أَيــامُ أَبــي (سيرة .. وذكريات) ح٦

                                               

                         د.عبدالستار الراوي

          

                 

              ايام أبي الحلقة الخامسة

بغداد سوق الشورجة (1940 – 1985)

عبرت النهر إلى عانة ووصلت  (رأس الغربي) مع الضياء الأول، واتخذت مقعدي في حافلة البريد، المتجهة إلى الرمادي، ومن هناك ركبت عربة أخرى إلى بغداد، وصلت العاصمة التي لم أكن غريباً فيها أو عليها هذه المرة، بعد أن أمضيت في مرابعها سنوات الخدمة العسكرية في معسكر الوشاش.
وبعد أن أنزلتني العربة في علاوي الحلة،( ١) اجتزت المسافة ماشياً إلى بيت خالي في الرحمانية(٢ ) وعندما دخلت عليهم التفّ من حولي مهدي وهادي وهدية ( ٣) فرحين بقدومي، بعد الانتهاء من العشاء الذي أعدته فتحية تحدث إلي خالي باقتضاب عن الخان والعمل.

في صباح اليوم التالي، صحبني خالي عبد الجبار إلى سوق الشورجة، وقبيل الضحى أطل مهدي المولى (٤ ) رجلاً ممتلئاً مديد القامة، مهيباً، اتخذ مكانه في مكتبه الصغير الذي يقع في صدر الخان، وأشار إليَّ بعد أن صافحني وسلم علي أن أجلس على كرسي بجواره، رمقني بنظر نفاذة وهو يشعل سيجارته التي يبدو أنها لا تفارق شفتيه، بدأ الرجل ذو العينين الزرقاوين يلقي علي أسئلة متعاقبة، وأنا أجيبه بحياء ووجل، وكان واضحاً بأنه على بينة تامة بأصلي وفصلي، يعرف كل تفاصيل حياتي.
وخَلُدَتْ في سمعي كلمة أعادها وكررها ثلاث مرات: "الأمانة، الأمانة، الأمانة". وكان أول أسئلته، فيما إذا كنت أقيم الصلاة في أوقاتها؟ وعندما أجبته بالإيجاب، توقف برهة قبل أن يواصل الأسئلة الأخرى، وأوصاني بأن من تعهد إليه حراسة الخان، فلابد أن يكون يقظاً على الدوام، مثل الطير الحرّ لا تفوته واردة أو شاردة.
ولم يدر بخلدي بأن تلك اللحظة التي التقيت فيها مهدي صالح الراوي ستكون بداية رحلة طويلة معه وإلى جواره ستمتد أربعين عاماً أو تزيد. وظلت كلمة (الأمانة) التي ألقاها علي صاحب الخان هاجساً يلازمني طوال حياتي.

خان الأغا الكبير

(1940 – 1957)


[1]

باشرت عملي في ذات اليوم الذي وضعت فيه خطوتي الأولى في خان الأغا الكبير ذي الحجرات العشرين، الذي يمور بالحركة منذ الضحى وإلى ما بعد غروب الشمس.
أفاض خالي عبد الجبار  الشرح بتفاصيل الشغل الذي عليَّ القيام به يومياً، ويشمل بذل كل الجهد، في دوام مفتوح مستمر، فأنا منذ اليوم معنيّ بمسئولية حراسة الخان في الليل، وعليَّ أن أبيت بداخله، وأن أتفقد الأموال والبضائع المودعة في الدكاكين والحجرات، وأن أتأكد من إغلاق الباب الرئيسي، وأتفحص الأقفال وأن أقوم بإيداع وترتيب بضائع المترددين على الخان من الزبائن والمتسوقين وأن أحفظها في الأماكن المخصصة لها، ثم يلي ذلك مرحلة تعبئة بضائع الزبائن في صناديق مناسبة، وبعد ذلك يجري نقلها بواسطة الحمالين إلى الكراجات.
وقد حاولت القيام بكل هذه المهام بالتزام وأمانة، بل قمت بأكثر من ذلك، فقد تولّيت بنفسي  ولأكثر من مرة حمل الصناديق على ظهري، لاسيما في السنة الأولى، ولم أشعر لا في ذلك الوقت ولا الآن بأن مثل هذا العمل يمكن أن ينتقص من كرامتي أو يمسّ سمعة أولادي أو يسيء إليها سواء في حياتي أو بعد رحيلي لأني كنت على الدوام أؤمن بيقين مؤكد بقيمة العمل الحر الشريف؛ لذلك لا أرى أيّ حرج من ذكر هذه الحقيقة. فمنزلة الإنسان لا تعلو أو تنخفض بنوع المهنة، رفيعة كانت أم متواضعة تاجراً كان صاحبها أم حمالاً، فالمعيار الأخلاقي وحده هو الذي يحدد قيمة الإنسان من خلال حسن المعاملة والسلوك القويم والنفس النزاعة للخير. والصلة الحميمة بالناس، وبهذه القيم تتعيّن منزلته في الحياة والمجتمع.
[2]
يبتدئ طريق سوق الشورجة من جامع مرجان ( ٥) على الجانب الأيسر لشارع الرشيد ( ٦) ويأخذ السوق امتداداً عرضياً نحو شارع الجمهورية ( ٧) الذي اخترقه عند إنشائه من الموضع القريب من جامع الخلفاء ( ٨) المعروفة مئذنته بـ (منارة سوق الغزل) ( ٩) وتطل نهاية السوق على شارع غازي،( ١٠) وبذلك يكون هذا السوق التراثي العريق مطلاً على ثلاثة شوارع هي (الرشيد، الجمهورية، غازي). ويقول أبي: الذي عاصر السوق منذ نهاية الثلاثينات في القرن العشرين، إن الشورجة الحقيقية ليست هي التي نراها اليوم، إنما هي التي تبدأ من شارع غازي وتنتهي بشارع الرشيد. ( ١١)
قيل أن أول إشارة تاريخية إلى سوق الشورجة وردت في القرن السابع عشر الميلادي، عندما أتى الرحالة التركي (أوليا جلبي)، على ذكر بعض محلات بغداد، ومن بينها سوق الشورجة الذي ازدهرت فيه التجارة بأنواعها، الحبوب، الفواكه، المواد الزجاجية والخزفية، الفافون (التوتياء)، وغيرها، إلى جانب محلات مختصة بسلع أخرى منها:
العطارية، القرطاسية، الخيوط، التوابل، القماجي، السبح، الخرز، المعاضد، المرايا، الفواكه المجففة، ورق السجائر، الشموع، الحلويات، الحباب، والأباريق، التمر، الشخاط، الصابون، الحصران، الأجبان، الملابس الداخلية. ( ١٢)
أما أبرز تجار السوق في ذلك الوقت:
آل الحسني، آل العطار، آل حمرة، آل شطب، آل مبارك، عقراوي، آل الرحيم، آل الشماع، الحاج صبري المراياتي، مهدي صالح الراوي . ( ١٣)
ومن بين الخانات الأكثر شهرة: (جني مراد، الدجاج، لالة الصغير، الأغا الكبير، الأغا الصغير).
وسوق الشورجة كما هو شأنه أيام زمان يجسد لدى البغداديين عموماً التواصل الحي بين عراقة الماضي وحرارة الحاضر، بنكهة التراث الأصيل، وهو أثير لديهم، محبب إلى نفوسهم لارتباط اسمه بأجمل المناسبات ذات النكهة الشعبية التي تتجسد فيها تقاليدهم الاجتماعية، فليس هناك من بيت بغدادي إلا واغترف من سوق الشورجة (المؤونة) الخاصة بأطعمة شهر رمضان، يعدُ هذا السوق المعين الرئيس له، وليست هناك صينية بغدادية توقد الشموع في يوم (زكريا) إلا وكانت محتوياتها من الحلويات والسكر والسمسم والكرزات والشموع منتقاة من الشورجة، بالإضافة إلى ما يوفره السوق من مستلزمات الأعياد وطقوس الخطبة والختان والأعراس. ( ١٤)

[3]
وقائع خان الأغا الكبير:
تعود ملكية الخان العقارية إلى عائلة القشطيني البغدادية،( ١٥) كان موقعه في الأصل، وسط سوق الشورجة حتى عام 1957 قبل أن يشق شارع الجمهورية (الخلفاء)، الذي اقتلع الخان وابتلع مساحته بالكامل، ولم يعد له أي أثر منذ ذلك التاريخ بعد أن تجاوز عمره قرناً من الزمان.
لخان الأغا الكبير باب عملاقة شبيهة بالأبواب العباسية عظيمة الحجم وذات وزن ثقيل، ذات جناحين، وثمة بوابة صغيرة تتسع لرجل تقع أسفل جناحها الأيمن، لم يكن الخان مجرد مركز تجاري للبيع والشراء، فحسب، بل يعد لدى أصحابه والمترددين عليه من الزبائن والمتسوقين، بمثابة مجتمع متجانس ودورة حياة ، طبقاً لأخلاقيات وتقاليد السوق العريق، إذْ كان القائمون عليه يزنون الكلمة بميزان عدل عهداً ووعداً.
والقيم التي كانت سائدة في السوق آنذاك هي قيم الضمير اليقظ، وليست بورصة انتهاز الفرص، القائمة على الغش والتحايل، والكسب غير المشروع والتي بدأت تشيع للأسف في أيامنا هذه.
كانت تقاليد التجارة  تشترط تسعيرة محددة، متفق عليها سلفاً لا يجوز لأحد أن يتلاعب فيها تحت أي ظرف من الظروف وأن تكون نسبة الأرباح مناسبة ومعقولة. كذلك الحال في عرض السلع وتسويق المنتجات، فلا تعرف الشورجة ومراكزها التجارية المعروفة في ذلك الوقت ظاهرة التلاعب بالأسعار أو اللجوء إلى الغش التجاري.
ومن الصعب أن تسمع أن تاجراً معروفاً نكث عهداً أو تخلى عن وعد فالاتفاق له حرمة وقداسة وأن الغالب في أجراء المعاملات هو الكلمة دون حاجة إلى أوراق ثبوتية أو شهود. فالبديل كان الثقة دائماً.
يتألف الخان من طابقين تنحدر إلى حوضه بخمس سلمات، أي أنه ينخفض عن مستوى سطح السوق بحوالي مترين. يضم عشرة محلات تجارية تسوّق سلعاً متنوعة، يختص كل محل منها بصنف معين.
كالخردوات، الألبسة الخفيفة، الأدوية، المعلبات، العطارة، القماجي، المرايا، الليف، ورق السجائر (الشام، الرشيد، البافرة) الشخاط السويدي (علامة النجمات الثلاث).
فيما يشتمل الطابق الثاني على عشر حجرات واسعة، يشغل أربعاً منها الدّلال ( ١٦) والوكيل والتاجر والمسوّق. وخصصت الحجرات الست الأخرى كورّش لصناعة المرايا ومخازن للبضائع المستوردة.
وفي السطح (العالي) دورة مياه مخصصة للعاملين في الخان والمترددين عليه من الزبائن، وأصحاب المحلات المجاورة لقضاء حاجتهم، وتزدحم عند الظهيرة قبيل الصلاة.
على الجانب الأيمن من السطح الوسيع يبرّد مصطفى السقا مياه الشرب في (حباب) مخصوصة وكلما فرغت جرّة يعود ليملأها مجدداً من الحباب وينزل بها السوق، يسقي الناس ماءً (جلاباً) ( ١٧) على حد ندائه، حاملاً بيديه – طاستين-  من نحاس، يضرب الواحدة بالأخرى فتحدثان صوتاً إيقاعياً متناغماً يلفت الانتباه، فيقبل العطاشى عليه.
ومصطفى السقا أحدى شخصيات خان الأغا الكبير، بل يعد  وجوده علامة بارزة من معالم الشورجة في ذلك الزمان، أمضى سنوات طويلة من حياته في السقاية، ولم يكف عن مزاولة مهنته حتى بعد أن بلغ من العمر عتياً، فقد ظل مثابراً ودؤوباً وعندما باشرت الدولة العمل بشارع الجمهورية، غاب مصطفى السقا في زحام المدينة. ( ١٨)
كان شاحباً ونحيلاً، ذا وجه صغير وعينين ضيقتين، ولحية بيضاء ، يحمل جرته الندية على ظهره وهو يشق طريقه عبر طرقات الشورجة، منادياً: "ماء جلاب".
[4]
الحاج مهدي صالح الراوي ؛ كان يزود العراق كله  بورق سيجاير الشام والرشيد ( ١٩) بوصفه الوكيل الوحيد المعتمد لشركة صبحي وصلاح الدين الشوربجي في حلب، إلى جوار سلعة أساسية أخرى هي (شخاط أبو النجمة) السويدي الصنع، الذي اختص به الحاج أيضاً.
أما البضاعة الأخرى التي اشتهر بتصنيعها وإنتاجها خان الأغا الكبير فهي (القماجي والمرايا). وهي مهنة عريقة اختص بها عبد الأمير القماجي، وقد توارثها الأبناء والأحفاد، وبرع فيها ابنه إبراهيم وأولاده الذين لا يزالون حتى يومنا هذا يواصلون إنتاج هذه السلعة.
وعبد الأمير اسم له دلالته في السوق، يعتمر (جراوية) ( ٢٠) بغدادية لا تفارق رأسه بوصفها جزءاً من لباسه الشعبي، وكان يقيم في محلة (الفناهرة) ( ٢١) في باب الشيخ ( ٢٢) أمضى فيها مراحل حياته بكل دوراتها، حتى وفاته. ويكنى بأبي سلمان أما أولاده فهم: إبراهيم، محمد، جاسم، وجبار، يعاونونه، ويأخذون على يديه في إدارة محلاته الأربعة والإشراف على ورش صناعة القماجي والمرايا في الطابق الثاني من الخان.
ولم يكن أحد ينافس عبد الأمير في صناعته المتميّزة من حيث الجودة والإتقان واعتدال الأسعار.
ومن تجار الخان السيد محمد حسن النجفي، الذي اتخذ من حجرة في الطابق الثاني مكتباً للاستيراد والتسويق، وقد كرس نشاطه التجاري في ميدان "لعب الأطفال" وقد حظي السيد طوال وجوده في خان الأغا باحترام وتقدير الجميع كان هادئاً، سلساً كما النسمة الطيبة، وحين سألته يوماً لم اختار هذا الصنف من التجارة دون غيره؟
أجاب السيد بأنها بضاعة نظيفة لا تحتمل الغش!
ومن التجار اليهود في خان الأغا الكبير:
الأخوان اسحق وموشى، اللذان رفضا مغادرة العراق، في حملة تسفير اليهود، فتم ترحيلهما قسراً، اختص الأخوان في استيراد وبيع الخيوط لأشهر الماركات الشائعة في الأربعينات وهي ماركة (الزنجيل) إيماءة إلى المتانة والجودة. وفي نهاية الأربعينات افتتح اسحق لولده (جميل) محلاً في الخان لبيع الأغذية المعلبة التي بدأ الطلب يتزايد عليها في تلك الفترة.
يقول أبي:
"من مآثر إسحاق التي أستذكرها الآن هي يوم قررت عام 1949 البحث عن منزل صغير مناسب لا يتجاوز ثمنه عن المبلغ الذي أدخره وهو (650) ستمائة وخمسون ديناراً. ولكني لم أجد بيتاً بهذا المبلغ . فقررت صرف النظر ريثما تتوفر فرصة أخرى، وعندما علم إسحق بهذا الأمر طلب مني أن أرافقه إلى بيت يملكه في محلة القشل. ( ٢٣)
وقد وقع البيت في قلبي فور دخولي باحته، وبالرغم من قدم بنايته، إلا أن سعته وريازته والشناشيل الباذخة، جعلتني أقرر على عجل شراءه، دون أن أعلم بالثمن المقرر. فبادرني إسحق قائلاً:
"ما المبلغ الذي بحوزتك وتستطيع أن تدفعه الآن؟!". فأجبته: كل مدخراتي هي مبلغ ستمائة وخمسون ديناراً، فمد يده وصافحني وهو يقول (مبروك) ويبقى بذمتك مبلغ (350) ثلاثمائة وخمسون ديناراً، تدفعها أقساطاً أو كلما تيسر لديك جزءاً منها، إلى أن يتم تسديد المبلغ، وبوسعك الانتقال إلى الدار هذا اليوم.
لم يكد ينتهي إسحاق من كلامه، حتى طفقت إلى الكرخ فرحاً أبشر مليكة بالخير السعيد، شعرت أن غبطة مدهشة تسري في كياني كله، وأنا أقتطف مثل هذه الثمرة العظيمة بعد عشر سنوات من العناء والتعب.
وهي الدار التي ضمتنا في رحابها عقداً من الزمن (1950 – 1960) وعلى حد قول مليكة، فإننا وجدنا فيها مقاما طيبا وخيراً عميماً، ورزقاً طيباً من الثمرات والأولاد، إذ شهدت الدار ولادة محمود ،عبد الكريم، سهيلة، ساهرة".

ثمة أربعة دكاكين تتوزع بغير انتظام على جانبي رواق الخان الذي ينتهي بدكان مهدي عبد الجبار، المخصص لبيع الخردوات والأغذية المعلبة وبعض أصناف الأدوية، وكان من أكثر المحلات تنوعاً في البضائع، إذ يجد فيه المتسوقون الآتون من محافظات العراق المختلفة معظم المواد التي يحتاجونها. وقد عرف مهدي عبد الجبار بدماثة خلقه وحسن معاملته للزبائن، وبأسعاره المتهاودة.
وعلى الطرف الأيمن محل الخال عبد الجبار الطه الذي كان عبارة عن سقيفة محكمة شيدها بنفسه، كانت بضاعته خليطاً من السلع، تبدأ بـ (الفوانيس) و (البريمزات) وأشرطة فتائل (اللمبات) وورق السجائر والشخاط و(الجويت) و(اللاستيك) و(قند السكر) وغيرها.
وانفرد ناجي شوحيط الذي يتخذ من حجرة تقع على يسار الرواق ببيع الملابس الداخلية والجواريب محلية وأجنبية الصنع. ومن عادة هذا الرجل الحاذق أن يسأل الزبون ممازحاً عن المنطقة التي يقيم فيها، ليعرف مستوى المعيشة ونسبة التطور، ليحدد نوعية البضاعة وقيمتها السعرية، وكثيراً ما كان يمزح مع الزبائن ويداعبهم، فيقول مثلا:
إن هذا النوع من الجواريب لا يمكن أن يقاوم أكثر من يومين، ولكن لدي نوع آخر، أردأ من الأول وأقل مقاومة منه، يهترئ قبيل الشروع بعبور الجسر العتيق.
وقد عرف الخان ولأول مرة في تاريخه "العطارة" بعد أن باشر كل من طه السامرائي وعبد الرحمن عبد الجليل العمل بهذا النوع من المواد في العام 1953. وقد خصص لمحلهما والمخزن الملحق به، جزءاً من الجناح الأيمن في الخان، وقد عانينا لوقت طويل من روائح المواد، النفاذة وروائحها المنفرة، مع ما تثيره من ضيق في الصدر وما تتسبب فيه من حساسية في الحنجرة والأنف.
أما الحاج مهدي صالح الراوي، فهو صاحب الخان والتاجر الأول والأثقل وزناً وصاحب الكلمة الأولى فيه، ورث التجارة عن أبيه (صالح المولى)، عمل في بداية حياته معلماً في قطاع التعليم الابتدائي، وكانت مدرسة العوينة في محلة جامع المصلوب آخر المدارس التي عمل فيها، ثم تخلى عن وظيفته الحكومية، ليتفرغ للتجارة، ويعد واحداً من أعلام سوق الشورجة منذ الأربعينات حتى الثمانينات من القرن الماضي.
وقد اقترن باسمه ورق الشام والرشيد والشخاط والشاي السيلاني ماركة (اللمبة).
وقد تولى ابنه البكر (فاروق الراوي) منذ صباه دور المساعد والنائب والوكيل، ليصبح في الستينات من الوجوه المعروفة في السوق والبنوك، وقد استطاع فاروق بعقله النابه توسيع وتطوير تجارة أبيه، وقد أكسبته علاقته الإنسانية الحميمة بالناس مكاناً متميزاً في قلوب جميع من اقترب منه أو تعامل معه، فقد كان رجلاً محباً للخير كريم اليد والقلب واللسان.
وهناك العديد من الأسماء ممن تواجدوا في خان الأغا الكبير، أو عملوا مع أبي بصفة عمال ومساعدين، جاءوا من القرى البعيدة عرباً وأكراداً، تعاقبوا على مر الأيام، ومن هؤلاء: حسين العاني، مناع حسين، عبد الله الضايع، حسين الحتحوتي،  صلاح الدين،  صباح شويش، أسعد دنهاش، طه الشلال، عبد الله، غلام، بابير. حمة سور .. وكثيرون غيرهم، ممن عاشوا معنا زمناً، إخواناً وأصدقاء، يأكلون مما نأكل دونما فصل أو تمييز، وأن مبدأ توزيع العمل داخل الخان (بين التاجر والخانجي والدلال والعمال) يقوم على سبيل التصنيف المهني، وليس طبقياً. وأن عدداً كبيراً من أصحاب الأموال والتجارة بدأوا حياتهم في السوق عمالاً وأجراء، وبعضهم كان (حمالاً) حتى أن واحداً من هؤلاء ظل وفياً لمهنته الأولى، واحتفظ بـ (الجندة) ( ٢٤) التي كان يضعها على ظهره، في صدر (دكانه) اعترافاً شجاعاً منه أمام النفس والناس.
لذلك كانت العلاقة الاجتماعية مع هؤلاء العمال تقوم على الرعاية والاحترام ومكافأة تعبهم اليومي بما يستحقون، مما وفر إحساساً إنسانياً بالرضى، وليس هذا فقط، بل أن كثيراً من تجار الشورجة وفر لعماله فرص عمل مواتية لرفع مستوياتهم الاقتصادية والمعيشية وعقب عشر سنوات من العمل المثابر، لم يعد الحمال حمالاً، بل أصبح بائعاً، ثم وكيلاً وأحياناً تاجراً.
فقد افتتح بعضهم متاجر ومحلات، وامتلك آخرون أراضٍ وعقارات.
[5]

خالي عبد الجبار وأنا نتولى معاً مهمة المحافظة على الخان، تحت إشراف الحاج مهدي صالح، وتقع عليَّ مسئولية الحراسة، فهناك الودائع والأموال والبضائع التي تمتلئ بها المخازن والمحلات، لم يفارقني الإحساس بثقل الأمانة وضرورات التحسب لأيّ طارئ، أو خطر يحيق، فكنت لا ألبث في فراشي طويلاً، بعد أن يفرّ من عيني النوم، فأنهض مذعوراً، أتفقد الأموال والأحوال، وأجول بين الأروقة والحجرات، وأفتش السطح، وأعود لأتأكد من إحكام الأقفال.
وتتوالى نوبات الفحص والتحقق من الكوى والأبواب، ولا يأتيني النوم إلا بعد الهزيع الأخير من الليل، وعندما يحل الفجر أدرك بأن يوماً جديداً قد أتى. وعند الانتهاء من أداء فرض صلاة الفجر أحاول أن أحظى بغفوة تعينني على العمل.
أتناول الفطور بعجالة لأظفر بمتعة تدخين (النارجيلة) التي كنت أعدها المتعة الأثيرة في حياتي "في مقهى الشط، وأعود قبيل الساعة الثامنة فاشرع بفتح باب الخان.
أول القادمين يكون في العادة خالي وابنه مهدي، يليه عبد الأمير وأولاده الذين يهمون بسرعة في تنظيم معروضات محلاتهم. ثم يرد أصحاب المحلات الأخرى بالتوالي، ناجي، إسحق، السيد محمد حسن.
يطلّ الحاج مهدي في ميقاته المعلوم، فهو لا يتأخر عن الساعة التاسعة صباح كل يوم.
وفي العاشرة تبدأ حركة الشورجة، فتسمع صرير الأبواب، وصدى الأقفال، وبعد حين تكتظ السوق بالآتين والوافدين من بغداد والمحافظات الأخرى، وفي الحادية عشرة يمتلئ حوض الشورجة بالمارة والمتسوقين وأصحاب البسطات، وبطابور العربات الصغيرة وعند الظهيرة تبلغ الحركة ذروتها، وفي موسم الصيف يخف الزحام في القيلولة بخلاف الشتاء الذي يتواصل فيه إقبال الناس وتدفق الزبائن والمتسوقين. وقبيل العصر يعود الوافدون من حيث أتوْا، ويباشر أصحاب الدكاكين (التعزيلة) تدريجياً، حتى إذا حل المغرب تهدأ السوق، ويتوقف الضجيج.
وأشد حالات الازدحام في الشورجة تكون عادة بداية الأسبوع، وبداية الشهور عند استلام الرواتب والأجور. يحاول مناع حسين المعروف آنذاك بخفة ظله، وبميله العجيب للمرح أن يلطّف أجواء خان الأغا الكبير بين حين وحين، خاصة عندما يكون الحاج مهدي غائباً، أو نائماً وقت القيلولة، فيقوم مناع بسلسلة من الحركات البهلوانية التي لا يجيدها أحد غيره مثل المشي على يديه وجذعه مرفوعاً إلى الأعلى. وقد يقلد العقرب في مشيتها. ثم يأخذ بتقليد أصوات بعض الزبائن والتجار الذين يترددون على الخان.
وقد يلجأ إلى ألعاب الخفة، كأن يحتسي الشاي بطريقة مقلوبة، أو يرفع صندوقاً بأطراف أصابعه، ولا يكف عن إلقاء الطرائف والنوادر كلما وجد فرصة سانحة أمامه.
وبسبب رشاقته الجسدية وحيويته النشطة، فإنه لا يتردد في عقد حلقة مصارعة مع زملائه العاملين في الخان، على سبيل استعراض القوة البدنية.
وقد أفردنا لمناع وزوجته حجرة في دارنا بالقشل، وظل مقيماً بيننا لفترة زمنية ليست قصيرة. ويعد خسار وهو شقيق مناع، شخصية مرحة أيضاً، كان كثير التردد على الخان وقد يتواجد فيه أحياناًِ، وله (بسطة) متنقلة ليس له مكاناً ثابتاً، وقد اختص أيامها ببيع صحون زجاجية (غير قابلة للكسر). والتي شاع استعمالها بين الناس في ذلك الوقت، وكان خسار يتفنن في أساليب عرض بضاعته على نحو يجذب أنظار المترددين على السوق. فيبادر أولاً إلى مزماره يعزف عليه لحناً شعبياً أو أغنية متداولة بين الناس.
ولغرض الإمعان في إبهار الزبائن، فهو يعزف بـ (أنفه)، وليس بفمه، ويظل كذلك، حتى يلتف من حوله جمع غفير، عندها يقوم بالخطوة التالية، وهو يعدد بصوته المجروح ذي البحة القوية مزايا الصحون ومقاومتها الفريدة للكسر تحت أي ضغط مهما كان شديداً، فيضع الصحون صفاً واحداًَ على الأرض بمسافة من ثلاثة إلى خمسة أمتار، ثم يلتفت إلى من حوله من الحاضرين، وهو يرفع صوته المتحشرج، بأن الأوان قد حان لاختبار صلابة البضاعة، وقبيل الشروع بالاختبار يشير إلى قدميه، وهو ينتعل (بسطالا) ضخماً ثقيلاً خصيصاً لهذا الغرض.
ويهتف بالمتفرجين: أرجوكم قارنوا بين رقة الصحون وصلابة البسطال. ويبدأ خسار يمشي بكل ثقة فوق صفوف الصحون المتراصة ذهاباً وإياباً، بخطوات وئيدة مرة، وسريعة مرة أخرى، وعند الانتهاء من التجربة يعلو تصفيق المتفرجين، فيقبل الناس على شراء البضاعة.
وقد حدث يوماً أن مازحه أحد أصحابه فاستبدل الصحون المضادة للكسر بأخرى شبيهة لها ولكنها من الزجاج العادي، وغافله قبيل العرض الاحتفالي، فكانت النتيجة دراما من الدرجة الأولى، فقد تحطمت الصحون عن آخرها.
وعندما فطن خسار للعبة، قال لجمهور المتفرجين "بعد أن رأيتم الأواني القديمة كيف تتحطم عليَّ الآن أن أعرض الآن الصحون المقاومة لكل الصدمات".
وقد أصبح هذا المشهد  من عروض  يوم الجمعة في شارع الرشيد، يقام أمام (أورزدي باك). ( ٢٥)
كان خسار إنساناً وديعاً وفناناً مبدعاً لا يجاريه أحد في عزف الناي، ورغم فقره ورقة حاله، فقد كان كريماً باسط اليد، ومن أقواله المأثورة: "عش الدنيا بحلوها ومرها، وحياة رخية بلا تعب أو شقاء لا قيمة لها، وعليك أن تصرف ما في جيبك، فإنك ستجد ما تأكله في اليوم التالي ولا تصدق من يقول القرش الأبيض ينفع في اليوم الأسود، فإنها وصية البخيل، والصحيح اصرف ما في الجيب يأتيك ما في الغيب".
الهوامش
( ١) إحدى مناطق بغداد المعروفة وهي مركز النقل والمواصلات بين المحافظات الجنوبية.
(٢ ) منطقة شعبية في الكرخ وردت الإشارة إليها في الصفحات الآنفة.
( ٣) أولاد الحاج عبد الجبار الطه (خال عز الدين) وهم على التوالي: مهدي، هدية، هادي، صبحي، غنية، يحي، صبيحة، محمد، نجاة.
(٤ ) مهدي صالح نجم المولى الراوي (1900 – 1982) ولد وعاش وتوفي في بغداد، يعدّ وولده فاروق من أعلام التجارة في العراق.

( ٥) جامع تراثي لازال قائماً حتى اليوم.
( ٦) يعد الرشيد الشارع الرئيسي في العاصمة وقد افتتح عام 1912.

( ٧) شق عام 1955 واكتمل عام 1957 وسمّي لاحقاً بشارع الخلفاء.
( ٨) جامع تراثي.
(٩ ) أحد أسواق بغداد التراثية ولا يزال ينبض بالحركة حتى اليوم.
( ١٠) يمتد من الباب الشرقي وينتهي بباب المعظم.
(١١ ) راجع باسم عبد الحميد حمودي. شارع الرشيد. وزارة الثقافة. بغداد 2002.
( ١٢) رفعت مرهون الصفار: محلات بغداد القديمة. وزارة الثقافة. بغداد.
( ١٣) راجع الصفار: مصدر سابق ص 25 وما يليها.

( ١٤) لا يزال سوق الشورجة حتى اليوم السوق الأول في بغداد.
( ١٥) من الأسر البغدادية.

( ١٦) الدلال: الوسيط التجاري.
( ١٧) جلاب : بارد.
( ١٨)مصطفى السقا: أصله من راوة، ولد وعاش وتوفي في بغداد عن عمر ناهز التسعين.
( ١٩) لوقت قريب ظل هذا النوع من الورق متداولاً في أسواق بغداد.
( ٢٠) من الأزياء البغدادية الشعبية، قلّ استعمالها في الوقت الحاضر عبارة عن (يشماغ) يلفّ على الرأس عدة لفات.

( ٢١) من محلات بغداد العريقة لم يبق إلا اسمها بعد أن أزالتها الشوارع الجديدة في الستينات.
( ٢٢) منطقة بغدادية قديمة في جانب الرصافة. نسبة إلى مرقد الشيخ عبد القادر الكيلاني.
( ٢٣)محلة بغدادية مجاورة للشورجة، أقام فيها الكثير من اليهود وكان فيها معبد يهودي (توراة) ، من معالمها جامع (المصلوب) ودار العلامة الدكتور مصطفى جواد، وعيادة الدكتور كمال السامرائي.

( ٢٤)حِشّية من الألياف وقطع بالية من السجاد يضعها الحمالون على ظهورهم عند نقل الأحمال والصناديق الثقيلة.
( ٢٥) مخزن كبير شبيه بالسوبر ماركت في أيامنا الآن.
 
 للراغبين الأطلاع على الحلقة السابقة:

http://algardenia.com/maqalat/28123-2017-01-25-20-06-34.html

 

  

إذاعة وتلفزيون‏



أفلام من الذاكرة

الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

715 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع