حمّامات .. ومستحمّون / حمامات السماوة وروادها

   

حمّامات .. ومستحمّون /حمامات السماوة وروادها

    

      

جاءت إنشاءات الحمامات في المدن العراقية جراء حاجة ولدتها تعاقبات ألازمان باتجاه الآفاق المدينية الحضارية التي تكرست بفعل التطور الديالكتيكي لسمة الحياة البشرية . وكانت مثل هذا الإنشاءات لابد أن ان تتم . فالإنسان الذي عشق الطبيعة يوماً وهام في دروب أبجديتها أغرته أيضاً بواعث التحضر والميل نحو ثراء الترف ، فكان إن أوجد لنفسه هذه الهياكل بعيداً عن نسمة باردة تقشعر لها بشرته فتتحبب أو هروباً من لفحة شمس تزيد من سمرته اسوداداً . وكان لوجودها اثرٌ كبير في تنمية الذوق الانساني ، إذ مال الناس إليها على حساب الاستحمام في العراء أو السباحة في النهر كوسيلة للنظافة والاستجمام .

السماوة .. حمامات وفرات
لم يكن الفرات العين الوحيدة التي ترصد جسد السماوي وهو يلج ماءه عرياناً .. ولم تكن النسمات الباردة في الضحى أو الساخنة ظهراً عند الفرات هي مَن لها حق المرور على قامته التي تاقت لماءٍ يطهِّرها من عَرقِ العمل الجهيد أو تحقيق رغبة لانتعاش يمنحه فعل الترجل نظيفاً ، نقياً ، طاهراً .
فقد شهد الفرات وكان ذلك أوائل القرن العشرين افتقاداً للأجساد السماوية وعندما تساءل ملتاعاً عن السبب قيل له : " لقد سرق زبائنَك الولهين للماء هيكلٌ بنائي لم تعرفه المدينة من قبل ,, ذلك ما يطلق عليه الحمّام " .
ولقد كان الكلامُ صادقاً .
فقد بني حمامٌ أُطلق عليه " حمام السعداوي" عام (1927) في مبتدأ شارع " مصيوي" ، قريباً من الفرات .. بناءٌ يفاجئك من لحظة الوقوف عنده بمدخلين أحدهما للرجال والآخر للنساء ؛ وكل باب يداهم الداخلَ ببخارُ ماءٍ يفقد سخونتَه بمجرد ملامسته هواء الفضاء الخارجي فتعرف أنه كان ساخناً ، وأنّه قدِم من فناء ستكتشف وأنتَ تلجّه أنّه بناءٌ إيواني له أقواس وبطون وفي وسطه المرتفع قبَّة لها نوافذ زجاجية مغلقة ؛ وأن ثمة ملابس معلَّقة على الجدران وأسفلها أرضية ترتفع عن الأرض بقدر متر ( هو المنزع قبل الدخول إلى الحمام ، وهو الملبس الذي يتم فيه ارتداء الملابس بغية الخروج ) ؛ وفي الوسط بامكانك رؤية حوض ماء لعلَّ الخارج من رحلة الاستحمام يغترف منه حفنةَ ليسكبها على قدميه قبل الصعود للجلوس على البسط التي تبدو رطبة بفعل بخار الماء الخارج من ممرٍّ عندما تدخله بعد قليل ستجد نفسَك في فضاء بخاري كثيف حيث الحمام أو المسبح ، وحيث المستحمون يجلسون عند أحواض صغيرة تصب فيها حنفيتان . الأولى تسكب ماء حاراً جداً والثانية تسكب ماء بارداً وعلى المستحم موازنة الماء بالدرجة الحرارية التي تلائمه ... وعادةً ما يجلس المستحم لوحده عند الحوض أو مع صحبه وأفراد عائلته من الذكور. وفي حالات كثرة المستحمين قد يتشارك أثنان في حوض واحد . وطبعاً هذا لا يلائم المستحمين لأن رغبتهما بدرجة حرارة الماء متفاوتة .
واستمر حمام السعداوي كأول حمّامٍ أنشىء في السماوة واستقبل الزبائن ما يقرب من عشرة أعوام عندما أغلق بسبب شراء السيد مندل الحصيني الأرض المقابلة والمجاورة للحمام بحيث صار من المتعذر على الناس الدخول والخروج إليه ، وهذا ما شكَّل عامل عدم ارتياح من أهالي المدينة ؛ فطفق أحد الشعراء الشعبيين يردد : ( الله لا ينطي "شندل " / سد الدرب ما نندل ) ؛ وبهذا أغلق حمامٌ لم يتبق منه غير هيكل ظلَّ لأعوام قليلة خلت ثم انتهى عندما هدّت المنطقة وبنيت فيها بنايات حديثة ألغت تاريخاً بقي ذكرى في ذاكرة الكبار الذين شرعت الأعوام تلتهمهم لتقودهم إلى العتمة الأبدية .
وبعده حمام السعداوي بعامين بنى آلقدوري حماماً في صوب القشلة حيث سكنهم ، وحيث وجدوا ان الصوب بسكانه بحاجة لمثل هكذا مرفق خدمي يخدم الناس من جهة ومن جهة اخرى يدر عليهم المال ويفيد في عمل عدد من العاملين ابتداءً من المشغل للنار اللاهبة اسفل ارضية الحمام إلى عمال تقديم الخدمات للمستحمين .

       

ولم تمض غير أعوام قليلة حتى بني حمام جديد ( حمام الكوثر حالياً ) في منطقة الغربي يمكن الوصول إليه من عدة منافذ لعلَّ أقصرها الطريق الصاعد من السوق الرئيسي المسقف بجوار دكاكين بيع الأعشاب والعطارة ( كان منهم دكان جيجان ) إضافةً لمنافذ أخرى تأتي من الأزقة وتكوِّن نسبة لا يستهان بها من روّاد الحمام رجالاً ونساءً على السواء . إذ كان الوقت المحدد من الصباح حتى الثالثة عصراً مقتصراً على الرجال . وبمقدور القادم قبل هذا الوقت بقليل مشاهدة النسوة جالسات على مبعدة عند الزقاق وقد احتضن ( البقجات ) بانتظار خروج آخر مستحم ذكوري .
الدخول إلى الحمام المذكور عبر باب حديدي يقود الى ممر معتمٍ وواطىء يصطدم الرأس في جبسه الذي غدا داكنا بفعل تعاقب السنين فيتسبب بشيء من الألم ، ما يلبث أن يُنسى في غمرة المشاهدة التي تُظهر جلوس صاحب الحمام في مكان مرتفع خلف مجلس أشبه بمنضدة مربعة وفوقه رأسه قطعة تطالب بتسليم الأمانات للإدارة وإلاّ فهي غير مسؤولة عن فقدانها .
بني هذا الحمام في العام ( 1933 ) بمشاركة ثلاث عوائل " آل نايف " و " آل حنوش " و " فنين " . وقد تعاقب على إدارته كل مَن " مرزا حسن " و " رسول آلدغيفل " و " كريم صالح آلبورقيبة " ، وأخيراً صار جبار يديره منذ خمسة عشر عاماً .

كان رواد الحمام المستحمون من كافة شرائح المجتمع السماوي وخصوصاً أغنياء المدينة والموظفون الذين كانوا يأتون بمناشف خاصة بهم فلا يجففون أجسادهم بعد الاستحمام بالمناشف العائدة للحمام ، وحتى " الوزرات " التي يدخلون بها للاستحمام يأتون بها ملفوفة بالبقجات . وكان هناك عاملون في الحمامات يطلق عليهم ( المدلكجية ) مهمتهم تدليك الرواد وتنظيف اجسادهم بكيس التدليك ، ويصنع هذا الكيس من القماش الخشن حيث يدخل المدلكجي كفَّه فيه ، ويروح يمرره على جسد الزبون لتنظيفه من الأوساخ بعد عملية التدليك .

     

وكان من هؤلاء العاملين حميد عبد الحسين ( ويعمل في حمام الحسيني ) ، وجاسم أخو شريدة وحلّان ( في حمام عفريت ) ، وصخيل ( في حمام الفرات ) .
والحمامات عادة ما تُفتح افي الساعة الثالثة صباحاً حيث يتم إشعال النار من قبل ( الوقّاد ) ، وبمرور ما يقرب الساعة يكون الحمام ساخناً بانتظار روّاده القادمين من البيوت للاستحمام والتطهُّر ثم التوجه إلى جامع " باقر جونه " أو جامع " حسّون الدفاعي " لأداء الصلاة .

الحمام .. صلة لها أصالتها
لقد قيل قديماً أن ثمة ثلاثة أشياء كلما مرَّ عليها الزمن كانت أكثر ثقةً ورغبةً .. والمثل يقول : " كل ما يعتك ( من عتيق ) يصير زين : الحمّام القديم ، والخل القديم ، والصديق القديم " . ولا أدري لماذا جُعل الحمّام القديم من المآثر بحيث يتوازى وأهمية الصديق ؛ غير أنه وكما قيل لي أنه كان يبنى والشقوق تتخلل جدرانه فتتسبب بدخول الهواء وتعكير مزاج المستحم . ولكن كل مستحم يدخل يحاول بما لديه من مستلزمات الورق الحاصل أو خرقة القماش المتوفرة إغلاق ما يبصر أمامه من شقوق . وبمرور الأيام تنغلق هذه الشقوق فيغدو الحمام أكثر راحةً للمستحم . وحمام ( عفريت ) الذي يحمل الآن لافتة ( حمام اللواء ) من الحمامات القديمة جداً وقد بناه اليهود من أهالي السماوة في العام (1933 ) ثم آل إلى عائلة ( آل غريب ) الذين اشتروه من اليهود . وتعاقب عليه عبد الشهيد الملقب ( عفريت)، ثم عبد جدوع وأخيراً زهير وفاضل آل محمد غريب .

         

وليس بعيداً ولكن في الطرف الشرقي بني حمام ( الفرات ) ، ويمكن الدخول إلية من السوق الكبير عبر سوق الحدادين الفرعي ، تماماً مقابل فم الزقاق الذي يدخلك إلى حمام ( الكوثر ) . لقد تم بناء هذا الحمام من قبل عباس الزهيري ثم تعاقب عليه ولده حاج خضير ثم أولاده حميد ورؤوف . وبناء هذا الحمام جاء على خلفية حكاية طريفة هي أن الشيخ محمد عبود آل عبد الرسول كان مرجعاً دينياً لمدينة السماوة ، وله سلطة دينية عليا في المنطقة وكان يرتاد الحمام . وفي ما بعد رأى أن أصحاب الحمام لم يؤدوا الوقفية ( حيث كان ملكاً وقفاً كما يفهمه دينياً ) بالصورة الصحيحة والأصولية فقرر أن لا يستحم فيه أبداً ، مفتياً أنَّ : " من دخله طاهراً خرج نجساً " . لكن التقيّد بهذا الفتوى كان نسبياً ، وأشار إلى عباس الزهيري وخضير الزهيري لبناء حمام جديد ، قائلاً : سأكون أول مستحمٍّ فيه .. كان ذلك في العام (1941 ) .

الحمامات .. تواصل مع النهر
يُلاحظ أن حمامات السماوة كانت تُبنى قريباً من الفرات . ولهذا مرجع عمراني تأسيسي موضوعي ؛ ذلك ان تعامل الحمام يتم مع الماء ، وبما أن المستحم له حق التصرف بالماء ولا توجد سلطة عليه في استخدام كميته ؛ ولكون هذا الاستعمال غير مقنن فقد كان على مُنشىء هذه الحمامات أن يضع في حسبانه تصريف الماء . إذ ليس من الحكمة أن يُنشأ خزان بكبر مدينة ليتم تصريف مياه الاستحمام إليه . وهكذا كانت حمامات ( السعداوي ) و ( الكوثر ) و ( اللواء ) و ( الفرات ) ؛ فلم تكن تبعد غير أمتار معدودات عن الفرات بحيث أن الناظر من أمام باب الحمام يستطيع مشاهدة النهر .
إلا أن حمام " الحسيني " قد شذَّ قليلاً عن هذه القاعدة ؛ هو الذي افتتح في العام 1959 وبناه السادة آل رضا آل سيد حميدي ، وأدير من قبل حمد آل محسن بايجار ثم بعد ما يقرب من العامين أدير من قبل اهله وعمل فيه اولاد السيد رضا : هاشم ، وطالب وصادق وعبد الأمير وكرم. وقد استمر طويلاً قبل أن يغلق نهائياً في العام 2001 .
تميّزَ هذا الحمام الذي كان في وقت افتتاحه عصرياً جداً ويختلف عن سابقاته من الحمامات . فقد كان ذا صالة مستطيلة كبيرة جداً ( بخلاف صالات الحمامات السابقة التي كانت دائرية يعلوها البناء القبابي ) . كما أن الجديد فيه أنه كان يحوي غرفاً صغيرة ( لوج ) للذين يرغبون الاستحمام على انفراد حيث كان الدخول إلى الغرفة يبتدىء بمنزع ثم حمام ساخن جداً . أما قاعة الاستحمام العامة فكانت كبيرة وذات سعة بحيث تستوعب ما يزيد عن الخمسين مستحماً في وقتِ واحد وبإمكانك مشاهدة " المدلكين " المستعدين لتدليك الزبون وتنظيف جسده بالـ " الكيس " ليخرج نشيطاً نظيفاً مثلما بالمستطاع ملاحظة أن فضاء القاعة يملأها البخار بحيث تبدو الأجساد المتحركة أشباحاً تخرج من بين ثنايا حلم ، والأخرى المقعية عند الأحواض كتلاً تتحرك بآلية بطيئة . أما أصوات ضربات القباقيب على الأرض الاسمنتية فكان لها دوي كأنه قادم من دهاليز قصية .

وللنساء زمنهن من الحمامات

وبما أن النساء يأخذن النسبة المتساوية مع الرجال في المجتمع السماوي فقد كان لهن الوقت المناسب للاستحمام . اعتاد أصحاب الحمامات أن يمنحوا النساء السماويات الوقت ما بعد الظهر حيث كنا نشاهدن ونحن صغار بعبائاتهن السود يصحبهن فتيات وأولاد صغار من أعمارنا يتكورن على مبعدة من أبواب الحمامات وهن يحملن الصرر( البقجات ) بانتظار خلوها من آخر رجل . حدثني عبد الأمير الشيخ كاظم أن السيد صادق طالب صاحب الحمام حدثه انه حدث مرةً أنْ تأخر احد المستحمين وكان كردياً غريباً في احد دهاليز الحمام ولم يدر وهو يستحم ان الدور صار للنساء والنساء وقتذاك قد خلعن الملابس ودخلن عاريات إلى المسبح فكان مثل هذا الحال ورطة لا يمكن الفكاك منها . إذ سيبدأ الصراخ والهلع حين تكتشف إحداهن وجود رجل وأمامه حشد من النساء العاريات ؛ وبما سيصبح الأمر أشد تعقيداً عندما يصل الخبر إلى الناس فتبدأ الأقاويل ويشرع الحديث عن الشرف والالتزام وخرق أصول العمل . وكان الرجل بريئاً ولم يبق قصداً لفعل ما يشين من عمل .. فما الذي فعلوه ؟! .. تصرفت المرأة التي تدير الحمام تصرف العقلاء واستطاعت برباطة جأش أن تنهي ألازمة والموقف العسير دون لن تشعر واحدة من المستحمات حين دخلت على الرجل الذي ذهُل للموقف الذي وجد نفسه في حرجه وناولته عباءةً نسائية طالبةً منه أن يتخفى بها ويخرج بحذر . وكان الموقف صعباً عليه صعوبة لحظة اكتشافه .. إذ كيف يتوشَّح بعباءة نسائية ويخرج كما امرأة !! لكن التفكير بالفضيحة التي ستحصل له والعواقب التي ستترتب على رفض الارتداء جعله يتراجع فيبرح المكان بالعباءة ماراً عبر المسبح والمنزع وخارجاً إلى الهواء الطلق ولكن ليس في الشارع أمام المارة والمحلات بل خلع العباءة في الفسحة بين الباب الداخل إلى الحمام والباب الخارج إلى الشارع . وبذلك تحققت أحدى المفارقات التي ظلت في ذاكرة البعض القليل والتي تنتهي بابتسامة مقتضبة أو قهقهة تلفت انتباه السامعين .

الحمام وإثارة خيال الساردين
شغف العديد من الكتاب في تدوين نصوص سردية تناولت أحداثاً جرت في فضاءات الحمامات لشخوص كان الحمام لديهم ذاكرة مكانية يفضي إلى حديث زمني يسكب أجواءً تتعالق في حيثياتها التوالي العمري والإرهاص الجوّاني لقلوب آثرت أن تحيا على هفهفة الحنين الراحل غوراً صوب منابت العمر اللهيث وبقايا الذاكرة التعبى . فتحدث القاص خضير عبد الأمير عن أجواء الحمامات وأزمنتها ووقت انفتاحها وانغلاقها والقادم إلى الحمام كي يستحم في ذلك الصباح الحيي او الفجر الصافي فيتوه بين أمواج الذهول واستحالة الوصول حيث الحمام " مفتوح .. نظيف وجوه حار ، ومياهه صافية تعيد الروح لجسد الميت " عبر نصه القصصي " العاشق والمعشق وما جرى بينهما "(1) . كما تناول كاتب هذه السطور موضوعة الحمام في نص " أحلام مشرعة " (2) حيث درجات السلم والهبوط نحو الظلمة التي توصل إلى الباب الخشبي والضوء الباهت المشبع ببخار الماء الخارج من الباحة ذات الأخاديد المتلاصقة والسقف البيضوي المقعر . كما تناولت دنيا الحمامات القاصة المغربية ربيعة ريحان في نصها " خط الغواية " (3) حيث عتمة المكان الذي تلجّه ، وشحّة الضوء دلالة حساسية الحركة الباعثة على استكناه ماضٍ دفين ، والمرأة المدلِّكة ذات الملامح الخشنة التي تقودها وهي تحتضن دلاء الاستحمام .
والمفارقة المثيرة للغرابة هي أن الكتاب الثلاثة استخدموا باعهم السردي تصويراً لإحداث أبطالها نساء حيث الراغبة في الاستحمام في حمام زرياب في نص عبد الأمير ،والفتاة التي جيء بها للاستحمام تهيئاً للزواج في نص كاتب هذه السطور ، وفي نص ريحان تفشي المرأة المُدلِّكة لإحدى الفتيات المستحمات كيف أنها كانت تعيش في الجبال وجاءت هاربة من أهل أجلاف بعدما أحبت شاباً يحبها وانكشف أمرها المريع في عرفهم .

الحمامات .. بدايات وانتهاءات
ومثلما كان للحمام صورته المشرقة الباهرة في عيون الذين يريدون للماء أن يطهرهم ببخاره الرائق ودفئه الحميم فان للحمام أيضاً نهايته المؤسية التي لا تكاد تصدق أنها ستنتهي بالتراجيدية التي حلت به ..
ففي السماوة حيث انتهى حمام السعداوي وهُدمت أساساته،وأغلق حمام الحسيني إلى لا عودة ؛ ستنتهي ما تبقى من البقية الباقية فقد جرتني الخطى إلا أن أدخل حمام الكوثر فلم أشاهد إلا ملابس معلقة لمستحمٍّ واحد لا غير ؛ وليس غير الفراغ يحتل الأخاديد الوسيعة التي كانت يوماً ما تعج بالقادمين للاستحمام أو المستحمين المتهيئين للخروج ، والصمت يتراقص على الدكَّات الفارغة . والأدهى من ذلك كان حمام الفرات بلا مستحم ، بل أنني لم أجد صاحبه الذي كنت نتخيله جالساً خلف المنضدة يتسلم الأمانات أو يسلمها كما كنت أبصره قبل عشرين عاماً وعندما كنت ألأتقط بعض الصور كدليل صوري لموضوع أثير دخل مَن كنت أراه يتبختر كالطاووس يأمر وينهي مجموعة العمال الذين كانوا ينقسمون إلى منظفين ومدلكين ومحضري وزرات ومناشف . كان يائساً بائساً حدثني عن الضرائب التي ينبغي عليه دفعها كونه يملك حماماً خُمِّن أن رواده يزيدون عن المئات يومياً ، كما حدثني عن فاتورة الماء البالغة (160) ألف دينار عن ثلاثة أشهر ويتوجب عليه دفعها بينما كان الحمام فارغاً ولم يدخله منذ الفجر حتى ضحى اللقاء غير ثلاثة أنفار يدفعون (1000) دينار أجرة الفرد الواحد ... تنبأ أن الأعوام القليلة القادمة ستكون الحمامات مجرد ذكرى لأنّه خطط كما خطط غيره من أصحاب الحمامات المتبقية أن يحيله خاناً لخزن البضائع لتنطوي حقبة زمنية كان لهذه المرافق تاريخ من الذكريات والحكايات والأحداث .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) الفرارة / خضير عبد الأمير / مجموعة قصصية / منشورات سلسلة القصة والمسرحية – وزارة الثقافة والأعلام / 1979 .
(2) مدينة الحجر / زيد الشهيد / مجموعة قصصية / السلسلة القصصية – منشورات اتحاد أدباء العراق / 1994
خط الغواية الأولى / ربيعة ريحان / نص قصصي نشر في صحيفة القدس العربي يوم الجمعة 26 يناير 199

     

  

إذاعة وتلفزيون‏



أفلام من الذاكرة

الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

701 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع