فوهة في الفضاء لـ محمود سعيد

                                              

  

 

غريتشن ماكولو
الجامعة الأمريكية في القاهرة
113 الشريعة. قصر العينى
قسم البلاغة والتأليف
11511 القاهرة، مصر
فوهة في الفضاء لـ محمود سعيد
 غريتشن ماكولو
جامعة تكساس، كانون الأول 2015،
الأدب الحديث المترجم. الشرق الأوسط

كل يوم حرب وعنف في الشرق الأوسط يشوشان التصورات ويثيران القلق. نحن نتصور أننا نعرف كيف يمكن العيش خلال الحروب. لكن في الحقيقة، لا، لا نعرف. في رواية، فوهة في الفضاء الذي تدور أحداثها أثناء الحرب بين إيران والعراق، 1980-1988، يصف محمود سعيد أعماق ما يحدث. يصف جواً مرعباً تحدثه الحرب، عارضاً بنظرة عاطفية وببصيرة عميقة قريبة حياة أسرة متماسكة. فعلى الرغم من التفجيرات اليومية وخطر الموت المفاجئ، نرى الناس ماتزال تستمتع بإجلال بجمال الطبيعة، تساعد جيرانها وتتوق للتمتّع والسرور.
سجن محمود سعيد، ست مرات في العراق، شهد وعانى من قسوة الحرب، وتعسف النظام القمعي. كان قسمً من كتبه قد دمر، إلا ان القسم الآخر منع من قبل الرقابة. بالرغم من كل هذا كتب أكثر من عشرين رواية ومجموعة قصصية قصيرة.
حظرت الحكومة العراقية جميع كتبه وبخاصة نشر روايته، "زنقة بن بركة" (1970)، والتي في وقت لاحق فازت بجائزة وزارة الإعلام العراقية في عام 1994.
ترجمت له إلى اللغة الإنجليزية: "أنا الذي رأى" بعنوان مدينة صدام، (2004)، والعالم في أعين الملائكة ( 2011) وزنقة بن بركة (2013)، وهذه الرواية "فوهة في الفضاء".
ظهرت ترجمات أخرى من عمله في: وورلد ليترجر توداي "الأدب العالمي اليوم"،وورلد ويذ أوت بوردر "كلمات بلا حدود"، وبروكلين لاين. غادر سعيد العراق في عام 1985 وعمل في دبي. في عام 1999، حصل على اللجوء السياسي في الولايات المتحدة وعاش في شيكاغو منذ ذلك الحين.
ليس من المستغرب، ان يكون الموضوع البارز في رواية فوهة في ا لفضاء هو الرغبة في الطيران. ولعل من نافلة القول أن الطيور تتكرّر كثيرا في جميع أنحاء الكتاب. في بداية الرّواية، والأسرة تجلس أمام الحديقة، يصبح قصف المدينة مادة للنكات بين أفراد العائلة، آنذاك تشير الإبنة نور وهي طالبة في الجامعة، تشير إلى طائر الزيطة الجميل، ترشحه ليكون طائر العراق الوطني، وهو طائر مغبون، لا يذكر في أي نص مدرسيّ، ولا يشار إليه في أي مصدر علمي.
 نور غريبة الأطوار، مثقفة وموهوبة باللغة الإنكليزية في  حين أن والدتها هي ربة بيت تقليدية، تركز تماما على أسرتها وبيتها. نور كتبت نبذة صغيرة أرسلها إلى ناشيونال جيوغرافيك حول طائر الزيطة، نور تغمر نفسها في دراسة اللغة الإنجليزية وتحلم بوظيفة محررة أدب وترجمة في جريدة إنكليزية في بغداد. نور "يعني اسمها الضوء" تخيب نظر والدها، تتزوج على عجل لتهرب من البيت، من والدتها التي جعلتها المرارة مريضة وتحتاج إلى كثير من الدعم.
صور أخرى من الطيور في الرواية تعكس فكرة الإلفة والوئام. الزوجة ترى نفسها أشبه بالدجاجة الأم، وتحرس فراخها بشدة.
في بداية الرواية أيضاً تذكر نور في وسط النكات أن أمها تحب أنور أكثر منها وتداعبه، وتلاطفه أكثر. والدتها تنفي ذلك، تقول: "لا، أنا أحبكما كلاكما على حد سواء ".
ومع ذلك، فالمرح والنكات في البيت ينقلبان إلى أمر بؤس،  عندما يجند أنور ويختفي. تذهب الأم والأب إلى بغداد للتحقق من قوائم أسرى الحرب التي تصدرها الأمم المتحدة، هناك في بغداد ترى الأم زهرة فتحتقرها، تقول: "كيف يمكن لأي شخص أن يبتسم بعد فقد ولده؟ أهو فرخ دجاجة؟ "امرأة تقليدية تعزّ وتفضل ابنها أكثر من ابنتها، فهي تسأل ابنتها، بعد أن ذهبت الحرب بابنها:" لماذا هو وليس أنت؟" استسلمت الأم للحزن والغضب، ودأبت تنظيف أقفاص طيور الحب التي جاء بها ابنها، لم تفقد الأمل بعودته من الجبهة. في وقت لاحق في الرواية، عندما تعافى من كآبتها، تحرر طيور الحب، إلى السماء المفتوحة.
 وليام هاتشينز مترجم فطري، متمكن من فهم اصطلاحات اللغة الإنكليزية للتعبيرعن عفوية المزاح والنكات العربية، وهي في الواقع صعبة للغاية، عندما ينتقل المترجم من العربية إلى الإنكليزية، يجد الانخراط في سيولة عاطفية الثقافة  العربية وفكاهتها تسيطر عليه، وتشده، وبخاصة إن عاش في المنطقة مدة طويلة. إن التعبير عن هذه العفوية يمكن أدركها من خلال مهارة مترجم داهية شهير كوليام هاتشينز، مترجم التحفة الأدبية المتميزة، ثلاثية نجيب محفوظ. ترجم هاتشينز للعديد من الكتاب البارزين، مثل: توفيق الحكيم، محمد خضير، حسن نصر، فاضل العزاوي، إبراهيم الكوني وغيرهم. استوعب هاتشينز التقاليد العربية في القص الشفوي وكان واضحاً ذلك في الترجمة الذكية للمحاورات بين أفراد الأسرة، التي تحيا معاً، فعلى سبيل المثال، في الفصل الأول تذكر الأم، ان الأب لا يستطيع أن يقتل فأرة، في وقت مبكر من الزواج. أنور ونور يطالبانها أن يسمعا قصة فشله في قتل الفأرة. يشعر الطفلان البالغان بالسعادة: "يبدآن بالرقص. تهز  وسطها كأي راقصة ممتازة، ويصفق أنور بسعادة، ويرقص رقصاً غربياً، "أبونا لا يستطيع قتل الفأر. القنابل الإيرانية تقتلنا. ها، ها، هييي، الأب لا يقتل فأراً. قنابل الجيران تقتلنا.
  يحدد "هاتشينز يحدد تأثير تقليد القص الشفوي العربي  باعتباره مصدرا للقوة في اسلوب سعيد في مقدمته للرواية. قابلت محمود سعيد، وسحرت بقصص حياته ونكاته لمدة ساعتين.
ولكن الحرب ليست نكتة، كما يصف سعيد في روايته. إذا بقي الناس على قيد الحياة جسديا، فإنهم غالبا ما يصبحون  مضطربين نفسيا أو يصابون بالجنون. عندما تبحث الأسرة عن أنور، يزورن علي، أحد أصدقاء أنور، الذي عاد لتوه من الجبهة. الشاب على قيد الحياة، ولكنه فقد قدمه اليمنى. طوال زيارتهم، كان يكرر، "نحن خريجي الجامعات مسؤولين عن ذلك. لأننا لا أخلاق لنا " وبعد الزيارة، منذر القاضي يتذكر أنه سمع كلام أبنه: " اريد فوهة في الفضاء لأذهب  حيث يمكن أن أشعر بالأمان، واتمكن من السفر بأمان، وأن أرفع رأسي عاليا، وأمشي من دون خوف. "تحت القصفق لا يوجد مكان آمن، حتى داخل المنزل. لا يقتصر الأمر على الجنود الذين يعانون، ولكن أسرهم أيضا، الذين يتوجب عليهم انتظار أخبار عن أحبائهم. كما غرقت زوجة منذر في حالة شديدة من الاكتئاب وأصبحت ابنته في عزلة تزداد يوماً بعد يوم، قبرت النكات والقصص في البيبت، واستبدلت بالخوف على أنور.
    ييأس الأب القاضي من العثور على ابنه، بعد أن زار  الجبهة في محاولة للسؤال عنه. الضابط الذي رآه، يراجع قائمة طويلة يتفادى النظر إليه: أبنك مفقود. لا نعلم عنه شيئاُ، أسير أو شيء آخر. يحدس منذر حقيقة مصير ابنه، يندفع بعيدا: "لا يعرف كم استمر يبكى ولكن المحرمة الورقية تحللت في أصابعه. "بعد ذلك عانى كثيراً من ازدراء السائق الذي أخذه إلى الجبهة، سأله لماذا لم تدفع رشوة لإنقاذ ابنك؟:" لم يخطر على باله أن حياة مهندس معماري، ذي تعليم جيد يساوي خمسين دينارا؟ "من ثم بدأ يعنف نفسه بقوة لأمانته، ونوعية أخلاقه التي حملت الآخرين على احترامه والثقة به في المجتمع.
من السهل التعاطف مع القاضي، بالرغم من سقوطه بحب السيدة التي رآها في بغداد،  وهو شخصية محبوبة تماما. يتصف بالصدق، وفي، يهتم بعمله، كان أميناً، لم يستغل منصبه لكسب مادي، أو ليحصل على منافع، أو ليرضي طموحه، كما أنه لم يكن مغتراً متعالياً، على الرغم كثرة الحوادث التي عالجها، لكنه ظل وفياً على مبادئه، كان يتساءل مستغرباً: "كيف يمكن أن يتحول المواطن المستقيم الى مجرم، الشجاع إلى جبان، المحترم إلى حقير، العاقل إلى مخبول، أو بالعكس في لحظات قليلة" وكان يدرك أنه طالما نحن على قيد الحياة، فسنتغير، وربما نقوم بعمل أي شيء ما، ربما حتى قتل شخص ما، وفق ظروف مناسبة. مرة سأل أحد المتهمين: لماذا قتل زوجتك؟ قال الرجل، "لأنها جعلت حياتي جحيما".
في أول زيارة يقوم بها القاضي إلى بغداد للتحقق من قوائم الصليب الأحمر، التابع إلى منظمة العفو الدولية، والتي تعنى بأسرى الحرب الإيرانية العراقية. كانت زوجته ترافقه. هناك، التقى زهرة، كانت جميلة، ممتلئة حيوية، اسم على مسمى، أرملة الذي تأتي الى بغداد لمعرفة ما إذا كان حميها في قائمة أسرى الحرب. بعد الزيارة الأولى، أخذت زوجته تلومه لاختفاء ابنهما، وأخذت تنعزل عنه وعن ابتنتها، وترفض التفاعل مع أي شخص.
  بتعرفه إلى زهرة وجد منذر نفسه في وضع مخل بالأخلاق. يشعر نفسه أنه "ينزلق في علاقة" مع زهرة. التي وهبت قابلية هائلة على المرح، والتي تحقنه بحب الحياة، بعيداً عن جو البيت الكئيب والمتوتر. كل أسبوع يذهب إلى بغداد وحده، يرى زهرة، يعيشان في بغداد على حريتهما، يتسكعان في شارع أبو نواس، ( سمي على اسم الشاعر العربي الكلاسيكي، الذي كانت حياته سلسة من التمتع والسرور)، في حين أنهما كانا ينتظران القوائم الجديدة التي ستنشر. قد تبدو الظاهرة قاسية: أن بعض الناس يغنون ويرقصون، في حين أن آخرين يموتون في نفس البلد. من ناحية أخرى، يقترح سعيد أن الرغبة في رفقة حقيقية، والبهجة الروحية هما بمثابة إكسيريتمكن من تجديد روح متعبة، وذالك ما فعلته زهرة لمنذر. لم تر نفسها دجاجة وجدت لرعاية فراخها فقط، بل مخلوق يعيش: فهي ما تزال مثيرة، نابضة بالحياة، تطمح لتكون روائية.  وبالرغم من كل شيء، وعندما كانا في وضع حميمي في السيارة،  تذكر منذر حالات عرضت عليه، انتهى الحب فيها إلى كارثة.
  ذهل منذر عندما زار قارئة الحظ، التي حدست أنهما حبيبان واقترحت عليهما أن يتزوجا. أخذ يشعر بعذاب الضمير، لأنه لا يستطيع أن يعد زهرة بالزواج، في الوقت الذي، أصبحت حالة البيت أكثر سوءً وقتامة، وتدهورت فيه حالة زوجته الصحية، واقتربت كثيراً من الوفاة.
وعلى الرغم من توقف زهرة عن المجيء إلى بغداد، أصبحت الحياة "حلوة المذاق"، بدأ يتوقف في منزل نور وعادل في بغداد، فقد ذهب الثلاثة إلى نفس مطعم أبو نواس، حيث كان قد جاء مع زهرة من قبل. مرونة القاضي العاطفية هي التي حفظته، خلافا لآخرين في الرواية الذين لم يستطيعوا التكيف مع التغييرات المستمرة .
 بوابة في الفضاء رواية مؤثرة، رواية واقعية عن الحرب. في حين أظهر سعيد كيف أن روح الإنسان يمكن أن تتكيف وتقاوم أفظع الظروف، قد تكون الظروف صعبة جدا، أو ربما لا يمكن تجاوزها، فجروح الحرب أحياناً غير ممكنة الالتئام، وقد يكون  وكثيراً ما لا يمكن الشفاء من حزن لا يهدأ، والمآسي تترى، هل يمكن أن تشفى من حزنك عندما تفقد أفراد عائلتك الذين انتهو بقنبلة مزقتهم؟ في الأكثر لا.
الأنبياء والفنانون غالبا ما يعيشون على هامش مجتمعاتهم وإذا كانوا حقيقيين فرسالتهم لا تأبه بخطط ودعايات السلطة، ولا تحتفي كذلك باتفاقيات الطبقة المتوسطة. فعلى سبيل المثال، كان المغني ضخماً لم يتوقع منذر أن صوتاً يصدر منه سيكون جميلاً، لكنه فوجئ بالصوت عميقاً مؤثرا. صوت سعيد، مثل المغني في روايته، هو "صافٍ عميق، صداح وأصيل."

أطفال الگاردينيا

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

1060 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع