عن الفقر والثراء... لهذه الأسباب تفشل الأمم

          

وكالات الأنباء:في 2012 نشر خبير الاقتصاد الأميركي - التركي - الأرميني دارون عظيم أوغلو وخبير العلوم السياسية الأميركي جيمس إيه روبنسون أحد أهم الكتب الاقتصادية التحليلية الصادرة في القرن الحادي والعشرين حتى الآن. وتعود هذه الأهمية إلى المنظور الجديد الذي يجيب عبره المؤلفان على السؤال البسيط والمحيّر معا وهو: لماذا صارت الدول الغنية غنية والدول الفقيرة فقيرة؟

وعلى مدى 464 صفحة، سجل المؤلفان إجابتهما في هذا الكتاب المتميز الذي سمياه "لماذا تفشل الأمم؟ أصول السلطة والثراء والفقر".

ندرك أهمية الكتاب وهو يتناول موضوعا يحاول أن يشرح لنا الأسباب وراء ظواهر تصنع عناوين الأخبار اليوم على شاكلة قوارب الموت التي تحمل أحلام الأفارقة وأبناء آسيا الوسطى بالعيش في الجنة الأوروبية الغربية، ومسيرات الأميركيين اللاتينيين والجنوبيين عبر الحدود الدولية سعيا للوصول إلى "الحلم الأميركي"، وما شابه ذلك كثير. بعبارة أخرى: إن الفارق بين الدول الغنية والفقيرة صار من الضخامة بحيث أصبح التعيس الذي ولد في بلد فقير على استعداد للمغامرة بحياته نفسها وراء العيش في بلد غني.

ولأن سنينا مضت بين صدور الطبعة الأولى لكتاب عظيم أوغلو وروبنسون بينما موضوعه الأساسي يتعاظم يوما بعد الآخر، صار متوقعا - وحريا بالمؤلفيْن - أن يصدرا ملخصا تحليليا لمادتهما الأساسية مزدوج الغرض: أن يقدما جرعة صغيرة مركزة لكتابهما الخارج على المألوف، وأن يفتحا بها الشهية لقراءة الكتاب - الأصل.

أسئلة في التباين العظيم

"ربيع العرب"، في الدول التي غشاها وغيرها في المنطقة، يجد جذوره الحقيقية في فقر شعوبها. وعلى سبيل المثال فإن متوسط دخل المواطن المصري يعادل أقل من عُشر ذلك الذي يحصل عليه الأميركي. كما أن المصري يعيش في بلاد يعاني خُمسان على الأقل من سكانها الفقر المدقع ويقل فيها متوسط الأعمار بعشر سنوات عنه في الولايات المتحدة.

ورغم أن هذه بحد ذاتها فروق كبيرة، فهي تتضاءل لدى مقارنة حال الدول الغنية مثل الولايات المتحدة وألمانيا وبريطانيا وبعض أفقر بلدان العالم مثل سيراليون وزمبابوي وكوريا الشمالية وكولومبيا حيث يشكو أكثر من نصف عدد السكان من ويلات الفقر. فلماذا هذه الحال؟

لماذا ترفل دول معينة في الثراء بينما تقاسي أخرى العوز والحاجة؟ ودعك من بريطانيا وألمانيا مقارنة بهايتي وأريتريا... لماذا صارت دولة في أفريقيا السوداء مثل بوتسوانا إحدى أسرع الدول نموا في العالم بينما راحت زمبابوي والغالبية السوداء من هذه الرقعة في العالم تغوص في وحل البؤس والشقاء؟

إجابة بديلة

في محاولة للإجابة عن هذا السؤال، خرج عظيم أوغلو وجيمس روبنسون بكتابهما الذي جاء ثمرة 15 عاما من البحث في حال الأمم وما آلت اليه ويغطي المساحة الزمنية منذ دويلات حضارة المايا وطاعون الموت الأسود في أوروبا، مرورا بالثورة الصناعية، ووصولا إلى المنازلة بين الرأسمالية والشيوعية وانتهاء بربيع العرب.

وشبه اليقين أن من يُسأل عن أسباب التباين بين الدول الغنية والفقيرة سيرجع ذلك إلى عدة عوامل تتراوح بين الجغرافيا والتاريخ والثقافة والدين والمناخ والمستوى الفكري والمعرفي والتسلسل المنطقي للأحداث التاريخية. لكن المفاجأة في الكتاب (وملخصه بالتبعية) هي أن المؤلفين يستبعدان كل تلك العوامل التي تبدو، للوهلة الأولى، عين المنطق. ثم يمضيان ليطرحا علينا إجابة بديلة في "نظرية" بسيطة التركيبة وبلغة لا تسلتزم من القارئ أن يكون ملما بخبايا الاقتصاد أو عليما بمتاهات العلوم السياسية.

نوغاليس والكوريتان

للتدليل على أن ثراء الأمم وفقرها لا يجدان أسبابهما في التاريخ أو الموقع أو الثقافة أوالدين، يضرب الكاتبان أمثلة من مختلف أنحاء العالم نسوق منها أولا نوغاليس. هذه مدينة تتألف من شطرين مختلفين كل الاختلاف رغم أن ما يفصل بين الشطرين سور شائك لا أكثر: ففي الشمالي منهما يعيش السكان في رغد من العيش والأمن الغذائي والتعليمي والصحي والسياسي، على عكس الجنوبي حيث تنعدم تقريبا هذه الأشياء. ولكن ربما زال العجب اذا علمنا أن القسم الشمالي جزء من الولايات المتحدة والجنوبي جزء من المكسيك. ولهذا يعرف الشمالي باسم نوغاليس أريزونا (نسبة إلى الولاية الأميركية)، والآخر باسم نوغاليس سونورا (نسبة إلى المقاطعة المكسيكية).

المثال الثاني - علي مستوى الدول هذه المرة - هو شطري كوريا. فبينما يرزح المواطن الكوري الشمالي تحت قهر الدولة البوليسية وعبادة الفرد والفقر المدقع والمجاعة والتخلف والعزلة، يتمتع أخوه الكوري الجنوبي بمستوى معيشي وسياسي لا يقل عن الذي يتمتع به الياباني أو الفرنسي أو الأميركي بفضل التقدم التكنولوجي الهائل الذي بدأت البلاد تتجه نحوه منذ انفصال الشطرين في أعقاب الحرب الكورية (1950 - 1953).

الإجابة

سواء صار الحديث عن حالة نوغاليس أو كوريا، تجد عناصر الجغرافيا والثقافة والمناخ والتاريخ والدين هي نفسها. ومع ذلك فقسمين منهما ينعمان بالثراء بينما يكتوي الآخران بالفقر. فكيف حدث هذا؟

خلاصة الإجابة التي يقدمها المؤلفان بسيطة، وهي أن فقر الأمم يحدث عندما تسيطر قلة - صفوة على مؤسسات السلطة (السياسية وبالتالي الاقتصادية) وتحرم الأغلبية الباقية منها ومن ثمارها. ورغم أن هذا باختصار هو نتاج غربلة 464 صفحة يتألف منها هذا العمل الضخم، فهو في الواقع رحلة طويلة عبر تواريخ الأمم ومنعطفاتها السياسية وتداعياتها التي وصلت بها إلى ما هي عليه اليوم. على أن ما يصل اليه المؤلفان هو أنه بغض النظر عن اختلاف هذه الخلفيات، تظل القاعدة هي نفسها، وبالتالي النتيجة.

مصطلحات ضرورية

من اللازم لفهم نظرية المؤلفين تعريف مصطلحات أساسية تقوم عليها، وهي كالتالي:

* inclusive economy "الاقتصاد الشامل" الذي يعود بثماره على الجميع وسنسمّيه هنا "الاقتصاد الحميد".

* extractive econom"الاقتصاد النازع" الذي "تنتزع" به الأقلية ذات السلطة الثمار لنفسها فقط وسنسميه "الاقتصاد الخبيث".

* vicious circle : فلنسمها "الدائرة الخبيثة" (بدلا عن "المفرغة") تمييزا لها عنvirtuous circle "الدائرة الحميدة". الأولى هي الدورات الزمنية للاقتصاد النازع (الخبيث)، والثانية دورات الاقتصاد الشامل (الحميد).

* creative destruction: "الدمار الخلّاق" وهو التطور عبر هدم القديم وإقامة الجديد على أنقاضه مثل ماكينات الغزْل مكان المنسج اليدوي.

المؤسسات... المؤسسات!

نعلم في هذا الكتاب أن الاقتصاد الشامل (الحميد) هو المتحرر من سيطرة الصفوة الحاكمة. وهو لهذا يخلق التعليم والتكنولوجيا والأسواق وبالتالي الازدهار، بينما يعجز الاقتصاد النازع (الخبيث) عن أي من ذلك لأنه، بطبيعته، غير مصمم لصالح الجميع وإنما لصالح فرد أو صفوة صغيرة تسخّر السلطة والموارد لرخائها دون الآخرين. وكل هذا بالطبع يرتبط عضويا إما بالمؤسسة السياسية الشاملة، كما يحدث في الدول الغنية اليوم، أو بالمؤسسة السياسية النازعة التي بلغت في أمثلتها الساطعة حد توريث السلطة الجمهورية للأبناء كما حدث في كوريا الشمالية وسوريا وكاد يحدث في مصر وليبيا.

من جهة أخرى فرغم أن إنجلترا وفرنسا وإسبانيا كانت جميعا "قوى عظمى" بين القرنين السابع عشر والتاسع عشر ووجدت في التجارة عبر المحيط الأطلسي مصادر عظيمة للثروة، فقد كانت إنجلترا هي المستفيد الأكبر في ما يتعلق بالرخاء العام. والسبب في هذا هو أن أرباح التجارة الأطلسية كانت حكرا على العرش في كل من إسبانبا وفرنسا، بينما استطاع البرلمان الإنجليزي الحد من السلطات والمنافع الملكية بعد "الثورة المجيدة" Glorious Revolution فحولت البنية الاقتصادية من نازعة (بيد القصر) إلى شاملة (تقتسمها الأمة بأكملها).

ومن هذين الاقتصادين تتفرع المؤسسات التابعة لكل منهما: المؤسسات الشاملة (الحميدة) والمؤسسات النازعة (الخبيثة) التي تتولى ترجمة كل منهما إلى واقع ملموس. وهكذا يعود نجاح الدول أو فشلها اقتصاديا إلى التباين في هذه المؤسسات وكيفية تأثيرها على عمل النبية الاقتصادية نفسها، ونوع الحوافز التي تحرك الناس باتجاه الإنتاج. والخلاصة في هذا الشأن هي أن الدولة ذات المؤسسات الشاملة تحفّز الجميع على العمل لأن الثمار تعود على الجميع، وهذا على عكس ما يحدث في الدولة ذات المؤسسات النازعة.

ملاحظات في الفقر والثراء

استنادا على الأمثلة العديدة التي يسوقها المؤلفان، مثل اختلاف الشطرين الكوريين، والولايات المتحدة إزاء المكسيك ومعظم أنحاء أميركا اللاتينية والجنوبية، وأوروبا الغربية إزاء الشرقية والدول الصناعية إزاء الأفريقية والعربية، يشدد الكتاب على أن المؤسسات التي يفرزها الاقتصاد النازع الخبيث أو الاقتصاد الشامل الحميد هي الوحيدة القادرة على شرح أسباب التباين بين الفقر والثراء. ويتلخص الإطار الذي يحوي هذا التفسير في الآتي:

* في ما يتعلق بإنجلترا (ولاحقا أوروبا الغربية وبقية العالم الصناعي - الديمقراطي الآن)، فقد نشأت المؤسسات الشاملة من تلاقح عوامل حاسمة أهمها التجارة عبر المحيط الأطلسي وطبيعة المؤسسات السابقة لهذا الأمر (مثل موقف الصفوة السياسية من العرش وإلى أي حد يستطيع هذا الأخير السيطرة على موارد البلاد وثرواتها).

* أن تلك المؤسسات دامت وتعززت لتشكل الأرضية الصحيحة للثورة الصناعية كناتج منطقي لما كان، وأيضا لأن الظروف الوليدة والمستجدة كانت حميدة في سوادها الأعظم.

* أن الأنظمة الاستبدادية، على اختلاف أشكالها في مختلف أنحاء العالم، صرفت كل جهدها للحفاظ على المؤسسات النازعة الخبيثة (سبيل بقائها الوحيدة) في وجه التقدم التكنولوجي الهائل الذي أتت به الثورة الصناعية، لأنه يأتي بالدمار الخلاق الذي يقيم الجديد على أنقاض الثوابت ولا يصب تالياً في مصلحتها.

* أن القوى الأوروبية الاستعمارية نفسها (الرافلة في نعيم المؤسسات الشاملة على أراضيها) حرّمت على الرقاع التي استعمرتها إقامة مؤسسات شبيهة على أراضيها هي أيضا.

* أن الدوائر الخبيثة، وما أنتجته من دوام سيادة الصفوة، صارت الدعامة الرئيسية للمؤسسات الخبيثة بحيث أن البلاد التي لم تغشها رياح الثورة الصناعية ظلت غير قادرة على الإتيان بتطور مماثل.

تنبؤات

يحاجج المؤلفان بأن بطء الحركة الذي تتسم به الدوائر الخبيثة والحميدة على السواء يجعل من السهل التنبؤ بأن الدول الغنيّة مثل الولايات المتحدة وألمانيا وبريطانيا (ذات الدوائر الحميدة) ستظل على هذا الحال لفترة السنوات الخمسين - وربما المائة المقبلة - حتى وإن بدأت تغير مسارها الآن إلى الدوائر الخبيثة (وهذا ليس واردا بالطبع بسبب رسوخ مؤسساتها الحميدة). واستنادا إلى بطء الحركة نفسه فستظل الرقاع التي تلفها الدوائر الخبيثة مثل افريقيا والشرق الأوسط واميركا الجنوبية وجنوب آسيا على حالها - أي فقيرة - في أفضل الأحوال.

لكن الأنباء الطيبة بالنسبة للأجيال المقبلة هي أن بوسع الدول التي ترزح تحت سيطرة المؤسسات الخبيثة وداوئرها أن تكسر هذا الطوق وتبدأ مسيرتها - على طولها - نحو الثراء. ولكن حتى هنا فثمة استثناءات من هذه البشارة مثل أفغانستان والصومال. أما السبب في هذا المصير فهو إما ضعف السلطة المركزية أو غيابها بالكامل، وهي إحدى أهم مقومات الاقتصاد الشامل الحميد.

وأخيرا فهذا الكتاب وملخصه يقدمان الإجابة الشافية لسؤال بسيط ومشروع ويبدو محيّرا بشكل خاص لسائر الشعوب الفقيرة: لماذا كل هذا الفقر لنا وكل ذلك الثراء لغيرنا؟


الكتابان:

* لماذا تفشل الأمم - أصول السلطة والازدهار والفقر (الكتاب والملخص)

Why Nations Fail - The Origins of Power, Prosperity and Poverty

* المؤلفان: دارون عظيم اوغلو وجيمس ايه روبنسون

* دار بروفايل بوكس 2012

* ملخص الكتاب: إنستاريد 2019

* 464 صفحة في الكتاب و30 صفحة في ملخصه

المؤلفان:

* دارون أسيموغلو: اميركي تركي من أصل أرميني، تلقى تعليمه العالي بجامعة يورك ونال دكتوراه الرياضيات الاقتصادية من جامعة لندن سكول اوف ايكونوميكس. حاليا بروفيسير الاقتصاد في معهد ماساشوستس للتكنولوجيا MIT. حائز ميدالية كون بيتس كلارك التي تمنح كل سنتين لخبير الاقتصاد (دون سن الأربعين) المُعتبر صاحب المساهمة الأفضل في نشر المعرفة والفكر الاقتصاديين.

* جيمس روبنسون: أميركي، بروفيسير العلوم السياسية بجامعة هارفارد وخبير مرموق دوليا في شؤون أميركا اللاتينية وأفريقيا. من أبرزإصداراته الأخرى سيرة حياة الرئيس الأميركي رتشارد نيكسون.

  

إذاعة وتلفزيون‏



أفلام من الذاكرة

الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

623 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع