمجرد ان رآنا المرحوم علاء في باب داره حتى ضحك ضحكته المعتادة وقال لي لا تقلق، فقبل ايام من العدوان قمت بجمع كل الساعات واخفيتها في خزانة امينة. وكم كانت سعادتي كبيرة عندما أرسل لي الأخ عصام قبل ايام صور المجموعة معروضة في المتحف البغدادي من جديد. و ترحمنا انا وهو على روح الصديق الفنان علاء الشبلي الذي يعود الفضل له في سلامة هذه المجموعة.

وفِي نموذج اخر على حرص المرحوم الوالد على ان يجعل تراث البلاد متيسرا للجميع للاطلاع عليه، اسمحوا لي ان انقل لكم مبادرة اخرى، و التي ومع الاسف كانت نتيجتها مغايرة تماما لمبادرته المتعلقة بمجموعة الساعات.

        

فعندما أعلن متحف الفن الحديث في الثمانينات عن رغبته في جمع لوحات الفنانين العراقيين الرواد، حتى بادر وبدون تردد بتقديم لوحة زيتية نادرة للفنان المرحوم جواد سليم ، رسمها لزوجته (زوجة والدي) المربية الفاضلة المرحومة سعاد نافع السراج قبل اقترانهما في بداية الخمسينيات. وكان يعلم جيدا ان هذه اللوحة تساوي ثروة كبيرة. كما قدم معها المخططات الأولية ( السكيجات) للوحة، والتي كانت بنفس القيمة النادرة فنيا وماديا. ولم تنفع كل محاولاتي لثنيه عن فعل ذلك. وكان رده نفس الرد عندما حاولت ان اجعله يتراجع عن اهداء الساعات. ولكن النتيجة هذه المرة كما ذكرت، كانت مختلفة، حيث ان اللوحة سرقت ضمن ما سرق من المتحف ومن مركز صدام للفنون بعد احتلال ٢٠٠٣. ولا نعلم عن مصيرها، وأين استقرت، ومن هو هاوي التحف الذي اقتناها واحتفظ بها. وبهذا حُرِمٓ العراق وحُرِمنا نحن عائلة المرحوم ناجي جواد من هذه التحفة الفنية النادرة. اما المرحوم الوالد فظل حتى اخر ايام حياته يصر على ان مافعله هو عين الصواب؟ وان ما قام به هو واجب وطني. هكذا كان جيل ابائنا وهكذا كان حبهم لوطنهم و لبغداد.

   

  

إذاعة وتلفزيون‏



أفلام من الذاكرة

الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

1022 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع