«نهاية التاريخ» إذ تبدأ بـ «مزحة» وتنتهي بغزو قاتل

      

                  من أجواء(ربيع براغ)

الشرق الأوسط:في مثل هذا اليوم تماماً قبل خمسين سنة، تحركت قوات ما كان يسمّى «حلف وارسو» الشقيقة لتغزو ما كان يُعرف حينذاك بتشيكوسلوفاكيا واضعة نهاية، كانت متوقعة في أي حال، لتلك الحقبة العارضة من تاريخ مدينة براغ، الحقبة التي عُرفت بـ «ربيع براغ»، واتسمت، وهذا أمر لا ينبغي اليوم أن يُنسى أبداً، بسعي، لا إلى تدمير الاشتراكية، بل إلى منحها وجهاً إنسانياً، وفق ما كان يريد ألكسندر دوبتشيك، الزعيم «الشيوعي» التشيخي الذي كان أول ضحايا الغزو الشقي، بعدما كان وضع ثقله التاريخي والفكري من أجل ما أُطلق عليه اسم «اشتراكية ذات وجه إنساني».

دخلت جحافل الحلف الاشتراكي يومذاك، وتمكنت في ساعات من القضاء على حراك الطلاب والمثقفين الذي كان مجرد جزء من حركة الشبيبة العالمية المتمردة على كل شيء، من الرأسمالية إلى الستالينية إلى حرب فيتنام إلى سلطة الآباء وإفراط الدولة في استخدام العنف والرقابة، خصوصاً، على الجمودية الحزبية في كل مكان. كان الحراك يريد أن يحرك التاريخ إلى أمام، ولكن في كل مكان في العالم يومذاك، كانت القوى الرافضة ذلك التحريك بالمرصاد، ومنها خصوصاً قوى وأحزاب حلف واريو التي تدور في فلك موسكو.

مع هذا، كانت للحراك التشيكوسلوفاكي خصوصيات تميّزه هو الذي كان، وبكل صراحة هذه المرة، حراكاً ثقافياً إبداعياً قاده مئات الفنانين والكتاب الذين تجمعوا بكل ثقة ليوقعوا معاً ما سمي يومذاك بيان «الألفي كلمة»، والذين تحرّك الطلاب - وصولاً إلى انتحار الطالب يان بالاش حارقاً نفسه بعد ذلك بشهور - تحت عبائتهم. من هنا، يتوقف كثر اليوم عند تلك الشرارة التي يُعزى إليها، وعن غير إرادة منها ومن صاحبها، إطلاق ذلك اللهيب الذي، لئن أتى الغزو الشقيق يومذاك ليطفئه، فإن الإطفاء لم يكن سوى رد فعل موقت، لأنه كان هو ذاته بداية لنهاية تاريخ ما... بداية لنهاية محاولات الاشتراكية اجتراح معجزة إنقاذ نفسها من البراثن الستالينية/ البريجنيفية.

كان عنوان تلك «الشرارة» بسيطاً ولكن مخادعاً: «المزحة». وكانت عبارة عن رواية كتبها وأصدرها ميلان كونديرا الذي لم يكن بعد عام 1967 أصبح ذلك الكاتب الكبير. بل كان مثقفاً يسوؤه ما يحدث في بلده من قمع واضطهاد وتحويل الطلاب إلى مخبرين وسيطرة للحزب الواحد ونسف كل ما هو إنساني في الفكر الاشتراكي، فأصدر تلك الرواية التي ظل مصراً على اعتبارها «مجرد حكاية حب»، لكنها، وبغير إرادة منه، تحوّلت أيقونة. فالمزحة البسيطة التي كلّفت صاحبها، أحد أبطال الرواية، جاروسلاف، طرداً من الحزب والجامعة، سرعان ما تبدّت قاتلة في بلد يميل دائماً إلى المزاح إلى درجة أن جدران براغ التي صارت صحفاً يومية ما إن اندلع الربيع، ومناشير احتجاج ما إن بدأ الغزو الشقيق، صارت هي كلها مزحة كبيرة بعباراتها اللئيمة وسخريتها الرهيبة وعنفها اللفظي.

يومذاك كما نعرف، قبل نصف قرن من الآن، انتصرت دبابات حلف وارسو على «المزحة» كما على كل أنواع المزاح... ولكن إلى حين فقط، إذ فيما «المزحة» - رواية كونديرا - بقيت محملة بمجد التاريخ، لم يعد لتلك الدبابات وجنودها من أثر... أللهم إلا تذكاراً بائساً يُحتفل به مرة كل نصف قرن في الأكثر!

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

714 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع