التصويت الاستراتيجي

                                                    

                           د. منار الشوربجي

أتابع عن كثب الجدل الدائر في أوساط اليسار الأميركي حول الموقف من انتخابات الرئاسة الحالية. فهو أحد تجليات أزمة الحزب الديمقراطي التي ستستمر، في تقديري، حتى لو فازت هيلاري كلينتون بالرئاسة. فاليسار الأميركي تيار في أزمة منذ انتخاب بيل كلينتون في 1992. ففوزه وقتها كان إيذاناً بتجاهل اليسار. ولا تزال أزمة اليسار وأزمة الحزب الديمقراطي نفسه تتفاقم منذ ذلك التاريخ.

فستينات القرن العشرين كانت فترة مخاض هائلاً في الولايات المتحدة وأدت بدورها لتحولات مذهلة داخل الحزبين الكبيرين.

فالحزب الديمقراطي، الذي كان تاريخياً المدافع عن العبودية ومن بعدها الفصل العنصري، إذ به يصبح حزب الأقليات، بعد أن وقف في الستينات والسبعينات داعماً بقوة حركة الحقوق المدنية.

وكان الرئيس ليندون جونسون، الديمقراطي، هو الذي دفع بكل قوته من أجل إصدار التشريعات التي ألغت الفصل العنصرى قانونا، ثم التشريعات الاقتصادية التي دعمت الأقليات والأقل حظاً.

ورغم أن جونسون هو من عمق توريط أميركا بدرجة أكبر في فيتنام، إلا أن قوى اليسار في الحزب الديمقراطي وخارجه كانت هي التي وقفت ضد الحرب ودفعت جونسون دفعاً لعدم الترشح لفترة ثانية عام 1968.

لكن في تلك المرحلة وما بعدها عشرات المواقف الاجتماعية والاقتصادية أدت لدعم قطاعات بعينها من الناخبين للحزب الديمقراطي أو ثبتت دعمها له، من الأقليات لقطاعات واسعة من النساء والطبقة العاملة، فضلا عن اليسار. فصارت كل تلك القطاعات هي التي يحرص المرشحون الديمقراطيون على استهدافها للفوز في الانتخابات العامة.

لكن حملة بيل كلينتون الانتخابية كانت جد مختلفة. فهي جاءت بعد 12 عاما من حكم الجمهوريين، ريجان ثم بوش الأب.

وكلينتون نفسه ونائبه آل جور كانا ينتميان ليمين الحزب الديمقراطي. وكان كلينتون، قبل الترشح للرئاسة، رئيساً لمجموعة كانت قد نشأت قبل سنوات من انتخابه وعرفت باسم «مجلس الزعامة الديمقراطية»، قام جوهر فكرها على انتقاد الحزب الديمقراطي.

فقد رأى المجلس أن الحزب يخسر الانتخابات ليس لأنه لم يتخذ مواقف ليبرالية بالقدر الكافي، كما ترى قياداته في تلك الفترة، وإنما لأنه اتخذ مواقف أكثر ليبرالية مما يحتمله عموم الأميركيين، وأن على الحزب، وفق رؤية المجلس، حتى يستطيع منافسة الجمهوريين، أن يميل بدرجة أكثر نحو الوسط أحياناً ويمين الوسط في أحيان أخرى.

وقد اكتشفت كاتبة السطور، عندما قامت وقتها بإجراء مقابلات مع رموز «مجلس الزعامة الديمقراطية» أن حسابات المجلس، التي لم يكن يصرح بها علناً بالطبع، قامت على اعتبار أن القطاعات التي ظل الحزب الديمقراطي يستهدفها هي سبب هزيمة الحزب، الذي بإمكانه استهداف قطاعات إضافية دون أن يخسر أصوات تلك القطاعات، لأنها ستظل تعطيه أصواتها لأنه لا يمكنها التصويت في النهاية للجمهوريين حفاظاً على مصالحها.

بعبارة أخرى، تم اعتبار تلك الأصوات مسلماً بها حتى لو تجاهلها مرشح الحزب.

ومنذ فوز بيل كلينتون بناء على تلك الأفكار، تغيرت مقدرات تلك القوى التي كان من بينها اليسار بطبيعة الحال.

فاتخذ التيار موقفاً في انتخابات عام 2000. فرغم أن رالف نادر الذي ترشح في ذلك العام عن حزب الخضر لم يكن له فرصة حقيقية في الفوز إلا أن التيار قرر التصويت له احتجاجاً على تبني آل جور السياسات والمواقف نفسها وانتهت الانتخابات بفوز بوش الابن بفارق ضئيل بولاية فلوريدا. لكن اليسار لم يفعل الشئ نفسه عندما ترشح أوباما في 2008، إذ انعقدت آماله على الرجل.

ثم فوجئت باتخاذه نفس مواقف كلينتون بل وبوش الابن. ثم عادت رموز مهمة في اليسار، رغم إحباطها من أداء أوباما، تدعو لانتخابه في 2012، لئلا يفوز منافسه ميت رومني الجمهوري، فكانت النتيجة استمرار تجاهل أوباما لمطالب التيار، إلا قليلا.

وهذا بالضبط هو جوهر الجدل الحالي. فأزمة اليسار هي في طبيعة النظام السياسي نفسه الذي لا يعطي الفرصة للفوز سوى للحزبين الرئيسيين. ومن هنا، ثار الجدل هذا العام بين فريق يدعو للتصويت لجيل ستاين، مرشحة حزب الخضر، أملا في تحقيق كتلة تصويتية تحسب حسابها الإدارة الجديدة وفى الانتخابات التالية، وفريق يحذر من تكرار تجربة رالف نادر لئلا تكون النتيجة فوز ترامب كما فاز بوش.

والفريقان لا يختلفان على رفضهما لكلينتون وإنما على استراتيجية المواجهة، مما أدى لبروز فريق ثالث يدعو لما أطلق عليه «التصويت الاستراتيجي»، بناء على الولاية. فهو يدعو للتصويت لكلينتون في الولايات التي يمكن أن يفوز فيها ترامب بفارق بسيط والتصويت لجيل ستاين في الولايات المحسومة لصالح كلينتون.

وتلك المواقف كلها تجسد أزمة اليسار والحزب الديمقراطي. فحتى التصويت الاستراتيجي لن يحل الأزمة، لأنه يحرم اليسار من «الكتلة التصويتية» ويؤدي لفوز كلينتون. لكن الأهم هو أزمة الحزب الديمقراطي. فالحزب لم يعد بالفعل يلبي مطالب قطاعات واسعة من ناخبيه. وهذا هو سبب أزمة هيلاري الممتدة حتى الأيام الأخيرة قبل الانتخابات.

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

796 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع