وتكحّلَت عينانا بكتاب عن "نجدة فتحي صفوة قِيردار"

                                         

                       د. صبحي ناظم توفيق

   

   وتكحّلَت عينانا بكتاب عن "نجدة فتحي صفوة قِيردار"

بادئ ذي بدء يؤسفني القول أننا -نحن تركمان العراق، أسوةً بعموم العراقيين- قلّما نُبَجِّل شخوصاً من قومنا ونستذكر مسيرتهم وأعمالهم بكل إجلال وإعتزاز وإحترام ونتخذهم رموزاً نزهو بإستذكارهم ومنجزاتهم.

وقد يكون من بين أبرز البارزين أستاذنا الكبير "نجدة فتحي صفوة قِيردار" مُمتَلِك القلم الرائع، والدبلوماسي المتدرج بمسلكه والبارز، والأديب البارع بكتاباته، والمؤرخ الرصين في مؤلّفاته، والوثائقي الـمُجيد للعديد من اللغات والمحسود على إمكاناته وإنجازاته وإصداراته.


وأخيراً صدر الكتاب الموسوم:- "الأدب والدبلوماسية في حياة نجدة فتحي صفوة"، وقد ألّفه شقيقه الأصغر الأستاذ "نَجيد فتحي صفوة" محتوياً (463) صفحة إحتوت عرضاً وافياً لشخصية المرحوم "صفوة"، وإنعكاسها على حياته الدراسية وميله نحو الأدب وإمتهانه المسلك الدبلوماسي لدى وزارة الخارجية العراقية.

وقبل صدور الكتاب لم يَدُر ببالي يوماً أن يكلـّفني أخي الكبير وأستاذي الحبيب "نجيد فتحي صفوة قيردار" صاحب القلم البديع والأدب الرفيع وأناملَ من عقيق، لأراجع له مسوّدة كتاب أَعَدّه عن أخيه الـ((عملاق)) الذي يُشار له بالبنان ويرنّ إسمه في مسامع الوجدان كلـّما أُستـُجلِبَ ذكره في تأريخ العراق المعاصر بين الأنام.

"نجدة فتحي صفوة" الذي طالما حلمتُ أن أجلس قبالته وأتشرف بصحبته ولو لساعات، فأستلهم من تجاربه ودروس حياته الدبلوماسية والأدبية والتأريخية والوثائقية والإجتماعية والثقافية، وكيف توفـّقَ وقتما خاضها بلا تردد وبَرهَنَ جدارةً في أتونها، وألّف كُتُباً يعتمدها طلاب الدراسات العليا بأقسام التأريخ المعاصر والعلوم السياسية ومعاهد الدراسات الدبلوماسية، ناهيك عن متابعي التأريخ المعاصر للعراق والأقطار العربية والإسلامية، ولكن البُعد الجغرافي وإختلاف وظيفتينا جعلا أحلامي في منأىً عن التحقيق... وكم تأثرتُ وقتما علمتُ أن "نجدة فتحي صفوة" قد أقام مؤخراً في "عمّان" ولغاية رحيله يوم (18/12/2013)، في حين كان كل تصوري أنه مستقرٌّ في "لندن"... فقد كان بمقدوري الوصول إليه في العاصمة الأردنية بكل يُسر.
لقد إستشعرتُ بِهَمّ تراكم فوق همّ على صدري، فهكذا رجال من ذوي الجذور والأصول ممّن يتخلـّقون بسموّ الأخلاق والآداب لا يُرَدُّ لهم طلب، بل يُؤخذ بمثابة أمر يستوجب تنفيذه... فرغم صدور (19) عسكري وتأريخي ووثائقي تحمل إسمي -بفضل الله سبحانه- وإشرافي على عشرات البحوث للدراسات الجامعية والعليا ومناقشتها، إلاّ أني ما زلتُ أجد نفسي لا أرقى إلى مستوىً يؤهلني لمراجعة كتاب ألـّفه شقيقه الأصغر الأستاذ "نجيد" عن العملاق "نجدة"... فترددت في صميمي ووددتُ الإعتذار -بكل إستحياء- تحت طائل معضلة أعانيها في كِلتا عينَيَّ جراء دموع تنهمر لإنسداد قناتي الدموع النازلتين منهما نحو الأنف والبلعوم.
ولكن مجرد التنويه لم يفدني حتى وجدتُ الأستاذ "نجيد" ضيف شرف في عقر داري يتوسط جلسة عائلية، وبين يديه مسودة كتابه المطبوعة بكل أناقة تضم (339) صفحة من الحجم الكبير، فإستشعرتُ بفأسه على رأسي فلا مناصّ سوى قبول واقع الحال، قبل أن يوضّح بأن لا أراجع سوى بضع عشرات من الصفحات التي سطـّرها بقلمه من دون التقرّب لمقالات العملاق "نجدة".
خضتُ هذا المخاض العسير، وحاولتُ التنويه للمرة الثانية، عسى ولعلّ، وتعمدتُ أن أشير بقلمي الأحمر أخطاءً طبعية ولغويةً نزولاً لمواقع الفوارز والنقاط والفواصل، فضلاً عن هفوات السبك والربط لـ(27) صفحة، فصورتها وبعثتُها إلى مقامه ليرى مدى ما تُرهِقني هذا التكليف، راجياً منه إعادة الطبع ليتلافى ما فاته... فما كان منه إلاّ وقد شكرني بحرارة مُبدياً إستغرابه عن تعمّقي بهذه التفاصيل ومدى جديّتي في هذا الشأن، وكأنه يدفعني لإستكمال ما بدأت، فلم أجد بُدّاً لأكمّل المخاض.
قررتُ إفراغ ذاتي من أي إلتزام أستطيع التنصّل منه، ودخلتُ في المتون حتى تحسستُ بندم عميق نحو كل تصرّف أو محاولة بدرت مني، حينما وجدتُ الكتاب من أبدع ما يكون في كل صفحاته لغةً وسبكاً ومعلوماتٍ وتأريخاً ومخاضاتٍ وتجاربَ حياة، حتى سعدتُ بكامل قواي القلبية والعقلية والنفسية في معايشتي لـ"نجدة فتحي صفوة" لأيام كان فيها صبياً يساعد أباه النحّات ذائع الصيت، قبل أن يقتحم حياته الـمُتخمة بأحداث لم يَفُته تسطيرها وسط مذكراته منذ كان فتىً يافعاً في "بغداد" وشاباً بمقتبل العمر في كليتي الطب والحقوق معاً!!! قبل أن يُعيّن في المسلك الدبلوماسي فيُسعِفه حسن تصرّف رجل دولة -كان من بين العشرات من رجال دولة العراق الملكي المقتدرين والوطنيين- إسمه "توفيق السويدي" بإنتقاد أدائه وسط حفل عام، فعِوضاً عن عقابه أو توبيخه فقد أصدر أمره الوزاري عام (1946) بنقل الموظف المستجد "نجدة" المعيّن قبل بضعة أشهر فحسب إلى "لندن" عاصمة "بريطانيا العظمى" المتحكمة بمعظم أمور العالم، حيث تفتَّحت أمامه آفاق المستقبل مُشَمِّراً ساعده عازماً على صبّ عرق جبينه كي يبرز في كل خطوة يخطوها، فيُعجَب به كل رؤسائه الذين عمل تحت إمرتهم.
خلال مراجعتي لمسودة هذا الكتاب، وجدتُ ذاتي وكأني عدتُ إلى صباي في المرحلتين المتوسطة والثانوية عند التمتع بالعطلة الصيفية، وقتما كنتُ أنسى مواقيت الغداء والعشاء وضرورات النوم -رغم صيحات والدتي- حتى أستكمل رواية بوليسية وجاسوسية لـ"آرثر كونان دويل" أو "آكاثا كريستي"... فما أن بلغتُ ربع المسودة حتى إلتصقتُ بمكتبتي المتواضعة، فنسيتُ تناول طعام الغداء والعشاء -رغم صيحات زوجتي- والخلود للنوم مع منتصف الليل، كوني متعايشاً مع شخص "نجدة فتحي صفوة" في حلـّه وترحاله، بحيث لـمّا إنتهيتُ من "لندن" وعلاقاته الوطيدة مع "الأمير زيد بن الحسين"، حتى إشتقتُ لـ"عَمّان" وصلاته مع "الملك عبدالله الأول"، ثم صاحبتُه إلى "باريس" فـ"القاهرة" في عهديها الملكي وبعد الإنقلاب، ثم إلى "آنقرة"، وكنتُ برفقته في "واشنطن" فـ"موسكو" ثم "لـَنين غراد/بطرسبورغ" حتى عدتُ معه عام (1966) إلى وزارة الخارجية في "بغداد"، مستغرباً عنفوانَه لدى تقديم إستقالته سنة (1967) من منصبه الرفيع الذي يتمناه معظم المقتدرين-النظيفين، ناهيك عن المنافقين، لمجرد عدم رضاه من تصرف ((وزير أمّي)) -حسب نظرته- لا يفقه شيئاً في السياسة الخارجية والمجالات الدبلوماسية، حتى تفرّغتُ معه عند رجوعه إلى "لندن" حيث إستقر متفرغاً للبحث الدؤوب عن الوثائق البريطانية المكشوف عنها وتعريبها وكتابة سِيَر شخصيات ذوي صيت وتأليف الكتب والخوض في بحوث ومقالات ذات ثقل نشرت وسط صحف ومجلات ودوريات مرموقة.
وبإنقضاء صفحات الكتاب إستنبطتُ أن "نجدة فتحي صفوة" لم يكن بَشَراً سوياً، فقد بان نبوغه منذ الصغر وتعاظم في صباه وتعالى خلال سنوات فتوّته، وكان لوالده الأستاذ "فتحي صفوة" -رائد النحت في العراق ومعلـّمه الأول لدى معهد الفنون الجميلة- دور ذو ثقل في دفع نجله الأكبر نحو الأعالي... ولكن "نجدة" بمؤهلاته الأخاذة إستطاع شق طريق حياته وقتما فضّلَ أن يترك الدراسة في كلية الطب ويستقر في كلية الحقوق، وأضحى ما بعد الدوام مدرساً للغة العربية لدى مؤسسة تعليمية راقية بمستوى "كلية بغداد" ومقدم برنامج تأريخي يومي وسط حيتان إستحوذت بجدارة على "دار الإذاعة العراقية"، ثم خطيباً رائعاً هنا وهناك، وصاحب وشائج طيبة مع العديد من أبرز مثقفي العراق وشعرائه وأدبائه وأصحاب دواوينه في "بغداد"، حتى تخرّج حاملاً "ليسانس/بكالوريوس" في القانون ليتم تعيينه سراعاً في السلك الدبلوماسي الذي أثبت فيه توفيقاً مشهوداً -كما ذكرناه- متشبثاً بالكتابة في أوقاته الخاصة، مسجّلاً ذكرياته اليومية المفصلة عن كل ما إستجلب نظره من أحداث مأساوية وطريفة وتصرفات متنوعة لشخصيات مختلفة، حتى غدت بإنقضاء الأعوام في مصاف مصادر مرموقة ومراجع لا يستغنى عنها، والتي أفادته -وسواه من المؤرخين والمتابعين والكُـتاب- كثيراً في تأليف كتب وكتابة سِيَر وتحقيق مذكّرات وإعداد بحوث ودراسات ومقالات وإلقاء محاضرات في أروقة أدبية وتأريخية وسياسية وإجتماعية وثقافية رفيعة.
لقد تلمّستُ "نجدة"، سواء بمسلكه الوظيفي أو في خضمّ حياته اليومية، صاحب مُخّ ومُخَيخ أخّاذين لا ينسى بتشغيلهما شيئاً، فلا يَفـُته تسجيل واقعة ما ولو كانت بسيطة... وقد حمَلا في جنباتهما أخلاقاً سامية كانت أساس إلزامِه كي يبدو حريصاً في أداء وظائفه، دقيقاً للغاية في مواعيده، ملتزِماً بعهوده، محققاً لوعوده، مترفعاً عن الماديات والتزلّف والنفاق، معتزاً بشخصه ومؤهلاته، ما جعله محطّ إحترام وإجلال القاصي والداني من رؤساء ومرؤوسين.
أما قلمه فقد كان يسير بموازاة دماغه الرصين، فما أن تمسكه أنامله حتى يُفرّغ ما ترسّخ في جنباته بكل ما أوتيَ من دقة وسلاسة وبعد بصيرة... وقد شبّهتـُه في مثل هذه المواقف -التي تحوّلت إلى عادة شبه يومية- بولادة جنين لا بد أن يودّع مكمَنـَه في ساعة محددة، وإلاّ تعرّض لمعضلات التأخّر ومصاعب أخطر، ولذلك حرص "نجدة" طيلة حياته أن لا يقاطعه كائناً من يكون ما دام غارقاً في التسطير، حتى يضع قلمه جانباً ليستمتع بشيء من الراحة قبل أن يعود إليه ثانية وثالثة.
ومن دون أن أتقابل معه أو أرى شخصه سوى في الصور، فقد تلمّسته بتقويم كتاباته وما سطّره الأستاذ "نجيد" والعشرات من الأدباء والمفكرين والمؤرخين عنه، فتراءى لي "نجدة فتحي صفوة":- غاية في الذكاء، جديراً بما أنجزه وأُشْتـُهِرَ به وحققه بعرق جبينه وأنامله ودماغه ورؤاه، سامي الأخلاق، بديع الصفات، محبوباً، متفوّقاً، صاحب منطق، محترماً، وَدوداً، إشتهر بالأناقة في مرتدياته، دقيق المواعيد، مُجِيد الإنصات، سَلِسَ الكلام، مُمتِع الحديث، حاضر البديهة، حَسَنَ المَعشر، دَمِثَ الأخلاق، كريم النفس عزيزها، معتدل الآراء، صائب القرارات، هادئ الأعصاب، ميالاً إلى المزاح غير الجارح، حازماً في الشدائد وحاسِماً متى ما تطلّب الأمر ذلك، لم تأخذه في قول الحقّ لَومَة لائم، غزير العلم، بديع الذاكرة، متابعاً للأحداث المعاصرة ووقائع التأريخ، فاضلاً، متواضعاً، مُدرِكاً لمكامن الأمور، مُقدِّراً للمواقف، مُؤمِناً بأن لكل مقام مَقال، مثقّفاً لا يُضاهى ولا يُجارى، ضالِعاً باللغات العربية والإنكليزية والتركية بشكل يُبْهِرُ سامعيها إلى جانب بعض الفرنسية والروسية، مستحضِراً على طرف لسانه الفصيح المئات من الحِكَم والمَواعظ إلى جانب النكات والمقالب، زاهداً بأمور الدنيا، نظيف اليد، عزيز النفس، مترفّعاً عن النفاق والتزلّف والمادّيات... فلذلك -ولأسباب عديدة أخرى- أجَلَّه الجميع صغاراً وكباراً، طلاّب علم وأساتذة عظاماً، محترمينه عن قناعة متكأكئين حوله محيطينه به مستأنسين لحسن إستقباله ببشاشته المعهودة، ليس من أجل مصلحة بل تقرّباً إلى ذاته ومواصلةً لصداقته وتمتّعاً بصحبته وإستمتاعاً لأحاديثه المفعمة بالحكمة والموعظة الحسنة والنصح والإرشاد ودروس الماضي والتأريخ المعاصر.
وأخيراً يؤسفني أن أعيد القول مثلما بدأت، وأكرر أننا -نحن العراقيون- قلّما نُبَجِّل شخوصاً يشتهرون ويتبوّأون مكانات عالية في مجالاتهم المتنوعة، أو نمجّد ولو قليلاً من يجاهد -حسب رؤاه- لإعلاء شأن العراق الذي نفتخر بإنتمائنا إليه، فنستذكر بكل إجلال وإعتزاز وإحترام أعمالهم ومنجزاتهم، ونتخذهم رموزاً نزهو بهم وبما حققوه بشخوصهم وعرق جبينهم، ومن بينهم "نجدة فتحي صفوة قيردار" الذي هو أهلٌ ليُنصَب له تمثال في "محلة الشيخ بشار" بصوب "الكرخ" من بغداد حيث وُلِدَ، وفي "حي الوزيرية" حيث نشأ ودرس وترعرع، وفي وسط مدينة "كركوك" العريقة حيث عائلة "قيردار" الأصيلة وجذورها.
وختاماً لا بد من القول -ومن دون أية مجاملة لستُ محتاجاً إليها- أن هذا الكتاب رائع بكل ما في الكلمة من معنىً، مُرَتـَّبٌ في كل صفحاته، معمّق في سرده، بديع في مباحثه وعناوينه، سلس في تسلسل أحداثه، صادق في معظم وقائعه، مسلـّطٌ ضوءاً يسيراً على الكاتب المبدع والدبلوماسي الأديب والمؤرخ الرائع ذائع الصيت والعراقي الأنيق "نجدة فتحي صفوة" في البعض من سنيّ حياته الملأى بروائع المؤلفات والتراجم والمذكرات والسِيَر والتحقيقات وأرصن المحاضرات... وأنه لوفاء من أخيه الأصغر أن يخوض هذا المخاض ليستذكر -ويسرد أمام الأنظار- بعضاً من حياة أخيه الأكبر الذي غمرتها أحداث العراق الدامية وفواجعها الكارثية وإنشغال مواطنيه بمعضلات الأمن والسلامة والجوع والعطش وسوء الإدارة والقتل بالجملة بمعدلات يومية.
فعلى روحك الطيبة المعطاء -يا أستاذنا الكبير "نجدة فتحي صفوة قيردار"- مليون رحمة من الباري عزّ وجلّ وأنت في علـّيي فردوس جناته... وإليك يا أخ الوفاء والأخلاق والنجابة "الأستاذ نجيد فتحي صفوة" دعوات من الأعماق لـما أنجزتـَه وحققتـَه وفاءً لشقيقك.

أطفال الگاردينيا

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

881 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع