أعـمـى بطـريق مـظـلـم / الحلقة الثانية

                                           

                  بقلم: الدكتور عبدالرزاق محمد جعفر

     

أعـمـى بطـريق مـظـلـم !المسلسل التلفزيوني لقصة واقعية تنقصها الصراحة تـسـرد جانباً من الحياة الأجتماعية في العراق وليبيا وتونس منذ1932 ولغاية 2003

                                  الحلقة الثانية

            

بعد انــدلاع ثـورة تموز(23Jul.) 1952 في مصر، وتأثير شعاراتها على الشبيبة, وتصديها لحلف بغداد, تكسَّرت عزًلة صابر, وخرج ليشارك الجماهير في التأييد,..وخاصة عندما خففت الحكومة من قساوتها في مراقبة الشباب الوطني وجميع القوى التقدمية، ولذا غضَّ "الجواسيس" من نظرهم , ومن ملاحقتهم للشباب الذين هبوا لنصرة ومساندة تلك الثورة الفتية  في ارض الكنانة (مصر العروبة)، وهاج الطلبة والشباب ,..وخرجوا للشوارع منددين بالحكومات العميلة آنذاك وممجدين لشعارات الثورة بقيادة جمال عبد الناصر.


        


         جمال عبدالناصر قائد ثورة يوليو 1952

وهكذا , عادت البهجة من جديد على جبين صابر، لانتصار المبادئ التي آمن بها والتي فصل من أجلها من كليته، وازداد ايماناً بالوحدة العربية من المحيط إلى الخليج.


   

في بداية العام الدراسي (1952) قُبل "صابر" بدار المعلمين العالية / قسم الكيمياء، وقد تميزت تلك الدار بامتيازات عديدة، فدرجة القبول فيها لا تقل عن 70%،.. واضافة الى ذلك , قأنها تضُم فطاحل الأساتذة من العراقيين والعرب  في كافة التخصصات العلمية, والعديد من الأسـاتذة الأجانب من الأمريكان والإنكليز, كما انها تحتوي على قسم داخلي (سكن) يأوي ويُقدم الطعام للطلبة، وقد رغب "صابر" بالإقامة في ذلك القسم ,... إلا أن عمه المقيم في بغداد لم يوافق , و طلب منه السـكن في داره المطل على نهر دجلة الخير في الكرادة الشرقية في نهاية شارع  ابي نواس .

    
   
                     شارع ابو نواس ببغداد


دخل "صابر" حياة جديدة, عندما تم قبوله في دارالمعلمين العالية (كلية التربية حالياً), ووجد الجو الملائم بين زملائه من أبناء مدينته الشطرة التابعة للواء الناصرية (محافظة ذي قار).

                    

في العطلة الصيفية للسنة الدراسية (1952-1953)، قررت الحكومة العراقية برآسة الأستاذ الدكتور فاضل الجمالي، تجـنيد كافة طلبة الكليات في معسكرات خاصة في شمال العراق عند سـفح جبال سكرين (في منطقة اقليم كردستان حالياً), خلال العطلة الصيفية، لمنع الطلبة من مساندة الأحزاب المعارضة للحكومة والمؤيدة لثورة 23 يوليو (تموز) في مصر، ولم يستطع أي طالب أن يتخلف عن ذلك لاحتمال فصله من كليته إن لم يستجب لأوامرالدولة المتسترة وراء الواجب المقدس لتحرير فلسطين!



   

معسكر سكرين لطلبة الجامعات العراقية في جبال كردستان سنة 1952
زار ذلك المعسكر لفيف من المسؤولين من كبار الدولة وفي مقدمتهم الملك فيصل الثاني وولي العهد عبدالأله ورئيس الوزراء الدكتور فاضل الجمالي،... وبُلَِّغ الطلبة المجندون في حينه,  بضرورة حضور الاجتماع الذي سيلقي به رئيس الوزراء خطاباً... وهكذا تَمَ البرنامج و بعد الاِنتهاء من المحاضرة,.. فُتح باب الأسئلة،. فرفع احد الطلبة يده وسُـمح له بالسؤال:
- ذكر معاليكم مساوئ الاِستعمار الأمريكي والروسي ولم يتطرق معاليكم الى مساوئ الاِستعمار البريطاني؟!

           


                      الدكتور فاضل الجمالي

أجاب الدكتور فاضل الجمالي  بسرعة عن ذلك السؤال:
-"هذولَّه من عَّدنه وبينه!،.... نعرفهم ويعرفونهَّ"!
-ضجت القاعة بالضحك والتصفيق،.... فقد كان الحكم الوطني آنذاك يدور في فلك السياسة البريطانية، منذ ثورة الشريف حسين, على الدولة العثمانية التي جثمت على صدر الأمة العربية زهاء 500 سنة، فانفصل العراق كدولة يقال أنها مستقلة !,..ثم قُطعت أوصال الدولة العربية المزمع تكوينها أجزاءً,.. وتقاسمت الدول الأوربية الدول الغنية التيأنتزعتها  من الدولة العثمانية,.. وصار العراق تابعا بشكل غير مباشر للمملكة البريطانية أو قل سائرا في ركابها وخاصة في سياستة الخارجية.

                             


                        


                   المغفور له الملك فيصل الثاني  


أنهى "صابر" دراسته الجامعية في آب (أغسطس) سنة (1956)، وحصل على شهادة (الليسانس) في الكيمياء, وقـد رعى حفلة التخرج الملك (فيصل الثاني),  ووزع الشهادات على الخرجين  بنفسه، والتقطت لصابر صورة مع جلالته, إلا أن والدته خافت من الأمن, وأحرقتها ضمن مخلفاته بعد ثورة  14من تموز 1958 ومقتل الملك، وذهبت صورة لـذكرى لن تعود!  
وفي تلك الليلة ,اقيمت بمناسبة تخرج الوجبة الجديدة من الطلبة حفلة ساهرة في حدائق دار المعلمين العالية في منطقة الوزيرية , أحياها المطرب ناظم الغزالي ، وبعد انتهاء الحفلة سهر "صابر" تلك الليلة مع بعض رفاقه في احد ملاهي بغداد وشرب لأول مرة في حياته قدحاً من "البيرة" لم يستذوقها ولم يتمكن من إكمالها,.. فسخر منه رفاقه ولم يكترث لذلك وشاركهم المداعبة و الغناء والتمعن بالفنانات ، فهو لم يـرَ إلا الوجوه المـحـجـبـة  بالعباءة والبوشي (غطاء الوجه) لـنـسـاء الـعـراق في الخمسينات ، ألا نادراً في بعض احياء بغداد الراقية, وإذا به الآن أمام مجموعة من الراقصات شبه العاريات !

                        


                  الفنان القدير المرحوم ناظم الغزالي

وهكذا ذُهلَ "صابر" بذلك  المشـهد، فهو ولأول مرة يرى أمرأة لابسه من غير ملابس (كما يقول عادل أمام في مسرحية "شاهد ما شاف حاجه "! ).


                           

حاول "صابر" بعد تخرجه من الجامعة أن يكمل دراسته العليا في الخارج واتصل بأحد أبناء مدينته الدارس في أمريكا ، إلا أن ذلك الإنسان خيب آماله !
وهكذا ضاعت الفرصة على "صابر"، وبقى على أمل الحصول على "بعثة" عن طريق الجامعة، حيث كانت نتيجة تخرجه من الجامعة جيدة جداً تـؤهله للحصول على أية بعثة لخارج العراق لنيل شهادة (الدكتوراه)، إلا أن شروط القبول تستوجب العمل لدى وزارة التربية والتعليم كمدرس في مداسها لمدة لا تقل عن الثلاثة سنين، ولذا انتظرصابرأوامرالتعيين بفارغ الصبر،إلا أنها لم تصدر ذلك العام في وقتها المعتاد، وراح يتطلع لمجالات عمل أخرى، غير التي تعلنها الدولة.

   

علم صابر عن وجود بعض الأعمال لدى شركة النفط  في مدينة كركوك ، ولهذا صار بأمس الحاجة لـمن يزكيه  ( الواسطة)  للحصول على وظيفة في مجال اختصاصه !

   كان الـحـاج خيون آل عبيد  رئيساً لعشائر العبوده, وشـيخ مدينه الشطرة  وأبيها الروحي  ومن رجالات الدولة , في ذلك العهد, حيث تربطه علائق وثيقة برموز الدولة ، فهو عضو بمجلس الأعيان، وصديق للعائلة المالكه وللسياسي المخضرم نوري السعيد.
 كانت لعائلة "صابر" مكانة مرموقة ومتينة بشيخ المدينة, وبهذا تمكن من الحصول على توصية مكتوبة من الشيخ خيون الى  وزيرالداخلية آنذاك ( سـعيد قزاز), وبعد أيام حمل "صابر" تلك الرسالة وتوجه إلى بغداد.

                   

                           سعيد قزاز وزير الداخلية


استقبل الوزيرصابر بكل ترحاب وكتب بدوره رسالة إلى مديرشركة نفط كركوك، وتوجه الى  شركة النفط في مدينة كركوك,  وبعد مواجهة  المسؤول العلمي في تلك الشركة طُلبَ منه التريث لبضعة أيام حتى يحين موعـد المقابلة.

        

لـم يكن "صابر" متحمساً لتلك الوظيفة, وغض النظرعنها ولم يراجع أو يستفسرعن النتيجة في مركز الشركة في بغداد، لتعلقه بأصدقاء الطفولة , وترغيبهم له بالعمل بمعيتهم كمدرس , وبعد ثلاثة سنوات سيرافقهم في البعثة خارج العراق!,.. وهكذا ضـاعت  فرصة لن تعوض ولن تتكرر! ,.. وهكذا راح يتسكع مع زملائه بانتظار أوامرالتعيين في وزارة التربية, ليصبح مدرساً في إحدى المدارس الثانوية في لواء الناصرية (ذي قار)، حيث التعيين يتم وفق مسقط راس طالب التعيين لفترة لا تقل عن الثلاثة سنين.

                   

تأخرت أوامر التعيين في تلك السنة أكثر من المعتاد، وظهرت بوادر تغيير سياسية عديدة داخل الوطن وخارجه، وبعد ثلاثة اشهر, أصدرت الحكومة قانون خدمة الأحتياط العسكري  يخص خريجي الكليات، وأنشأت كلية خاصة لذلك الغرض سُميت  :
بـ "كلية الاحتياط",... الدراسة فيها لمدة سنة واحدة عملي ونظري يتخرج الطالب منها برتبة ملازم ثان (نجمة واحدة)، ثم يلتحق في مدرسة عسكرية ذات تخصص معين مثل : مدرسة المشات والمدفعية والمخابرات (أي الاتصالات) لمدة ثلاثة أشهر، كل حسَب تخصصه، وكان تخصص "صابر" قد أتاح له الدخول لمدرسة المخابرات,  اي الأتصالات اللاسلكية  التي كان مقرها معسكر الوشاش، والذي تحول بعد (ثورة 14من تموز 1958) إلى منتزه الزوراء .


   

 معسكر الوشاش بعد تحوله الى منتزه الزوراء

                  

كانت فترة دراسة "صابر" في كلية الأحتياط ممتعة لحد ما, ولا يتذكر أموراً ذات شأن سوى زيارة رئيس الوزراء آنذاك, المدعو (نوري السعيد) والذي يعتبر من أبرز الساسة العراقيين لعلائقه الوثيقة مع بريطانيا، ولذا أطلقت عليه الأحزاب القومية (عميل أ ستعمار)
وتشاء الصدف أن يمر السيد نوري السعيد بمعسكر كلية  الأحتياط وخلفه مجموعة من حراسه ومن ضباط الكلية الكبار, وقد  كان "صابر" جالساً على رصيف احد شوارع الكلية مع لفيف من زملائه،... ولما مـرَّ رئيس الوزراء من أمامهم القى التحية بكل تواضع على جمع الطلبة, وقال: ( السلام عليكم )!
فردت زمـرة صابر التحية ببرود ، ثم أشر لهم  احد ضباط الكلية السائر خلفه بالوقوف، فأطاع الطلبة  الأمر, ولذا توجه الزائر, نوري السعيد  نحوهم , والتفوا حوله, وراح يحدثهم , وقال:


                          

                   رئيس الوزراء نوري السعيد

أنكم تتهموننا بالعمالة للأستعمار!... الا إننا, ووفق تجاربنا لا يمكن البته الأسـتغناء عن بريطانيا، فالعراق لا يملك قدرات ذاتية ليطور نفسه، ولا بد من الاعتماد على الخبرات البريطانية، فنحن لحد الآن لا نجيد حتى صناعة الإبرة !... وإن كل ما نستورده من بريطانيا ضروري، وقد أرسلنا العديد من زملائكم للدراسة هناك, ونأمل أن يعودوا وتذهبون انتم بعدهم وتكونوا كادراً مهماً لنهضة الوطن في كل المجالات المهمة !, ومرت الأيام وتبين أن ليس هناك وفاء أو ألتزام بالطرق الديمقراطية لتبادل المراكز القيادية ألا بأستخدام العنف!

للراغبين الأطلاع على الحلقة الأولى:

http://www.algardenia.com/maqalat/11972-2014-08-10-10-23-30.html

         

أطفال الگاردينيا

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

679 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع