نهى الراضي...القمر الخزفي

   

             نهى الراضي...القمر الخزفي

                

                        

                     

نهى الراضي (1941 - 2004) فنانة وخزافة عراقية ولدت في بغداد

                       

رحلت بعد صراع مع المرض الخبيث , جاء رحيلها بعد مرور أربعين يوماً على وفاة مواطنها الفنان إسماعيل الترك الذي صعقه المرض نفسه. وقبلها بأيام أحيا الوسط الفني في عمّان أربعينية الدكتور خالد القصاب, أحد جماعة الرواد وذاكرتهم الحيّة, فيما لم تكد تمضي ستة أشهر على رحيل شيخ الفنانين شاكر حسن آل سعيد. فكأننا في حضرة موسم مأسوي, يحصد المبدعين العراقيين, فيما بلادهم تعيش أيّام تحوّلها الصعبة

   

ومن يعرف نهى الراضي (1941-2004) يعرف أي جوهر نقي كانت تملك هذه الفنانة, وأي روح وهاجة. ولعل ذلك كان سر انجذاب الكثيرين إليها من شخصيات فكرية وفنية عربية وعالمية. هي, التي جعلت من الفن ملاذاً لوجودها ومرآة نقية لشخصيتها الفريدة, كانت بحق جسراً سالكاً بين العراق الساكن في وجدانها, إرثاً وحضارة وشعبا, وبين تراث الشرق الذي وجدت فيه نموذجاً يُحتذى, والغرب الذي اكتسبت منه علومه وتقنياته الفنية

        

أمضت نهى طفولتها في الهند, حيث كان والدها سفير العراق لسنوات طويلة, وتلقت تعليمها في المدارس الإنكليزية هناك قبل أن تنتقل إلى لندن وتكمل تعليمها التخصصي في فن الخزف, ثم تستقر في بغداد..

            


                       الجامعة الأمريكية في بيروت

سافرت إلى أوروبا عام 1958 لدراسة فن الخزف ودرست الخزف في مدرسة بيام شاور للفنون ومعهد تشيلسي للفخاريات ثم أنهت تعليمها في الجامعة الأمريكية في بيروت 1961 - 1963 م وانصرفت خلال الفترة 1971 - 1975 للأعمال الفنية والتدريس في بغداد وأقامت العديد من المعارض الشخصية في بغداد وعواصم أخرى في الوطن العربي ودول العالم..

عرض إنتاجها في معرض الفنانين العرب عام 1962 في مقر الجمعية الإنكليزية العربية بلندن كما عرض إنتاجها سنة 1964 في قاعة ويرث في برلين..

                 


أقامت معرضا شخصيا للسيراميك في قاعة الواسطي عام 1965

أقامت معرضا شخصيا لإنتاجها في السيراميك في قاعة جمعية الهلال الاحمر

نفذت جدارية دعبول السّماك في ساحة الاحتفالات الكبرى وشارع حيفا التي أزيلت مؤخرا..

          
  

أقامت معرض شخصي في قاعة الاورفلي 1985

أقامت معرض مشترك (اربعة خزافين) في قاعة الاورفلي1986

              

نهى الراضي فنانة تجلت موهبتها في فن الخزف, وكانت خزافة من الطراز الأول بين الخزافين العراقيين والعرب لتكامل صنعتها, وطرافة الأفكار التي كانت تستوحيها من الموروث المحلي وتصوغها صياغة أخاذة في جمالها.

في الهند تفتحت نهى على التراث الثقافي والشعبي الهندي الغني, وإعادة إنتاجه في الفن. نشأت في وسط ثقافي, ودأبت منذ صغرها على الاتصال بالآثار العراقية أينما وجدت في متاحف العالم, وتوثقت صلتها في ما بعد بأعمال التنقيب من خلال مرافقتها لشقيقتها عالمة الآثار المعروفة الدكتورة سلمى الراضي. لقد وضعها ذلك الوعي المبكر بالموروث المحلي والشرقي على الطريق الصحيح للتميز في وقت كانت الأنظار فيه لا تتطلع إلا لحضارة الغرب

وفي دراستها الفنية في لندن تمرست نهى على استخدام التقنيات الحديثة واكتسبت الجرأة في الإبتكار وحرية الطرح. وظلت أعمالها تفاجئ جمهور الوافدين إلى معرضها بجدة طرحها, وطرافة موضوعاتها وإحساسها العالي بالجمال. غير أن نهى, وفي مطلع عقد الثمانينات من القرن الماضي, صحت ذات يوم لتتخذ قراراً خطيراً شكّل منعطفاً هائلاً في حياتها الفنية.

قررت أن تتخلى عن فن الخزف مدركة أنها وصلت إلى نهاية الطريق. وبكل جرأة تنازلت عن موقعها الريادي, لتعود ثانية إلى أول الطريق وتقف مثل تلميذة مبتدئة تتهجى أبجدية اللغة الفنية, تتمرن على الرسم, وتتعرف إلى فنون الخط واستخدام الزيت وتقنيات التصوير. وسرعان ما وجدت شيئاً من ضالتها في فن الحفر والطباعة غرافيك..

الفن لدى نهى كان طريقة حياة, فلا تدخل مضماراً إلا وكانت شخصيتها تتحكم فيه. في فن التصوير لجأت نهى إلى موضوعات أثيرة إلى نفسها: تصوير الناس المحيطين بها, والطبيعة التي تعشقها وتبتدع مفرداتها باستيحاء من مشاهد طبيعية عراقية, وبرؤية تعيد اكتشاف المشهد من ذاكرة خلاقة.

وقادها عشقها إلى أن تشيد دارها وسط بستان غني بأشجار النخيل والبرتقال والنارنج والرمان, في شمال بغداد. وهي الدار التي عايشت فيها أحداث حرب الخليج الثانية, وسجلت في كتابها الشهير "يوميات بغداد" مفردات حياة يومية في أدنى حالاتها الإنسانية, تحت وطأة الحصار والقصف..

أنتجت نهى مجموعة أعمال تصور مشاهد متخيلة من الطبيعة, وصوراً لأصدقاء تتمثلهم دائماً داخل مشهد طبيعي, فيه الكثير من الطرافة, وبمسحة مقاربة للفن الفطري. وقد يحار الناقد في تصنيف هذه الأعمال..

وتقويمها, غير أنه لا يخرج إلا بقناعة واحدة: تلك هي نهى الفنانة التي تعبر عن شخصيتها الفريدة من خلال فنها أيا كانت وسيلته

          


وإذ اعتادت الفنانة التعبير بالأشكال المجسدة, ثلاثية الأبعاد, وتمرست على مصاحبة رحلات الاستكشاف الآثارية, ولامست التاريخ بيديها, وقلبت أحجاره, كانت قادرة على التوصل إلى لغة بديلة تستنبط مفرداتها من الأرض.

وتحقق لها ذلك من خلال استخدام الأحجار التي بحثت عنها في بغداد وعمان وبيروت, أو أينما حلت في عواصم العالم. فانطلقت تجربتها الجديدة في استخدام الحجر وتلوينه وتركيبه, وصقل سطوحه, وإضفاء ملامح بشرية أو غير بشرية على مفرداته. في هذه التجربة وجدت نهى نهجاً توافقياً ما بين فن الخزف وفن الرسم. بل عادت بشكل أو بآخر إلى استنطاق الطبيعة, وإعادة إنتاجها برؤية نابعة من إحساسها بالانتماء إليها والتعامل معها تعاملاً مفرطاً في إنسانيته.

لكنها, وقبل تلك المرحلة كانت توصلت إلى لغة تعبيرية أخرى وجدت مفرداتها في قطع الغيار التالفة للسيارات, أو ما يصل إلى يديها من مواد معدنية مهملة كانت تلقاها على قارعة الطريق. إذ أوحت لها هذه الأشكال التي قدمتها في معرض شخصي في بغداد أولا, ثم في عمان لاحقاً ("دارة الفنون", صيف 1995), ما يمكن أن يكون قد آل إليه حال شعب محاصر بين قبضة داخلية جبارة, وقبضة خارجية لم تقم للإنسانية أي اعتبار. لقد تحول العراقيون في الداخل إلى أشكال مفرغة تالفة, ناهيك عن نظرة الفزع والأسى المنبعثة من ملامح كائنات في مسيرة احتجاجية صامتة

ومع اشتداد سنوات الحصار, وبعد صدور كتابها ذائع الصيت "يوميات بغدادية", اختارت نهى الإقامة في بيروت, المدينة التي أمضت فيها الفنانة بعضاً من سنوات شبابها, تدرس فن الخزف في الجامعة الأمير كية, وشهدت أول معارضها الخزفية, وراج اسمها في فضاءاتها الفنية قبل أي مكان آخر. وفي بيروت انطفأت شعلة روحها الوهاجة

    


ألفت كتابها (يوميات بغداد)..باللغة الإنكليزية والذي يعتبر من الكتب التي حققت أفضل المبيعات في العالم صدر عن دار الساقي عام 1998

يقع كتابها في ثلاثة فصول أساسية..الحرب والحصار..والمنفى..والذي تعلق عليه جرّاء الاهتمام الذي قوبلت به طبعات الكتاب أنني مهتمة بالكتابة..ولست كاتبة لكني تأكدت من إصابتي مكمن الأحاسيس حين أعدت قراءة ما كتبت بعد نشره

كانت قد نشرت يومياتها في الغارديان اللندنية عام 1991(وما زالت تنشر يومياتها عن الحرب حتى وفاتها) كما تولت مجلة الناقد اللندنية نشر الترجمة العربية لليوميات

وفي الفصل الأول الذي تبدأ كتابته مع أول القصف عام 1991 تنشغل نهى في وصف البيئة المحيطة بالمنزل في منطقة الصليخ قرب الأعظمية حيث كانت تعيش كانت النخلات الوحيدات التي أحببت حزينات وربما اكثر رعبا من القصف ..حتى اني اراهن مثل نساء منفوشات الشعر

ثم وتواصل رسم علاقات الناس ..وتعاونهم وتزاورهم خلال الظرف الصعب ..وتلقي الضوء على وشائج الصلات الحميمة بين الناس من الأصدقاء والأقارب ..وسط جنون الموت الذي استمر خمسة واربعين يوما من القصف

كنت افضل ان لاانام ..وكنت ارى شبح الأشياء ..او ظلّها في ضوء انقطاع الماء والكهرباء ..ونبض الحياة أيضا. وهي إذ تواصل رصد تفاصيل الحياة ترمي نظرها الى كل طرف ..الى كل الحيوات ..حتى القطط والكلاب والمخلوقات الصغيرة وهي تلوب في ظل النار ..والقتل المفتوح كما تقول.

وفي فصل الحصار تكون قد خبأت اسرار اوراق يومياتها لأنها تريد السفر وهي تخاف انكشاف اسرار كتابتها التي اخذت منحى آخر بعد ان رافقت فريقا تلفزيونيا امريكيا الى مدن عديدة تحت القصف والى مواقع الآثارية مهمة ( كنت طوال الطريق حول البلاد اتأمّل الخراب الذي شمل كل شيء من حضارة بلغ عمرها ستة آلاف سنة ..لم اكن ابكي لكنني كنت انزف في اعماقي ). ولأن يومياتها غالية ..وقريبة الى نفسها وهي حريصة على تصويرها عند صاحب المكتبة الذي يتمتع بثقتها .

           

فأنها تسمعه يقول بعد ان اذاعت الأمم المتحد ة قرارات العقوبات ..فيقول لها : لاتقلقي كثيرا ..انا ارى العراقيين جميعا يعانون من الحاجة والأسى لكني اؤكد لك انهم سيبقون وسيحيون ..وسأبقى انا ايضا

وتعلق على طاقة البقاء لدى العراقيين الذين رأوا اهوالا على مدى القرون يوم كانت الجيوش الغازية تقبل من كل مكان لتخرب المدن وتمحو آثار الحضارات كما فعل الميديون والأخمينيون ..وغيرهم حتى جاء التتار ليبيدوا كل شيء في القرن الثالث عشر ( لكن العراقيين اطلقوا طاقة البقاء ..وعاشوا الى اليوم ليروا حروبا اخرى تستهدف حضارتهم ).

وفي فصل المنفى..تكتب نهى الراضي يوميات رحيلها وتنقلها من عاصمة الى اخرى ..وترصد الهواتف وحوارات الناس وقد تعاطفوا مع البلاد فيما يقوم الطاغية بكل مايديم سلطته حتى لو كان ذلك على حساب الشعب واستقراره ..وهي تحكي عن هجرة العشرات ..والمئات والآلآف من العراقيين الذين صادفتهم مثلما تحكي عن الأصدقاء الذين هاجروا ومضوا يبحثون عن خبر ورسالة ومعلومة تطمئنهم على بعض من غوائل الزمن والهجرات والأقاصي
لدي صديق ذهب لشراء اللحم من جزار قريب ..وهناك وجد رجلا يقطع اللحم بهدوء في زاوية المحل خلف الطاولة وعندما سأل الجزار من يكون قال له . هذا جراح عراقي ولم يجد مايعمله بسبب البطاله غير ان يجرب حظه في هذه المهنة!!!

وهي ترى ان حالة المهاجرين والهاربين من الحروب والحروب المقابلة ( صورة لشتات العراقي في كل مكان )..ثم تختتم قائلة:

لايجب على العراقي ان يشقى طوال الوقت للأتيان بما يثبت كفاءته ..اذا كان في بلاده اما في الغربة فان عليه ان يفعل ذلك آلاف المرات ..وقد تابعت نهى الراضي كتابة اليوميات والرسائل والمعلومات وهي على اتصال ببلادها في المنفى وفي الداخل بحيث تكون كل طبعة من كتابها مزيدة ومنقحة ..وتحتوي الطبعة الرابعة التي لم تظهر بعد على يوميات الحرب الأخيرة التي اسقطت النظام منذ ان وطأت ارجل غارنر ارض الناصرية واقام هناك عند آثار آور خيمة كبيرة لينعقد اول مؤتمر عند موطىء ابراهيم الخليل وهي تتساءل ( لماذا اختار غارنر هذا المكان ..اليس من معنى دلالي لإبراهيم جديد يحتل العراق اليوم ) ..وتقوم الغارديان ومعهد دراسات الحرب بنشر يوميات نهى الراضي التي خسرنا فيها الأنسانة ..والخزافة والكاتبة التي يظل كتابها يوميات بغداد من اكثر الكتب قربا الى الشجن الذي يحمله العراقي في الحضور ..والغياب في البلاد وفي المنافي

توفيت يوم 31 أغسطس 2004 في بيروت فيما كانت تهم بالسفرالى أسبانيا لحضور حفل إطلاق كتابها بالأسبانية وكانت تعاني من سرطان الدم

مقتطفات من كتابها يوميات بغدادية

يبدو أن لدى الغرب ثلاث صور فقط عن العرب ـ إرهابيون, شيوخ نفطيون نساء محجبات من قمة الرأس إلى أخمص القدم. لست حتى متأكدة من أنهم يعرفون إن هناك بشر عاديون يعيشون هنا

              

هناك هدف و اعتزاز يفقدهم المرء حين لا يكون له وطن . و هذا الهدف يعني اعترافاً بك , اقراراً بوجودك أما في العالم الخارجي فإنك لا شيء , عليك أن تعرَّف و تعيد التعريف بنفسك . تبدأ من الصفر في كل مرة من أنت ؟ من أين أتيت ؟ ماذا تعمل ؟

              

لقد كان العراقيون يمارسون الاكتناز منذ قرون. إنها عادة وطنية . فلأن المرء لا يعرف أبداً متى أي شيء يكون متاحاً في السوق , يشتري ما يراه , و بكميات كبيرة . و غالبية الناس يصطفون تلقائياً حين يرون طابوراً يتكون , لا يهمهم ما يوجد في نهايته الأخرى : دهان أحذية أو صابون أو طماطم أو سلعة لا نفع فيها
                           

ختاماً لروحها ولفنها الرحمة والرفعة , تتجسد ذكراها في تلك الأبيات الرائعة لابن زريق البغدادي المتوفى عام 420لكني وجدت بعضا منها وهي

أستودع الله في بغداد لي قمـراً بالكرخ من فلك الأزرار مطلعه

ودعته وبـودي أن تـودعـنـي روح الحياة وأنـي لا أودعـه

وكم تشبث بي يوم الرحيل ضحى وأدمعي مستهـلات وأدمـعـه

وكم تشفع فـي أن لا أفـارقـه وللضرورة حال لا تشـفـعـه

الى رحمة الله يا قمر بغداد الخزفي

المصادر:

نهى الراضي التحقت بكائناتها الفريدة/ مي مظفر

الحوار المتمدن / فاروق سلوم

 

  

إذاعة وتلفزيون‏



أفلام من الذاكرة

الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

658 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع