رحلة مع المعدان

        

               رحلة مع المعدان

     

" المعدان " أيقونة الطيبة والنقاء التي أودعها الله في جنوب العراق.

يقولون: أن الملك "النعمان بن المنذر " سمع بشخص يقال له "المعيدي" دأب على مهاجمة قوافل النعمان والنيل منها، فأمر بالقبض عليه وإحضاره، فلما تم له ذلك، وجد المعيدي شخصا ضئيل الحجم، رث الهيئة، فقال مقالته الشهيرة:

(أن تسمع بالمعيدي خير من أن تراه

فأجابه "المعيدي": (الرجال مخابر لا مناظر أيها الملك).

هذا القول ينطبق على طائر ذو صوت جميل وشكل بشع، ومن هنا جاءت هذه التسمية، يعني تسمع صوت هذا الطائر أحسن من رؤيته، باعتبار أن صوته أجمل من شكله.
المعدان ومفردها معيدي، وهو الاسم الذي يعرفون به في اللهجة العراقية، وكذلك يسمون باللغة الإنكليزية (Marsh Arabs) والتي تعني عرب الأهوار، هم مجموعة سكانية عراقية موطنها الأصلي منطقة أهوار جنوب العراق.
أما عالم الاجتماع العراقي علي الوردي في كتابه الموسوم بـ (دراسة في طبيعة المجتمع العراقي)، اعطى وصف للمعيدي دون التطرق الى مصدر الكلمة، وكيف استعملت، حيث وصف (المعدان) بأنهم طبقة من المجتمع العراقي تسكن أهوار العراق منذ العصور الغابرة، وتعيش على تربية الجواميس أو ما نسميه بالعراقي (الدواب) وهي كلمة عربية فصحى.
وكشفت مجموعة العمل الدولية لشؤون السكان الأصليين، والتي تعتبر منظمة حقوقية عالمية تهتم بالدفاع عن حقوق الشعوب الأصلية، أن هناك مجموعات عديدة تمثل السكان الأصليين في منطقة الشرق الأوسط أبرزها سكان الأهوار والآشوريون في العراق.
وبحسب تقرير للمجموعة نشرته شبكة "بي بي سي" البريطانية 10 آب 2019، فان المعدان والآشوريون هم سكان العراق الأصليون، حيث يعيش سكان الأهوار "المعدان" في منطقة الأهوار جنوب العراق ولكن تناقصت أعدادهم بدرجة كبيرة في العقود الأخيرة، وتعرض موطنهم الأصلي " الأهوار" إلى التجفيف خلال عهد النظام السابق.
وهناك من علماء الأنثروبولوجيا يعتقدون انهم من بقايا السومريين، ويستدل على ذلك بأن منطقة الأهوار كانت موطن السومريين حيث مدن أكد وأور، وكذلك من وجود بعض الأدوات والعُدد السومرية التي لاتزال مستخدمة عند المعدان مثل (الفالة) و(المشحوف)، وهو وسيلة التنقل الوحيدة لديهم عبر المياه والأدغال، لكن المتفق عليه انهم من أصول سامية، وهناك من يؤكد على انهم يتحدرون من أصول عربية.
وهناك رأي أخر حيث (المعيدي) مأخوذة من المعاداة أي المناكفة والرفض، ويرى أصحاب هذا الرأي أن قوات الاحتلال الإنكليزي شجعت على استخدام هذه المفردة، بقصد تحقير سكان الأهوار الذين قاتلوا الإنكليز، عند دخولهم العراق مطلع القرن المنصرم، وأبلوا في قتالهم بلاء حسنا فتحولت عملية احتقار العراقيين الأصلاء، الى عرف سياسي غير معلن، وتقليد اجتماعي ظاهر للعيان، وسنة الأنظمة التي تعاقبت على حكم العراق.
هؤلاء الناس هم سكان المناطق التي بدأ فيها الحضارة لأول مرة، وتنشر العلم والحرف والمدنية للعالم. انهم سكان سومر واكد وأور وبابل أصل الحضارة الإنسانية والبشرية، وهم ذات القوم الذين مازالوا الى يومنا هذا يتميزون بصفات جسمانية مميزة مثل امتشاق القامة، وسعة العينين والسمرة المميزة، كما انهم الى يومنا هذا يستعملون نفس الكلمات التي كان السومريون القدامى يستخدمونها ، مثل أل (اكو) وتعني العدم والوجود وكلمة جا وتعني أذن، وكلمة الدربونة وتعني الزقاق وكلمة الشلب وتعني الرز، وكلمات أخرى كثيرة مازالوا يستخدمونها منذ زمن السومريين الى يومنا هذا، علما بانها لغة أصلية ليست مأخوذة من أحد.
الباحث العراقي عباس العزاوي يقول: في كتابه عشائر العراق أن المعدان أو المعادي هم مجموعة تمتهن تربية الجواميس كما يقول لا يرى أثراً للهنود أو الإيرانيين فيهم، ويعتقد أن الزعم بوجود أصل عراقي قديم فيهم مثل الأصل السومري لا يتجاوز حدود تخرصات "والكلام للعزاوي". حيث يذكر أن الكل متفقون على أنهم عرب، وأن تربية الجاموس لا تحقق أصلاً غريباً، وإنما تعين حاجة اقتضتها الحالة ولا يبعد أن يكون الجاموس موجوداً قبل الفتح (الفتح الإسلامي للعراق)، فاستمر وتدرب العرب على تربيته أو أن الذين تعهدوه قد اندمجوا فلم نعد نفرق بينهم وبين السكان الأصليين.
وقد قال البعض أن اصل كلمة معيدي أتت من كون الناس في هذه المناطق كانت على الدوام معادية للدولة والحكومات وتختبئ في قتالها للدولة بغابات القصب الكثيفة حيث يصعب تعقبهم، ولكن يتضح انه ليس هذا هو اصل كلمة معيدي والتي غالبا ما يقصد بها الإساءة الى هؤلاء الناس المبتلين بهذه التسمية، هنالك مرادف لهذه الكلمة في اللهجة المصرية وهي كلمة المعدي (بفتح الميم والعين) وهي تعني الشخص الذي يستخدم قاربا أو زورقا كوسيلة للتنقل في الأنهار والبحيرات والمسطحات المائية، ولان سكان الأهوار يعيشون على مناطق من مسطحات مائية واسعة ويبنون بيوتهم بشكل فني فوق هذه المسطحات المائية المسماة بالأهوار، فكان لابد لهم من استعمال القوارب والزوارق كوسيلة للتنقل وقد اشتهروا باستعمال المشحوف كوسيلة تنقل بين تجمعاتهم السكنية المقامة على هذه المسطحات المائية الشاسعة وكلمة معيدي بالآصل هي نفس الكلمة بالدارجة المصرية أي المعدي أو المعداوي ، ولكن بما أن العراقيين مولعون ومغرمون بالتصغير فقد انقلب المعدي الى المعيدي والمعداوي الى المعيداوي ، أي مستخدمي الزوارق للتنقل.
وقام مجموعة من الباحثين منهم نادية الظاهري، وماريا بالا، وأخرين دراسة على عينات من الكروموسوم والحمض النووي في مائة وثلاثة وأربعين شخصا من عرب الأهوار، وكشفت التحليلات للمجموعات الوراثية، والمجموعات الوراثية الفرعية، تمت ملاحظتها في عرب الأهوار عناصر أصيلة، منتشرة في الشرق الأوسط في المجموعات الجينية الذكرية والأنثوية على حدٍ سواء، يوحي الأصل الشرق أوسطي الشائع للسكان الحاليين لأهوار جنوب العراق، بأنه إذا ما كان عرب الأهوار من نسل السومريين القدماء، فمن المرجّح أن يكون السومريون أيضاً من السكان الأصليين.
اعتاد العراقيون أن يطلقوا كلمة معيدي على سكنة الأهوار كما اعتادوا أن يقصدوا بها معنى سلبيا وللتصغير من قيمة هذا الشخص والتقليل من شأنه، يعيش بعض المِعدان حياة البدو الرحّل، ويقومون ببناء منازل وأكواخ مؤقتة ويتنقلون مع قطعان الجواميس خاصتهم حول الأهوار تبعا لفصول السنة،

    

كما يعيش البعض على صيد الأسماك وهي التجارة التي تعد موطن قوة بالنسبة لهم ذلك أن نسبة ستون بالمائة من السمك المصطاد في العراق مصدرها مياه الأهوار.
ما نبيت منطقة الأهوار فتغلب عليه الأنواع المائية والمستنقعية في المناخ الصحراوي لجنوبي العراق، ويقدر عددها بأكثر من ثلاثة وثلاثين نوعاً، أكثرها انتشاراً القصب الذي يصل ارتفاعه إلى ستة أمتار، وينمو بكثافة كبيرة تعيق الانتقال بالقوارب إلا في الممرات العميقة نسبياً الخالية من النبات. ويتوزع القصب على جزر مبعثرة في الأهوار يقدر عددها بالآلاف، وخاصة فيما يعرف باسم «إقليم القصب» بين ناحية المدينة شرقاً إلى كرمة بني سعيد غرباً، وإلى شمال مجرى الفرات القديم وإلى أعماق أهوار جنوب الفرات بمساحة نحو الفان كيلو متر مربع.
يتألف سكان الأهوار وهوامشها من عدد من القبائل العربية أشهرها: بنو مالك والأَجْوَد وآل حميد وبنو سعيد وعشرات العشائر الصغيرة والبطون والأفخاذ المتفرعة عنها. ويؤلف معظمهم اتحاداً عشائرياً عرف باسم «المنتفق» (من الاتفاق في اللهجة المحلية) منذ منتصف القرن الثامن عشر.

                   

ويعد عرب المعدان من أبرز سكان الأهوار الداخلية، وهم بدوها الفعليون، إذ لا مساكن ثابتة يقيمون فيها، بل يتنقلون في أرجاء المنطقة مع جواميسهم في قوارب وعلى جزر عائمة من أطواف مصنوعة من القصب والبردي وغيرهما تعرف باسم «الغباشة» (أو الجباشة) و«الدِبِن» يقيمون عليها مساكنهم وأكواخهم البسيطة، ويدفعون بها إلى حيث الكلأ وحيث توجد علوه أرض ترتفع فوق المياه تعرف باسم «إشان». والكلأ في الأهوار هو محلياً «العنغر» (العنجر)، وهو القصب الصغير الغض الذي يؤلف علفاً أساسياً لجواميس المعدان ويعيش سكان الأهوار عامة في بيوت مبنية من القصب ومغطاة بُحصر القصب (البواري)، تسمى الأكواخ منها بالصريفة، وتسمى الحظائر بالسِترة، أما القاعات الكبرى ذات الأقواس والمغطاة بالحُصر فتسمى المَضيف، وهي ذات هندسة جميلة جذابة. وهو عبارة من بيت مصنوع من القصب والحصير الذي يصنع من القصب وقد يتكون من صالة رئيسيه ويجلسون الضيوف متكئين متقابلين على أعمده من القصب وعادة يكون الموقد في وسط المضيف.
تقسم الأهوار إلى مستنقعات وبحيرات مؤقتة وموسمية تتكوّن إثر فيضانات دجلة (أيار) والفرات (حزيران)، وتجف في وقت الشح للنهرين (أيلول وتشرين الأول). وأخرى دائمة تجدد الفيضانات مياهها سنوياً، وهي أهوار غرب دجلة وشمال الفرات وأهوار جنوب الفرات وغرب شط العرب. وللمياه الباطنية المرتفعة حتى مستوى سطح الأرض أثرها في بقاء الأهوار الدائمة على الرغم من درجة الحرارة العالية والتبخر الشديد والأمطار القليلة والرطوبة العالية جداً والمزعجة صيفاً.

                            

ويستعمل السكان في تنقلاتهم وأعمالهم قوارب مصنوعة محلياً منها المشحوف (جميع أشكال الزوارق الضيقة الطويلة) والبَلَم (قارب منبسط القاع طوله نحو عشرة أمتار) والطراد (قارب الشيوخ طوله نحو عشرة أمتار مزين بزخارف). وفي المنطقة قرى وبلدات ثابتة أبرزها الجبايش والمدينة والقرنة والحَمَّار. وكذلك القرى القائمة على شط الغرَّاف كالحي وقلعة سكر والرفاعي والنصر والشطرة والغرَّاف. وتشهد الأهوار هجرة سكانية إلى المدن القريبة منها منذ ثلاثة عقود ونيف، بحثاً عن حياة أفضل.
يعتمد السكان في عيشهم على الموارد الاقتصادية الطبيعية المحلية في الدرجة الأولى، وفي رأسها القصب الذي يعد الركيزة الأساسية للحياة والبقاء، وكذلك صيد السمك برماح مشعبة الرؤوس، وصيد الطرائد المائية والطيور المهاجرة، كما يربي السكان الجواميس، وللقصب استعمالات كثيرة فمنه مساكنهم وأكواخهم ومخازنهم ووقودهم وإنارتهم، ومنه تُصنع حاجات كثيرة أهمها الحصر(البواري) والقفف والأطواف والقوارب وغيرها، كذلك فإن القصب الغض علف جيد للجواميس، أما البردي فيسهم في الاستعمالات بنسب مختلفة، كما يقتات السكان على جذوره الصغيرة وأزهاره.

    

وتقوم الزراعة على هوامش المستنقعات والبحيرات، حيث تغلب زراعة القمح والشعير والرز (الشلب) وكذلك نخيل التمر، ويقدم قصب الأهوار ونباتاتها الأخرى مادة أولية مهمة لصناعة الورق في العراق لمعمل ورق البصرة (منطقة الهارثة) ومعمل ورق ميسان جنوب العمارة، وهما على نهر دجلة، حيث الماء اللازم لهذه الصناعة، وقد وضع العراق مشروعاً لتجفيف الأهوار لزيادة الأراضي الزراعية المروية ينفذ على مراحل.
حيث يشكل المعدان الغالبية من سكان الأهوار لكنهم ليسوا كل سكان الأهوار، ونسبتهم في الأهوار الشرقية أكبر من الأهوار الغربية، إذ أنتقل المعدان في السنوات الأخيرة وبفعل عدة عوامل من بينها عمليات وعملية تجفيف الأهوار بعد عام 1991م إلى مدن مجاورة وإلى خارج العراق، يعتمد على إغلاق مصادر مياه الفيض ببناء السدود والحواجز، ومنع وصولها إلى المنخفضات داخل الأهوار، وعلى شق قناة بين الفرات ودجلة، كذلك هناك مشروع لتحويل نهر الفرات من موقع قريب من سوق الشيوخ إلى الشعيبة فخور الزبير وميناء أم قصر حيث ينتهي في خور عبد الله بغية الابتعاد عن شط العرب ومشكلاته الحدودية مع إيران.
المصدر:
جريدة المدى
إيلاف ـ محمد حسن الموسوي
حسن الخياط، جغرافية أهوار ومستنقعات جنوبي العراق

  

إذاعة وتلفزيون‏



أفلام من الذاكرة

الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

716 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع