الثقافة الشعبية الرقمية في العراق

                                                                                  

                         مثنى مكي محمد

تُعرّف الثقافة الشعبية Pop culture بأنها الخزين المتراكم للمنتجات الثقافية من أدب وفن وموسيقى وأزياء وفنون تعبيرية وأفلام وتلفزة وأذاعة، الموجهة للعامة من فئات الطبقتين العاملة والوسطى وليس النخبة.

وهناك من يرى أن من أشكال الثقافة الشعبية ما ينتجه النخبة بأنفسهم (باعتبارهم المسيطرين على وسائل الاعلام الجماهيري) ليستهلكه العامة. بينما يرى اخرون أنها وسيلة العامة للتمرد على القيم الثقافية المسيطرة.
وقد شهدت السنوات التي تلت سنة 2003 لوناً من الحرية الإعلامية غير مسبوق على الساحة العراقية، شجعها تغلغل الانترنت ووسائل التواصل الاجتماعي (مثل الفيسبوك والتويتر والانستغرام والفايبر والواتس أب واليوتيوب) في حياتنا اليومية والثقافية. فبعد أن كانت منصات الكتابة حكراً على فئة معينة ويحكمها توجه واحد وفّر الانترنت فرصاً غير مسبوقة للتعبير عن الرأي وبأساليب وأشكال كانت (وما زالت؟) تُعَد محضورة أو هدّامة من قبل البعض: ألا وهي الثقافة الشعبية.
ويزداد اليوم رواج الثقافة الشعبية بمختلف أغراضها (الترفيهية والنقدية) وأساليبها المتنوعة والتي قد توظف اللهجة العامية، والتي لا يتورع أصحابها في كثير من الأحيان عن استخدام ألفاظ قد ينفر منها الكاتب (النخبوي)، على الرغم من أنها (الألفاظ) متداولة في المعيش اليومي العراقي، أو توظيف الصور الممنتجة  Photo-montageبطريقة كاريكاتورية أو دبلجة حوارات ساخرة أو أغانٍ شعبية على مقاطع تمثيلية لممثلين أجانب معروفين، لخلق مفارقة تلفت النظر الى أحداث يومية لها مساس بمصير الجماعة.  

هل يعكس مثل هذا النشاط انحسار للثقافة الرئيسية المعترف بها Mainstream؟

وهل الظاهرة صرخة احتجاج على الفشل الذريع للصوت الأكاديمي في بث الوعي وبناء مجتمع صحي تسوده قيم المودة والسلام والتآخي؟
لنستعرض لمحات سريعة لبعض منتجي الثقافة الشعبية العراقية في العالم الافتراضي:
 (عودة خليف) والكوميديا الشعبية: عودة خليف هو أحد المدونين النشطين على موقع الفيسبوك. وتتميز كتاباته بمفرداتها العامية والتي قد تمتزج بالفصحى بهدف خلق المفارقة وروح الكوميديا. كما تتميز منشوراته بسجالاتها، فالكثير منها عبارة عن ردود بلغة شعبية ساخرة على منشورات غيره من اصدقاءه أو مقلدي كتاباته أو حتى منتحليها. ما يميز صفحة عودة خليف هو الشعبية المتزايدة لها وحجم التفاعل المتمثل بتعليقات المعجبين. وقد يعبر الكاتب عن روح وطنية بأسلوب شعبي، أو ينتقد ظواهر اجتماعية بروح كوميدية شفافة:
"شگد حلوه النسوان من يتلاگن بالمناسبات تبوس رفيجتها من صفحه وحده وتخرطهن خرطه وحده بس اويلي احنا الزلم من نروح للمناسبات لازم تفتر تبوس جميع واحد بالچادر وتبوسه يمنه ويسره وانوب ترجع لليمنه واشكال تمر بيك هذا المفچچ وهذا العنده لحيه وهذا السمين وعرگان وهذا الوجهه عظم هاي غير الرون سايد انت تريد تبوسه عل اليمنه مثلا وهو يريد يبوسك عل اليسره وتعال شوف الحنچ يگوم ينضرب بالخشم والخشم ينضرب بالخشم ولازم تفترهم كلهم الواگفين ! اضرب ثلث بوسات في ميتين زلمه تصير ستميت بوسه خلال ثلث دقايق اني خو حلگي يگوم ياخذ شرجي وغربي هذا غير السلام طبعا ! عليمن هاي العقوبه هاي فوگ ماگاطع مسافه ورجليه مكسره بالاستاركس ؟ هاي بدال ماتگعدونه وتطونه گلاص ماي وگهوه وتگلوله شجابك…".
علي العمية الكعبي و تسليع الموت: علي العمية الكعبي هو دفان للموتى في مقبرة وادي السلام، اتخذ من صفحته على الفيسبوك منصة للدعاية لمهنته التي طالما نفر منها الناس وهي حرفة دفن الموتى، بعد أن أصبح الموت، بكل تجلياته وصورة الواقعية والرمزية، ملمحاً من ملامح الحياة العراقية. فبزيّه العراقي التقليدي (الدشداشة)- والتي أصبحت بلونها البرتقالي علامة تجارية له-يروج العمية لخدماته في الفضاء السايبيري! ويمكن عد الحالة انعكاساً لتفشي ثقافة الموت في مجتمعنا الجريح لما مر به العراق من حروب ونكبات خلفت موتى بالجملة. ولعلي العمية الكعبي فديوهات "ترويجية" على طريقته الخاصة والتي يدعوا فيها لمتابعيه ومعجبيه بأن يخدمهم "بالأفراح" ويطلب منهم أن يدعوا له بزيادة "الرزق"! فها هو في أحد منشوراته يلقي التحية المسائية على طريقته الخاصة:
"مساء الكبور (القبور) ودستات البخور وعطر الكافور".
كوميديا مقابرية سوداء مستفزة، مغرقة في غرابتها، تداعب مخاوف الانسان من عدو لا يُقهر!
نسرين جابر وعرب الجنوب: تعد كتابات نسرين جابر (وهو اسم مستعار لمدونة نشطة على موقع الفيسبوك) وثائق شعبية مهمة ومستودعا لمفردات جنوب العراق وعاداته التي يكاد عصر الحداثة يطويها. و كتاباتها لها قدرة تصويرية على نقل المشاعر واللوعة ورسم لوحات حقيقية ناطقة بعبق حياة الاهوار والحياة الجنوبية البسيطة بنزعتها الأبوية العشائرية المحافظة. وللكاتبة مهارة سردية فائقة بروح قصصية، حيث تتميز لغتها بتكثيفها الدلالي وروح النكتة والجرأة أحيانا في التكلم عن المسكوت عنه في الثقافة الرئيسية. وتستنهض كتاباتها قيم :
اكو واحد من ربيعتنه داگه الوكت كلش وبس هو ومرته جويريه وعدهم كوخ وبيه گونيتين شعير .. وباب الكوخ مفتوح ماكو مثل هسه صاج ايطالي بس تنكات مال دهن الراعي ومسوينهن باب. ..
بالليل اجاهم حرامي راد شي يبوگ شي بيه حظ ماكو بس الشعيرات .. فرش عباته جوه الگونية وصار يهيل منها على العباية .. ابو البيت خليف الله يرحمة شافه والدنيا ظلمة وهو نايم سحب العباية وضمها وصاحبنه الحرامي گام يهيل الشعير على الگاع ومن خلص راد يلزم اطراف العباية ما لگاها عرف ان ابو البيت صاحي گام بهدوء يريد يطلع.
 ابو البيت صاح وراه ( بروح ابوك سد الباب وياك ) الحرامي گاله ( خويه خليه مفتوح بلكي تحصلك عباية ثانية )…
هسه حراميتنه ماخلو علينه لاشعيرات لاخلالات كلو الاكو والماكو وحتى تمرة البطل هم گلوها...
بروح ابهاتكم منو يعرف شني تمرة البطل ؟؟"

شلش العراقي و النقد الاجتماعي:  اتخذ شلش العراقي من الكتابة الساخرة باللهجة العامية  جواز سفر يلج منه الى شريحة واسعة من القراء على اختلاف مستوياتهم الثقافية وتوجهاتهم السياسية. وقد نشر شلش العراقي كتاباته على صحيفة (كتابات) الاليكترونية في سنة 2005 ثم انقطع فجأة عن الكتابة. وهناك من حاول تعليل الانقطاع بمقتل الكاتب أو من عزاه الى أزمة نفسية واحساس باللاجدوى وبفقدان الأمل بتحسن أوضاع البلد، مما رمى بشلش العراقي في دهاليز اليأس والأزمة النفسية. وتنصب معظم كتاباته في مجال النقد الاجتماعي-السياسي الساخر. ومقالات الكاتب المذكور موجودة على الانترنت وبإمكان القارئ الرجوع اليها للاطلاع.
ولنا ان نستخلص من الأمثلة المذكورة بعض النقاط المهمة:
1.يسعى مريدي الثقافة الشعبية الى تأسيس قطيعة متعمدة بينها وبين التراث الثقافي النخبوي الأكاديمي الرئيسي mainstream culture. وهي ميزة من ميزات أدب الحداثة، تتمثل بتوظيف اللهجة العامية والمفردات المغرقة في المحلية regionalism.
2.ان الشعبية الكبيرة التي تحظى بها هذه الكتابات من قبل شرائح تتفاوت تفاوتا عظيما في مستواها الثقافي والتعليمي تكشف عن إمكانية الثقافة الشعبية الرقمية على هد الأسوار العالية التي تعزل المثقف النخبوي عن العامة. فمن يتابع تعليقات وردود متابعي هذه الصفحات يدرك أن العامة لا ينظرون الى مثل هؤلاء الكتاب على أنهم شخصيات معقدة سيكوباثية، بل يعدونهم مكونا حيويا وفاعلا، ناطقا بهمومهم ومعاناتهم وآلامهم بلغتهم هم، لا بلغة المصطلحات المغلقة المبهمة.
3.بروز هذا اللون من الكتابة يؤشر الى حركة تحول الشفاهي الى كتابي. وهو أمر يعد مؤشرا على النضوج الحضاري. فالكتابة أو التدوين، معيار مهم من معايير الحضارة وان لم تكن المعيار الوحيد.
4.تعد الظاهرة علامة على فشل الجهد الأكاديمي (والذي لا يرقى الى مصاف المشروع) على المستوى العام لا الخاص، في انتشال البلد من هاوية التردي متعدد المستويات الذي نعيشه اليوم.
5.الثقافة الشعبية سلاح المستضعفين ولسانهم الناطق. فهي تعتني بالهامش وتهمش المركز.
6.ان الادب والثقافة الشعبيين مستودع مهم لذاكرة تعاني محاولات الطمس بدعوى التنقيح والتهذيب والتشذيب، حيث نعثر على مفردات اللغة المحكية والمعتقدات الموروثة عند الشعوب وشيء مما تزخر به الذاكرة الجمعية من أساطير وحكايات وأمثال وعبر ومعتقدات وممارسات قبلية وهكذا فان دراستها جنبا الى جنب مع الثقافة النخبوية اكمال للصورة.

مثنى مكي محمد
عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

أطفال الگاردينيا

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

1223 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع