التعليم العالي في العراق.. تراجع القيم الأكاديمية وتدهور الإدارة الجامعية

               

                     لا تعليم ناجحا في مجتمع كاسد

لم يتوقف تأثير الحرب والأزمات السياسية في العراق على البنى التحتية فحسب؛ المستشفيات وشبكات الكهرباء والمياه وغيرها، وإنما امتدّ إلى أحد أكثر القطاعات حيوية، وهو قطاع التعليم، الذي تراجع بشكل كبير، وتأثر بالمتغيرات السياسية في البلاد، ولم تعد الجامعات العراقية قبلة رئيسية للطلاب العرب والأجانب، بل تحوّلت مؤسسات التعليم العالي نفسها إلى أدوات لتعزيز التمييز بين العراقيين وتطبيق الأجندات الأيديولوجية، وإعادة إنتاج التخلف الثقافي والتطرف العقائدي.

العرب /همام طه:يعاني التعليم العالي في العراق من اختلالات هيكلية مرتبطة بفشل الدولة التي سقطت في أتون أزمة عميقة. وأدّت هذه الأزمة الوجودية إلى اختلال شامل في الرؤى الاقتصادية والاجتماعية والثقافية لدى المؤسسات التي تصنع القرارات وترسم السياسات. وباتت هذه المؤسسات عاجزة عن إشباع الحاجات الأساسية والإيفاء بالحقوق الإنسانية للأفراد، ما أدّى إلى الإخفاق في تحقيق الاستقرار السياسي ووضع البلاد على طرق التنمية المستدامة والمتكاملة للمجتمع.

ومعالجة أزمة التعليم العالي في العراق تكون عبر معالجة الأزمة بقمة هرم السلطة في النظام الاجتماعي، أي أزمة التوجّه العام للدولة؛ فلا نهوض للتعليم نحو الجودة والجدوى، أو للبحث العلمي نحو الجدّة والجدّية، ولا للمجتمع نحو التجدد الحضاري في دولة تعاني من التفكك في رؤيتها السياسية، والضبابية في نظرتها إلى نفسها ومجتمعها، والفوضوية في إداراتها والعشوائية في سياساتها.

وفي وقت يتجه فيه العالم إلى تعزيز استقلالية الجامعات لما في ذلك من تدعيم مناخات صناعة المعرفة، ولتحريرها من الأطر البيروقراطية باتجاه المزيد من الحريات الجامعية المؤطرة بقيم الرصانة العلمية والانضباط الأكاديمي، فإن ما تفعله النخبة السياسية هو تصدير أزمتها الحزبية والسلطوية إلى الجامعات العراقية.

يحصل ذلك عندما يتم ترشيح وزراء للتعليم العالي على أساس المحاصصة الطائفية، ما يعني سلب الجامعات استقلاليتها عبر وضعها تحت سلطة أحد الأحزاب الحاكمة، ومن ثم تخريب الأجواء الدراسية جرّاء إثارة الحساسيات الجهوية والطائفية بين الكوادر التدريسية وبين الطلبة، نتيجة إخضاع المؤسسات الأكاديمية لسلطة مؤدلجة ذات طبيعة محاصصة.


التعليم والتنمية

التعليم ابن التنمية، وواقعه يعكس واقعها، إن خيرا فخير، وإن شرا فشرّ، فلا تعليم ناجحا في مجتمع كاسد تنمويا، ولا تنمية حقيقية من دون تعليم فعّال. ولا إصلاح للتعليم من دون إصلاح للسياقات السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي تتحرك في إطارها استراتيجية التعليم؛ أساسيا كان أم جامعيا. وإذا كانت القطاعات المختلفة في المجتمع تدفع ثمن هيمنة العقلية الريعية على صناعة القرار، وغياب الوعي التنموي لدى السلطة، وحضور العشوائية بدل التخطيط النبيه، فإن قطاع التعليم هو أكثرها تضررا لأنه يرتبط بالتنمية ارتباطا وثيقا، فالريعية تقتل الإبداع وتدمّر سوق العمل.

وبينما يسود توجّه عالمي يقوم على دمج الجامعات بشكل تحالفات أكاديمية كبرى لزيادة الكفاءة العلمية والبحثية، وتفعيل دور الجامعة في خدمة المجتمع وعملية التنمية، يتم في العراق تفريخ كليات أهلية بإمكانات محدودة وتحت مظلات سياسية، على غرار التجربة اللبنانية حيث تمنح إجازات تأسيس جامعات لزعماء الطوائف.

ويوضح الباحثان العراقيان صلاح الحديثي وسالم سليمان في دراسة لهما، حول التعليم العالي في العراق، أن منظومة التعليم العالي مسؤولة عن أهم مكون في العملية الإنتاجية وهو العنصر البشري، وعليه يتوقف تطور المجتمع في الاتجاهات كافة، وأن الوعي بأهمية هذه المنظومة يجعلها عملية استثمارية مستدامة تسهم بصورة مستمرة في خلق القيمة المضافة وتعزيز رفاهية المجتمع وتقدم الدولة، أما حين نفشل في استخدام هذه المنظومة بالاتجاه الإيجابي، تستطرد الدراسة، فإن النتيجة خسائر مادية واجتماعية وخيمة، متمثلة في هدر الأموال والطاقات، وتخلف المجتمع وتدني المعيشة.

ويضيف الباحثان أن الإدارة الجامعية هي الجهاز العصبي للجامعة، والمسؤولة عن تحقيق استجابات حكيمة، مركزية وآنية للمواقف والأزمات. ويصفانها بالعنصر الرابط بين مكونات المنظومة الجامعية. لكنهما يؤكدان أن ثقافة إدارة التعليم العالي العراقي عاجزة عن قيادة عملية التغيير في الجامعات، ففي الغالب لا يتغير بتبديل القيادات سوى التوقيع أو الإمضاء.

ويرجع هذا الواقع إلى سوء اختيار الإدارات الجامعية بفعل عدم وجود مواصفات واضحة للقيادة الجامعية، وغياب أسس الاختيار السليم، وحضور المعايير الشخصية والمحسوبيات، ما يتسبب بحسب الدراسة في عدم قدرة صناع القرار الأكاديمي على تشخيص الكثير من المعوقات وانعدام المبادرة لديهم.

وتشخّص الدراسة ظاهرة غياب الفهم الصحيح لدى القيادات الجامعية لدورها في تكوين الموارد البشرية اللازمة للعملية التدريسية، على صعيد تشكيل الهيئات التدريسية، وبناء القدرات والتقويم التدريسي، والتقويم العلمي للبحوث، وتقويم الطلبة وتصميم المناهج والخطط البحثية وجودة البحوث، مشيرة إلى أن البعض من القيادات الجامعية لا تتمتع بالمؤهلات الذاتية والموضوعية لهذه المهمة، وأن الإتيان بها تمّ على أساس معايير المسؤول عن الترشيح ودرجة الولاء والطاعة لدى المرشحين، أو سلبيات ونقاط ضعف تتيح السيطرة عليهم.


يحذر صلاح الحديثي وسالم سليمان من التقادم العلمي لأعضاء هيئة التدريس، أي ابتعاد التدريسي عن التواصل مع الحداثة العلمية، وبقاؤه على معلوماته القديمة، فيدعوان إلى اعتماد ثلاثية الاتصال والتواصل والمواصلة في تطوير التدريسيين، واعتماد المتابعة العلمية والبحث والانفتاح على المجتمع، والدراسات الميدانية والاشتباك مع هموم السكان، والتركيز على العمل البحثي الذي يشغل سنوات عمر التدريسي ويعيش معه.

ويقول الباحثان إن المخاض الفكري ضرورة لتطوير التدريسي لأنه يخفض من عبء العملية التدريسية عليه؛ فكلما كان أكثر نضجا علميا كان أكثر قدرة على العطاء التدريسي. ولغرض تطوير التدريسي تطالب الدراسة بتأسيس معهد المدرس الجامعي الذي يتم فيه إعداد المدرس، وتزويده بمهارات التدريس وطرائقه وأساليبه وتقنياته الحديثة، وإخضاعه لاختبارات رصينة، وأن يكون اجتياز المعهد شرطا أساسيا للتعيين في وظيفة التدريس الجامعي، ومن ثم يخضع المدرس للتطوير المستمر بعد ذلك.

ومن الظواهر التي يعاني منها التعليم العالي في العراق، وفق الدراسة، عدم تواؤم مواصفات الخريج مع متطلبات سوق العمل، وهو ما أفرز ظاهرة “البطالة النوعية”، أي البطالة الناجمة عن عمل الفرد في غير تخصصه، وهو ما يرجعه الباحثان إلى واحد من الاختلالات التي يعاني منها التأهيل الجامعي في العراق ممثلا في اتجاهه لتثقيف الطلبة نظريا عوض إعدادهم تطبيقيا لسوق العمل.

ويلفت الحديثي وسليمان إلى عدم قدرة الخريجين على الانخراط في العمل ميدانيا من دون تلقي التدريب المهني، وشعور الطلبة بأن ما درسوه لا علاقة له بالعمل الفعلي، كما يلاحظان التوسع في الاختصاصات الإنسانية على حساب التخصصات العلمية، مؤكدَين أن ذلك لا يتم تبعا لحاجة المجتمع الآنية أو المستقبلية، ولا على أساس نوعية الطالب، ولكن لأن للتخصصات الإنسانية طاقة استيعابية كبيرة ولا تحتاج إلى المستلزمات المادية والكوادر التعليمية التي تحتاجها التخصصات العلمية التطبيقية.

تمييز تعليمي

يعدّ التعليم من أهم وسائل تعزيز الاندماج الاجتماعي وتجفيف منابع التمييز في المجتمعات. ولكن في العراق الأمر مغاير، فقد تحوّلت مؤسسات التعليم العالي نفسها إلى أدوات لتعزيز التمييز بين العراقيين والعراقيات، وتطبيق الأجندات الأيديولوجية وإعادة إنتاج التخلف الثقافي والتطرف العقائدي. والأمثلة على ذلك متعددة، منها إعلان وزارة التعليم العالي أنها بصدد السعي إلى تأسيس جامعة خاصة بالبنات، وصدور قرار عن إحدى الإدارات الجامعية يقضي بمنع عمل موظفات في مكاتب عمداء الكليات الذكور.

إن الفصل بين الذكور والإناث من شأنه تعميق التطرف والأمراض النفسية والاجتماعية، وضرب التماسك الاجتماعي والحطّ من شأن المرأة، وتكريس الهامشية النسوية في المجتمع. وهو يعكس خضوع الدولة للرغبات المتطرفة.

إن طرح قضية الاختلاط في الجامعات مؤشر على درجة خضوع المؤسسة التعليمية للأدلجة الحزبية من ناحية، وللثقافة العقائدية المتخلفة من ناحية ثانية. في حين أن مجتمعات عربية قريبة من العراق ومحافظة وذات طبيعة قبلية أيضا، مثل الأردن، لا تعتمد الفصل بين الجنسين في جامعاتها.

ولا تقتصر الأزمات البنيوية على الجامعات الحكومية، بل تمتدّ إلى التعليم العالي الخاص، إذ يقول محمد طاقة، العميد السابق لكلية بغداد للعلوم الاقتصادية الأهلية، إن التعليم العالي الأهلي يعاني من اختلالات هيكلية كثيرة، ولا سيّما في العلاقات بين العناصر الأساسية للعملية التعليمية ومستلزماتها المادية والبشرية.

ويعزو ذلك إلى غياب الوضوح الفكري والفلسفي في تحديد مسارات هذا القطاع في المجتمع العراقي، ما أدى إلى عدم وجود استراتيجية لهذا القطاع المهم في عملية التنمية، فضلا عن انعدام التناغم المطلوب بين العناصر الفاعلة التي تؤثر سلبا أو إيجابا في هذه الاختلالات.

ويؤكد طاقة، في دراسة له، أن الظروف الاستثنائية التي مر بها العراق، ووجود أكثر من جهة رسمية وغير رسمية تمارس الضغوط على وزارة التعليم العالي لتحديد مساراتها بما ينسجم مع أهداف تلك الجهات، أدّيا إلى فقدان السيطرة على مسارات التعليم العالي الأهلي، وأسهما في تعميق مشاكله.

ويلفت إلى تعدد المرجعيات التي توجّه التعليم العالي الأهلي، وكثرة التعليمات وتناقضها مع بعضها، ما أسهم في تعقيد المشكلات بدلا من حلها، وأثر سلبا على سمعة الجامعات والكليات الأهلية في العراق نتيجة إضراره بمستواها العلمي وتسببه في ضعف مخرجاتها، الأمر الذي بلور، برأيه، نظرة مجتمعية تميل إلى السلبية تجاه الكليات الأهلية؛ لكنه يعتقد أيضا أن عددا من الكليات الأهلية استطاعت مضاهاة الكليات الحكومية في مستوى المخرجات.

ويقول طاقة إن أغلب الأقسام العلمية في الكليات الأهلية لم تفتح على أساس دراسة أو خطة مركزية أو تصورات واضحة، وليست لها علاقة فعلية بعملية التنمية، مشددا على أن استحداث أي قسم علمي ينبغي أن يكون مرتبطا بعملية التنمية الاجتماعية والاقتصادية للمجتمع، وأن يكون ذلك ضمن خطة واضحة المعالم لدى وزارة التعليم العالي.

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

814 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع