مناجاةُ الرسولِ الكريم

 د.عبد يونس لافي

مناجاةُ الرسولِ الكريم

كانَ يومًا مشهودًا،

صباحُهُ، أوَّلُ صَباحٍ فريدٍ أشْهدُ في حياتي،
ذلك هو اليومُ الأوَّلُ من شهرِ آذار، من عام 2018.
أصِلُ مطارَ المدينةِ المنوَّرةِ، قادمًا من اسْطنبول.
يأخذُني سائقُ أجرةٍ إلى مَطْرحِ إقامتي في فُندُقِ الأنصار.
تلوحُ من بعيدٍ، منائِرُ عاليةٌ، وأضواءٌ تأخذُ بالبَصَر.


هنا شَعَرْتُ بشئٍ غريبٍ،
لا أستطيعُ مهما أُوتيْتُ من بيانٍ أنْ أصِفَهُ،
وَلَرُبَّما قرأ السائقُ ما لاحَ على وجهي،
ولم أكُنْ بالقادر على أنْ أُخْفيه.
التفتَ إلَيَّ وقال:
إنه المسجدُ النبويُّ، لِأدْرِكَ السِّر.


أصِلُ الفُندُق...
أتركُ حقائبي دون أن أفتحَها،
وأُغادِرُ على عجلٍ غرفَتي،
فهناك شأنٌ آخرُ يُشْغِلُني.
لا يبعُدُ الفُندُقُ عن المسجدِ إلاّ القليلُ من الأمتار.
أُقابلُ شابًّا فأسألُهُ إن كان من المدينةِ، ليجيبَني بالنفي،
إنه من الرياض.


قلت له:
دُلَّني بالله عليك، أين مقامُ النبيِّ؟
فأرشدني مشيرًا إليْهِ،
وإذا بي دون سابقٍ، أجْهَشُ بالْبُكاء،
وتستمرُّ نوبةُ البكاءِ طويلًا،
فما كان من الشابِّ إلّا أن يُمْسِكَ بي مُشْفِقًا،
وكأنَّه لم يشهَدْ مثلَ هذا الموقفِ من ذي قبل.


قال: أتُريدُ أن أبقى معك؟
قلت لا حاجةَ فإني الآن ضيفٌ عند كريم.
أدْركْتُ صلاةَ الفجر،
فكانت أوَّلَ صلاةٍ أُؤدّيها في المدينةِ،
لِأسْرعَ إلى الروضَةِ الشريفة.


أجلسُ عند قبرِ الحبيب،
آهٍ هل حقًّا أني لا أبْعُدُ عن النبي إلاّ بضعةُ أقدام؟
انها النشوةُ لا تُضاهيها نشوة!
لا تلوموني فإني،
عن قُرْبٍ، شَمَمْتُ عَبَقَ النُّبُوَّةِ،
وعِشْتُ الصَّفاءَ في أبْهى صُورِه!


يا سيدي، لأني اشْتَقْتُ إليك،
يا سيدي، شَدَدْتُ رِحالي إليكِ،
يا سيدي، أقفُ الآن بين يديْك،
وجلالُك يَحولُ دون ألنَّظرِ إليْك،
لكني أُبْصِرُك الآن،
جسدًا يتحَرَّكُ، وروحًا تنبُض.


يا سيدي، لو لم يقُلِ اللهُ، انك مَيِّتٌ
ما تصوَّرْت،
يا سيدي،
وإنْ كنتُ قد رأيتُكَ مرّاتٍ في نومي،
فأنا الآن يقظانٌ أراك!


ياسيدي تزولُ من أمامي كلُّ حَداثةٍ،
أضيفَتْ إلى مسجدِك،
فلا أفرِشَةَ،
ولا قِبابَ،
ولا حُرّاسَ،
ولا أبوابْ.


تزولُ في لحظةٍ كلُّ نقوشِ المِنْبَرِ،
بل كلُّ المِنْبَرِ،
فلا يبقى أمامي إلاّ جِذْعُ نَخْلَة!
ما أبْرَكَهُ من جِذْعٍ كان ركيزةَ دولة!


يتداعى اليك البُسَطاءُ من الناسِ.....
يتعلَّمون،
لفعلِ الخيرِ ......
يتسابقون!
ها انذا أراهُم بهدوءٍ،
إلى مجلِسِكَ يدْلِفون،
أراك تبسُطُ الابْتسامَةَ لهم فُرُشًا،
فيتحلَّقونَ حولك كأنَّ على رؤوسِهُمُ الطيرَ،
إليك يستمعون،
وللحكمةِ يتلَقَّفون.


يا لكَ من نَبِيّْ!
يا لكَ من صَفِيّْ!
يا لكَ من شاهدْ!
يا لكَ من مُبَشِّرْ!
يا لكَ من نذيرْ!
يا لهم من قومٍ صاحَبوك،
يالهم من صَحْبٍ أحبّوا اللهَ،
فاتَّبَعوك.


يا سيدي، نعم انا في ذات المسجدِ،
مسجدِك الأوَّلِ،
هذا الذي صلَّيْتُ فيه عندما كنتُ صَبِيّا،
صلَّيْتُ نعم، انا صلَّيْتُ وكنت حينها،
أُصَلّي مع الكبارِ تارةً،
واخرى كنت أُصَلّي مع الصغار.
صلَّيْتُ مع ابْن عُمَيْرٍ والْخَبّاب،
وأُسامةَ وعُمَيْرٍ بنِ أبي وقّاصٍ،
كما صلَّيْتُ مع سَعْدٍ ومُعاذٍ وابْنِ جُندُبَ سَمُرَة،
وآخرين آخرين من شيبٍ وشبابْ،
وكنت أُلاحِقُ في النَّظرةِ تتْبعُها نَظَراتْ
بِلالًا حين يُؤذِّنْ،
وابْنَ عبّاسٍ يتلقَّفُ منك الكلماتْ،
وأبا ذرٍّ هكذا أتَذَكَّرُهُ،
يجلسُ جِلْسَةَ القُرْفُصاءْ.


كنت أرتاحُ لهم جميعًا،
وكان قلبي يخفِقُ لهم جميعًا،
لأنهم كانوا نُجومًا تَلْتَفُّ حولك،
لكني لا أكتمُ، كنت أهابُ البعضَ،
وإن حَنَوْا عليَّ مرّاتٍ وقبَّلوني،
رأفةً بي وعطفًا عليَّ، فهمُ الكِبارْ.


نعم نعم انا الآن في ذلك المسجدِ الصغير،
مسجدٍ بُنِيَ من طينٍ وجَريدٍ،
فقاد إلى أن تُبنى عشراتُ الآلافِ
من المساجدِ عِمْلاقةً حول العالمْ،
لأنَّ من بنى ذلك المسجدَ الصغيرَ رجالٌ،
عرفوا المسجدَ عملًا،
وعرفوا المسجدَ إشْعاعًا يُضئ.


عرفوا المسجدَ تقوًى وخشوعًا وصَفاءْ.
عرفوا المسجدَ شعورًا بأوْجاعِ الفقراءْ.
عرفوهُ سلاماً للجميع،
انسانًا وحيوانًا وجمادًا بلا اسْتِثْناءْ.
هم اصحابُكَ يا سيدي يا سيدَ الأنبياءْ.
فسلامٌ عليهم،
سلامٌ عليك يا سيدَ الحُكَماءْ.
سلامٌ عليكم جميعًا من ربِّ السماءْ.

أطفال الگاردينيا

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

859 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع