ولادة من رحم أم ميتة...

  

            ولادة من رحم أم ميتة......

                   

   

             

لم تكن غرفة الاعدام بعيدة عن الزنزانة التي يقيم فيها سجناء سياسيون في الجهة المقابلة لموقعها الغربي فأصبح من يمر اليها، ومثله الواقف حول مشنقتها المنصوبة لجز الرؤوس مرصودا منهم في حال الوقوف، ومد البصر الى الاعلى بزاوية تقترب من الخمسين.

الجزارون يتحركون دون تمييز بين أجسادهم الممتلئة في ردائها الزيتوني المعروف، الأصوات الباكية نحيبا تُسمع دون تمييز بين مصادرها الآتية من قريب، الصراخات التي يطلقها المعذبون في لحظات وضع الحبل المدلى في الأعناق بين الحين والحين هي القابلة للتمييز من قبلهم نزلاء أعتادوا التوجه بانتباههم صوب المكان المخصص لقبض الارواح التائهة يوم الاحد من كل أسبوع بعدّهِ يوم القصاص أو التنفيذ، مصطلح شائع بين أهل المكان سجانون ومسجونون.
ينتظر غالبيتهم هذا اليوم ليجلدون ذوات أوهنها التعذيب، يشغلون عقول فرغت خلاياها من خزين الذاكرة المُنَوعْ في السجن المعزول عن العراقيين وباقي شعوب حسبت على العالم الكبير، كأنهم مجبولون على المشاهدة والسماع أو قد يكونون من بين الذين أدمنوا على إحتياجها للتعامل مع الوقت الفراغ.

  

يحسب السيد صالح المركون في الزنزانة الأخيرة أولئك الضحايا المارين بلباسهم البرتقالي الممهور بأحكام الاعدام، يصوغ من عنده تهم لكل منهم،

        

يتخيل محاكمهم صورية لا تختلف كثيرا عن محاكمته وباقي الزملاء قبل سنتين في بناية الحاكمية التابعة الى جهاز المخابرات، يضع من خياله رئيسا لكل واحدة منها كذلك حزبي كبير، ومع هذا لا يتخيل له درجة مثل التي أمتلكها رئيس محكمته السيد وسيم حداد عضوا في القيادة القومية للحزب، ولا يتخيل الأعضاء الذين يوقعون على الاحكام المكتوبة مسبقا من الجهات العليا مثل أعضاء محكمته كبار مسؤولي القيادة القطرية، يراقبهم في الجوار رئيس جهاز

      

المخابرات المنصّب حديثا برزان ابراهيم الحسن مثل صقر لا يختلج له جفن.
تعيده الذاكرة الى الدقائق الخمسة التي أستغرقتها محاكمته والسؤالين المشهورين:
هل لديك شيئا تضيفه؟.
هل أنت بريئ أم مذنب؟.
يتوقف عن التفكير، يتنبه الى مرور جاسب من أمام الزنزانة بعصاه المرصعة بمسامير اللسع الآدمي، يخشى اثارة انتباهه عند الاستمرار في الغوص بالتفكير، يجلس القرفصاء في الزاوية القريبة، كاتما الانفاس، خشية تقديمه وجبة تعذيب صباحي أعتاد جاسب اشتهائها قبل التعداد.
الوحش الذي أخذته غفوة الفجر بسبب أنتظار مفعول حبة ثاليوم أعطاها الى السجين عبد الواحد لاماتته في ساعة متأخرة من الليل، مر مستعجلا يحث الخطى بغية اللحاق بحفلة اعدام لم يتعود التأخر عنها من قبل، لأنه يحبها مهنة تُشبع في نفسه غريزة الأنتقام من البشر، حب أو بالمعنى الأدق رغبة تدفعه لان يتبرع في البقاء خفيرا ليلة السبت على الاحد أملا في أن يحضى بشرف السحب الفوري للعصا واسقاط الضحية في هوة الموت، جسدٌ يتحرك بردود فعل الجهاز العصبي بعد أنتهاء فاعلية العقل بقليل.
تمر الزوبعة أو يمر جاسب دون الاكتراث لوضع المساجين، مما شجع صالح على معاودة التفكير وصياغة الخيالات التي تخفف وحشة السجن وعزلته وآثار تعذيب ازدادت شدتها بعد أنقضاء السنتين نزيلا في هذا السجن الرهيب، وعندما وجد متسعاً من الوقت لمزيد من الغوص في عالم الافتراض أندفع في خيالاته بعيدا عن الزنزانة وتهم الاعدام وعذابات الروح حتى وصل ذوي الضحايا الساكنين بعيدا عن أسواره المنيعة.
صنع له وصلا في الخيال يمده اليهم.
يكلمهم كذلك في الخيال.
يحتج أمامهم على فبركة التهم الموجهة.
يذكّر الزوجة التي صورها حبيبة مخلصة بأن حبيبها قد نطق اسمها على لسانه قبل انقطاع النفس خنقا بالحبل الغليض.
يواسي الأم التي رسم لها في العقل موقفا تلطم خدها المتهدل، يشيد بولدها بطلا راح شهيد.
تَعلَّمَ التلاعب في الخيال، وتعلّمَ صنع الوصلات التي يمدها الى من يريد، فالعائلة اسبقية أولى لما يريد، أدمن التخاطب مع أفرادها من هذا السبيل الافتراضي، وأدمن العيش خياليا معها في الساعات التي يأمره فيها جاسب الجلوس بوضع القرفصاء في الزاوية البعيدة للزنزانة، وينساه جالسا هكذا حتى الصباح.

                         

مناجاة في الخيال تستغرق جل الوقت، يتصور أشكال البنات يكبرن في ذاك البيت بمدينة اليرموك، ينصح أحياناً، يوجه أحياناً، يُقَبِلُ وجنات يحسبها متوردة أحيانا أخرى، يعود بعدها الى الانزواء يعصره الالم على هؤلاء الضحايا التي تساق الى المشنقة المنصوبة خصيصا للسياسيين الموسومين بخيانة الحزب والثورة، حسبما روى عن بعض تفاصيلها السجان كريم في أوقات هذياناته مع السجين زيد الذي استطاع بذكاءه واجتماعيته المعهودة تكوين علاقة شخصية معه تختلف طبيعتها وكمية الحقد والتشفي في داخلها عن الآخرين الى المستوى الذي يتبادلان فيه الحديث وبعض الاسرار عند تواجد زيد في المطبخ لتوزيع الطعام تنفيذا للمسؤولية التي أوكلت اليه.

                  

يَلحقُ جاسب بالركب المتجه لاحياء حفلة الاعدام، إمرأة ترتدي البدلة البرتقالية لا تقوى سيقانها على حمل جسدها المتورم من الوسط، يجرها اثنان بلباس زيتوني كأنها أصيبت بشلل الرعاش، خلفها بنصف متر رجل يرتدي ذات البدلة يسير باعتدال رغم السلسلة التي تكبل ساقاه، ومن بعدهم جاسب يحاول وضع أزرار بدلته الزيتوني في أماكنها اكمالا لقيافته قبل جر العصا وازهاق الروح التي لا يعرف في الأصل صحة التهم الموجهة لها.
يجر العصا يقبض روح الرجل أولا، يرتفع صوت المرأة نواح تعقبه صرخة سبقت جر العصا ثانية، تناقلت الجدران الاسمنتية صداها المتسرب خارجا، أختلطت بعدها الاصوات كأن شيئا غير مالوف قد حدث.
تنتهي حفلة هذا اليوم يتفرق الخفراء المكلفون باتمام المهمة  كل باتجاه العمل المخصص له في قائمة التوزيع. يعود جاسب الى صومعته ساعيا الفوز بساعة نوم اضافية. يتجه كريم الى مكانه مشرفا على خطوات التهذيب أو التعذيب حسب البرنامج الموضوع من خبراء الجهاز، يتقدم منه زيد مستفسرا عن الصرخة المدوية قبل قليل وعن شخصين سيقا سوية الى غرفة الموت، يجيبه دون توجس:  
انهما زوجان شيوعيان قاتلا الحكومة في صفوف الانصار بشمال العراق، القيَّ القبض عليهما في السيطرة العسكرية بمدينة الخالص، يقال أنهما مكلفان بإيصال تعليمات شفوية الى قواعد الحزب الشيوعي في بغداد، يدعيان تركهما العمل الحزبي والتوجه الى بغداد للعمل والعيش مثل غيرهم من أهل العراق. صدر الحكم بالاعدام شنقا حتى الموت، نفذ قبل قليل.
يستمر كريم في الاسترسال، الصخب الذي حصل واختلاط الاصوات يتعلق بكون المتهمة حامل في شهرها الاخير، توسلت تأجيل التنفيذ الى حين الولادة، وعندما رفض رئيس الجهاز التأجيل، وعلق على الطلب (الدولة ليست بحاجة الى خائن جديد). قدمت طلبا آخرا باجراء عملية قيصرية لاخراج الطفل البريئ قبل التنفيذ، لم تحصل الموافقة أيضا.
التفاصيل تتوالى من فم يتعاطف صاحبه مع الضحية، يخشى إثارة الانتباه، يخاف جماعته القريبين وان كان محسوبا عليهم طاقم تم أختياره بامعان لاغراض التعذيب. يتوقف قليلا، يلتفت قليلا، يحاول زيد سحبه لاتمام ما بدأه من كلام  باستخدم التعجب وسيلة استثارة تدفع للاستمرار في الكلام.
ميادة تقاوم الصعود الى منصة الاعدام، تيقنت من استحالة التأخير ولو دقائق معدودات، فتحت ساقيها، صرخت بشدة، كأنها تريد الدخول في دورة المخاض، مازالت تتأمل تكحيل عينيها بوليد ينزل حيا قبل الممات. لم يمهلها جاسب المهووس بردود فعل الجسم ارتعاشا بعد التفاف الحبل وقطع الانفاس، لم يلب رغبتها الاخيرة قبل التنفيذ. سحب العصا، عَلَتْ وجهه العبوس أبتسامة تَشَفي باهتة، كمن حصل على حاجة أنتظرها طويلا. تدلى جسدها العشريني يرتجف بشدة وفي داخله صرخة احتجاج مكتومة، تباعدت أرجلها، وكأنها مازالت تتحكم بفتحهما كما هي الحاجة أثناء الولادة التقليدية، انزلق الطفل من بين الفخذين، مطلقا صرخة ميلاد الى عالم ظالم.
بهت الحضور عجبا من اصرار الضحية على اتمام الولادة ميتةً، أختلفوا على تقرير مصير الطفل الوليد.
يتقدم جاسب خطوة باتجاه الطفل راقدا على الارض، يرى ضرورة تركه على ذات الحال يموت جنب والدته الميتة يؤيده الامامي المنتدب لتلاوة الشهادة قبل الموت، في الوقت الذي يرى الطبيب وآخرين عكس هذا:
العقاب موجه الى الام الخائنة، ولا علاقة للمولود بما ارتكبته من اثم لعين.
اماتته مسؤولية قد تغضب القادة الكبار.
قول أراد منه التأثير على جاسب للحيلولة دون اماتة المولود عمدا.
نقاش لم يدم طويلا، حيث الاتفاق على ابقاء الطفل عند طرف ثالث لحين الاستفسار عن مصيره من رئيس الجهاز.
السيدة رضية عاملة التنظيف هي الطرف الثالث، لقد تجاوزت الاربعين من العمر ولم تنجب طفلا من زوجها العقيم، سمعت تفاصيل النقاش أثناء غسل الارضية التي غطتها دماء الولادة الآتية من جثة توقفت عن الارتجاف. عرضت أخذ الطفل، تسجيله باسم زوج ما فتئ يصلي لمولود ولو بالتبني. حلٌ مقبول وافق جاسب وأطلق عليه اسما من عنده (زغيّر) على أن تتركه يموت اذا ما جاء الرفض من قبل الجهاز.
اللفافة من بقايا ملابس تركتها ميادة في الامانات، غسلت جسمه في الحمام المخصص للمساجين أزالت الطبقة الدهنية الجينية، لفتهُ بتلك البقايا، استأذنت الذهاب الى البيت في منطقة الحصوة قريبا من أبو غريب، كأن الحياة عادت اليها، تفكر بالروح التي جاءت من أخرى زهقت تواً، حزنت مع نفسها على الأم التي لم تر مولودها في لحظة الوفاة، تمسكت به إبناً كأنها ولدته فعلا، سجلته بإسم (وليد) لعدم اقتناعها بالتسمية التي أرادها جاسب يوم ولادته من رحم الأم الميتة.       

  

إذاعة وتلفزيون‏



أفلام من الذاكرة

الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

1037 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع