التمثال العراقي أيقونة تغيبها عن شوارع بغداد أيدٍ خفية يعرفها الجميع

      

    مسار تدمير الحريات في العراق لم يبدأ بمنع الخمور

ثقافة العنف والسلب والفساد التي عممتها أميركا في العراق عبر أحزاب طائفية ونفوذ إيران نتجت عنها أضرار طالت كل ماله علاقة بتاريخ المنطقة.

العرب سمير السعيدي/بغداد- قانون واردات البلديات الذي أقره مجلس النواب العراقي قبل أيام، أثار جدلاً واسعاً، حول محاولة تغيير هوية العراق المدنية، وتطبيق الشريعة على طريقة الولي الفقيه، من خلال حكومة تدّعي أنها حكومة ديمقراطية. تضمّن هذا القانون فقرة تحظر استيراد وتصنيع وبيع المشروبات الكحولية بكافة أنواعها، وقد اعتبر كثير من السياسيين العراقيين هذه الفقرة “غير دستورية وتتناقض مع الحقوق والحريات الفردية ومبادئ الديمقراطية”.

لكن خطوة منع الخمور لم تكن أولى خطوات تغيير هوية العراق والعراقيين، والبغداديون منهم بشكل خاص، الذين يقارنون اليوم، بين ما حصل لبلادهم وعاصمتهم وقت اجتاحها المغول في العام 1258 على يد هولاكو وعاث فيها قتلا ونهبا وتدميرا وفسادا، وبين ما يحدث في البلاد منذ العام 2003 حتى الآن، فعاد، كما يقولون، هولاكو بلباس آخر، وعادت بغداد إلى موعدها مع المأساة، لتعيد إلى الأذهان قصص النهب والسلب والقتل والتدمير.

ولكن هذه العودة تجيء هذه المرة بشكل آخر، تقودها عصابات منظمة من خارج الحدود وداخله، تحت إشراف المحتل الأميركي. فبعد سرقة المتحف العراقي والمكتبة الوطنية ومكتبة الأوقاف، التي تضم تحفاً ومجوهرات وأختاماً وآثاراً ومصاحف ومخطوطات نادرة لا تقدّر بثمن، عمر أغلبها يمتد للآلاف من الأعوام، اتسعت دائرة النهب والتدمير لتشمل النصب الفنية والتماثيل في ساحات بغداد ومعالمها الحضارية، وقد بدأت تلك الحملة المنظمة بسرقة تمثال عبدالمحسن السعدون، أول رئيس وزراء عراقي في العصر الحديث، ثم نصب ثوّار حركة مايس في ساحة أمّ الطبول، أول حركة عربية عسكرية منظمة قاومت الاحتلال الإنكليزي بقيادة رشيد عالي الكيلاني والضبّاط الأربعة الأبطال، ثم نصب الأسرى العراقيين في السجون الإيرانية، ثم تمثال الأمّ العراقية عند مدخل مدينة الثورة (أطلقوا عليها اسم الصدر الآن)، باعتباره يجسد مفاتن أنثوية تتعارض مع أخلاق الأحزاب الطائفية الحاكمة.


نصب الحرية

سرقوا تمثال الفارابي والمتنبي، وفجّروا بعبوات ناسفة تمثال مؤسس بغداد ومهندسها وخليفتها العباسي أبو جعفر المنصور. هدّموا نصب المسيرة للنحات خالد الرحّال في منطقة علاوي الحلة، ونصب اللقاء في ساحة اللقاء في منطقة المنصور، ونصب قوس النصر. القائمة تطول وتطول حتى خشي البغداديون والمعنيون والمثقفون، من أن يستيقظوا ذات صباح ليجدوا نصب الحرية الذي يتوسط ميدان التحرير وقد اختفى كليّاً، في عصر تلك الحريّة التي يدّعون، والتي منحت اللصوص ورجال العصابات المنظمة فقط حريّة نهب وتدمير كل شيء في البلاد.

مخاوف الناس تلك، وإن بدت تخمينية، لكن في الواقع كان قد حدث البعض منها بالفعل. فقد تمت سرقة القوالب الأساسية التي صُبت فيها القطع الأصلية الأربع عشرة للنسخة الأصلية لنصب الحرية منذ فترة ٍ قريبة، وذلك لمنع أيّ إمكانية لإعادة نصب أو صبّ أو ترميم أي قطعة منه، في حال هدمه أو نسفه أو تفجيره، هذا النصب العملاق الفريد في الشرق الأوسط، والمقام منذ أكثر من خمسين عاما.

نصب الحريّة الذي استمد الفنان جواد سليم تصميمه من وحي الضمير الجمعي الحضاري للعراق، منحه طاقة الأسطورة في استنطاق مفردات التحوّل المدني للحياة وللحكم وللجموع، هو إعادة بناء للمخيال الإنساني الإبداعي لما مرّت به حضارات وادي الرافدين وأهلها، منذ أوروك وأور وبابل، مرورا بمراحل الغزوات والحروب والانهيارات، إلى المستقبل وفق منظور الإرادة، وليس منطق القدر، لذا كان اللغز الطليق في هذا النصب لجواد سليم هو مفردة الحرية، تلك القراءة الفنية الحضارية التي جعلت من اللاشعور الجمعي مرئيا، وأسست معمارا جماليا لحلم الناس بالتغيير وتحقيق شرطها الإنساني على مر العصور.

حروب المالكي على النصب الفنية

ليس مصادفة أن تجد اليوم، كما في الأمس، الملايين وهي تتظاهر عند نصب الحريّة في ميدان التحرير، أمامه ومن خلفه ومن حوله، وهي تطالب بحقوقها وليس هذا إلا محاكاة جماهيرية مباشرة لمفردات نصب الحرية، لأن أحلام هذه الجموع وتطلعاتها مخزونة في تفاصيل نصب الحرية أصلا، لتعويض الحاضر بالمستقبل المرتكز على أساسيات ضرورة الحلم بالتغيير، تلك هي أسطورة الحريّة بمفهومها الرمزي والبنائي والجمالي، لتجد لها نسقا في الخطاب الجماهيري الذي يبحث دائما عن الحضارة والمدنية والدولة ومفهوم السيادة.

       

تمثالا الفارابي والمتنبي يصنفان من الأعمال المسروقة اليوم من بغداد، أما تمثال مؤسس بغداد ومهندسها وخليفتها العباسي أبي جعفر المنصور فقد تم نسفه ونقل بقاياه ومعه نصب المسيرة للنحات خالد الرحال في منطقة علاوي الحلة

أحد مساعدي النحّات خالد الرحّال، وهو موظف مرموق في دائرة الفنون التشكيلية يقول لـ”العرب”: لقد شنّت حكومتا المالكي والجعفري حربا غير حضارية وغير أخلاقية على النصب الفنية في العراق، وفي بغداد بشكل خاص. فأزالت نصب المسيرة من موقعه في منطقة علاوي الحلة (جانب الكرخ)، ونسفت ميليشيات مسلحة نصب باني بغداد ومهندسها وخليفتها العباسي أبي جعفر المنصور، وكذلك نصب اللقاء لرجل وامرأة عراقيين، في ساحة اللقاء في حيّ المنصور.

كما أن الحكومات العراقية المتعاقبة لم تستجب حتى اليوم لنداءات الفنانين والمثقفين العراقيين بضرورة الحفاظ على تلك النصب الفنية، كذلك هدموا نصب قوس النصر لخالد الرحّال، وتبنّت إعادة ترميمه مؤسسة الذاكرة العراقية لكنعان مكيّة، ودائما يتم التغاضي عن تلك الأفعال الوحشية التي تمس حضارة البلد ورموزه الفنية والوطنية التاريخية، وباتت الاستغاثات اليوم تطالب بالحفاظ على المتبقّي من تلك التماثيل والنصب الفنية في ساحات بغداد العامة من أيدي تلك الميليشيات والعصابات المخصصة والمسلحة بالعدد والخطط لإتلاف حضارة وادي الرافدين.

سرقة تمثال السعدون تمت في يوم كان فيه حظر التجوال مفروضاً، تحت أعين جيش الاحتلال الأميركي. فمن يمكنه تنفيذ أيّ سرقة في حالة الحظر إن لم تكن العملية كلها مدبرة بإشراف المالكي وأوامر إيران وموافقة الاحتلال؟ وهي عمليات مقصودة ومدروسة الأهداف، والتي على رأسها إتلاف خصوصية الهوية الوطنية العراقية بشطب رموزها وفنونها وموروثها، وإلا لمَ ذهب عبدالعزيز الحكيم بحماية الجيش الأميركي إلى ساحة الطيران عند نصب الضباط الأحرار الذين حاربوا الإنكليز، ثوّار حركة مايس لعام 1941 (الكيلاني والصبّاغ وفهمي سعيد وكامل شبيب) ليقول شامتا “ها قد انتهينا من العروبة وإلى الأبد”، وفي ذات اليوم تم نسف نصب الضباط الوطنيين الأحرار؟

وفي نفس المسعى لطمس الهوية العراقية الوطنية، وليس بعيدا عن نصب الضباط الأحرار، تم هدم تمثال الطبقجلي والشوّاف، كذلك جرى نسف تمثال الطيّار العراقي عبدالله لعيبي، الشهير بأنه أثناء حرب السنوات الثماني في ثمانينات القرن العشرين، اختار الاصطدام بطائرة إيرانية بعد نفاد وقود طائرته في الجو. لقد تمت سرقة وصهر أغلب تلك النصب وهرّبت معادنها إلى إيران.

                      

كهرمانة والأربعين حرامي

نصب كهرمانة والأربعين حرامي للفنان محمد غني حكمت، يمثّل جزءًا أصيلاً من هوية بغداد. ومن خصوصية منطقة الكرّادة حصراً، والنصب مهمل منذ أعوام بقصدية واضحة، يعبث به العابثون والسرّاق وليست هنالك أيّ إجراءات من قبل أمانة بغداد لحمايته، لا بل قامت تلك الأمانة بطلائه بلون غير محسوب فنيا (ذهبي)، ومن دون استشارة فنانين مختصين، ومن بعد عشرات الاستنكارات في الصحف والإعلام، أزالت الأمانة ذلك اللون وأعادت لون النصب السابق.

نصب البساط السحري، لمحمد غني حكمت أيضا، والذي يجسّد إحدى حكايات ألف ليلة وليلة، مازال قائما ولكنه مغيّب وكأنه غير موجود، بحكم حجزه وحجره بكتل كونكريتية صمّاء كبيرة، تلغي دور أيّ نصب فني أو معماري مهما كان مميزاً، تلك الحواجز الإسمنتية التي وضعت لحماية مسؤولي الطوائف الحاكمة وعرباتهم، بالقرب من سلسلة الفنادق الشهيرة، حيث يقام نصب البساط السحري.

ليس مصادفة أن تجد اليوم، كما في الأمس، الملايين وهي تتظاهر عند نصب الحريّة في ميدان التحرير، أمامه ومن خلفه ومن حوله، وهي تطالب بحقوقها وليس هذا إلا محاكاة جماهيرية مباشرة لمفردات نصب الحرية

التمثال الوحيد المحظوظ حتى الآن في ظل ما جرى ويجري في بغداد هو تمثال عبّاس بن فرناس، رمز وحلم الطيران العربي المبكّر في تراثنا، حيث يقيم في منطقة محصّنة في داخل منطقة مطار بغداد الدولي، وهو ما أتاح له فرصة فرد جناحيه بكل أريحية واطمئنان في الهواء الطلق، بعيدا ًعن عصابات الميليشيات المسلحة، متعددة الأغراض، وبعيدا عن مفخخاتها.

تغييب سومر وآشور

هذا الغزو والنهب المنظم نتجت عنه أضرار لا يمكن تقديرها بيسر، لأنها طالت كل ماله علاقة بتاريخ العراق الثقافي والفني والوطني الحضاري عبر الآلاف من السنين، فما نُهب وهرّب من المتحف الوطني فقط، يضم المئات من المنحوتات والتحف التاريخية والمجوهرات والحليّ النادرة والأختام الأسطوانية، التي تعود إلى عصور سومر وآشور وأكد وبابل، كلها هرّبت عبر طهران وغيرها إلى دول أخرى، عبر عصابات معدّة سلفا لمثل هذا الغرض الوحشي المحسوب. أغلب تلك العمليات الممنهجة نفذتها عصابات كانت تحمل عددا وحقائب مجهّزة لحفظ ما جاؤوا من أجل سرقته، ولكل عصابة حقائب مختلفة عن الجماعة الأخرى.

هذا بعض ما جرى لنصب وتماثيل العاصمة بغداد، التي كان من الواجب الحفاظ عليها، لأنها تمّثل هوية العراق الحضارية والثقافية والفنية والوطنية، فهي ذات خصوصية فنية تراثية فريدة، تحيل إلى معان إنسانية وإبداعية متعددة، وتزيد من الثقافة البصريّة للرائي، وتعمّق إحساسه بانتمائه إلى بلده وأرضه وحضارته، لكن ثقافة العنف والتفخيخ والسلب والنهب والفساد التي عممتها أميركا في العراق، عبر زمر الأحزاب الطائفية ونفوذ إيران وسلطتها المطلقة عليهم، هي التي جعلت عموم الشعب العراقي اليوم يقارن في ما بينهم وبين غزو جيش المغول قبل المئات من السنين.

أطفال الگاردينيا

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

725 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع