يهود العراق ذكريات وشجون. الحلقة / التاسعة عشر

     

       يهود العراق، ذكريات وشجون، الحلقة التاسعة عشر

       

      

                 بقلم: أ.د.شموئيل ( سامي) موريه

       

وفي ظهيرة صيف لاهب في شهر آب، يحرق المسمار في الباب، سمعتُ قفزة خفيفة على سطح دارنا، أقوى من قفزة قط شبق لاهث يلاحق قطة جاءها الوحام و"تبيع له بالغالي". صعدت الدرج إلى السطح وأبصرت شبحا يحاول الاختباء في غرفة السطح حيث كنت أحاول إخفاء جراء الكلاب والقطط التي كنت أعثر عليها ملقاة في الطريق، ولكن العطش والجوع والوحدة كانت تجبرها على المواء والأنين، فيكشف الوالد مكانها ويأمر بإلقائها مرة أخرى في عز حرارة الشمس اللافحة على قارعة الطريق ولا تجدي دموعنا الغزيرة وتوسلاتنا الحارة فتيلا. لم تكن هناك قطة ترضع صغارها بل وجدت بدلها فتاة بيضاء كستنائية الشعر في العشرين من عمرها "متكومة" في زاوية الغرفة الحارة، قالت لي بتوسل وقد احتضنت بعض الثياب التي جمعتها من حبال الغسيل لسطوح الجيران "عطشانه، ماي، ماي". صحت دون وعي مني:

"حرامية، حرامية، شدتسوين هنا!"، جاء الوالد والأخوة وأمسكنا بيدها وأنزلناها إلى الصالون، قدمنا لها كأس ماء بارد من الناقوطة التي تحت الحِبّ، وطلبنا الشرطة. جاء شرطي يميل شاربه الى الشقرة وتحدث معها بـ"التلكيفي"، ثم قال لنا إنها جاءت من الشمال تفتش عن عمل وسيأخذها الى الشرطة. قيل لنا فيما بعد إنها هربت من الشرطي أو سَمَح لها بالذهاب بعد أن أكدت له بانها ستعود الى أهلها. ثم سمعت بقية الحادثة من صديق وجار عزيز لنا هو منشي حاي الذي كان مع أخويه يعقوب ونوري من الذين يتسقطون أخبار العكد وفضائحه. قال لي إن "التلكيفية" اغتنمت غفلة من عائلته بعد هروبها من الشرطي وعندما وجدت باب بيتهم مواربا صعدت الى السطح بخفة الفهد ومنها "حادها حظها" إلى عرين الأسود"، إلى بيت عقيد الركن.

قالت والدة منشي حاي: "وهذا منير الزابط، الله يعتقو، غادا من الله. مغاتو كانت حـِبْـلى والله بعثا اليانو الهايي العرموطايي، والله طعانو وعوضلو وغضانو، ليش؟ كيف كان يسوي مليح (أعمال يثاب عليها) ويا اليهود! المسكين ساغلو أسابيع ممسوي شين. أخذا للحمام وغسلا بالماي البيغد والصبون أبو الغيحي وليّفا بالليفايي ونشفا، وطلعا مثل العغوص قتتلاصف، وأتالي نام بيها دك، وطلع بيها درد الله مالو، ومسيبا إلى ما مر كيم اسبوع وخاف لتحبل، طعاها كيم دينار ولزما الدغب. وهايي ساغت بلاعة الموس، الخايبي خو متقدغ تحكي. والله ما يقطع، وقفتلو (شفعت له) المليحات (الأعمال الحسنة التي يثاب عليها المرء) اللي سواها ويا اليهود والله ابعثلو هاي التلكيفيي الحلوة وقضا بيها شغلو لـِمَا، تالي متالي ولدت امغاتو وجابت ولد كني قمر أبو الأغبطاعش!".

هكذا سمعت القصة بحذافيرها، والعتب على الراوي إذا كان من يتشكك في فحواها أو في صدقها.
 وكنت في الرابعة عشر من عمري وصرت اشعر بخدر لذيذ وأنا أنظر محدقا في عيون الفتاة اليهوديات اللواتي كن يذهبن الى مدرسة الأليانس وخاصة عندما كانت عيناي تتعاصص، كما قال الشاعر المرحوم الجواهري، مع عيني فتاة جريئة تحاول الغوص الى اعماق فحولتي التي بدأت تستيقظ متثائبة غير واعية بما يجري في أعماقي رويدا، رويدا.

فلما وعيت بها صدمتني بشيء من الرهبة، فلم تكن لنا ثقافة جنسية واعية كما هو الأمر اليوم مع طلاب المدارس الابتدائية الذين يستطيعون تعليم والديهم في بعض الأحيان أمورا "علمية" جديدة تمنعهم من الانزلاق نحو الأمراض والرذيلة. كنت قد سمعت همسات عن الجمال الرائع لزوجة العقيد الشابة ولكن أحدا لم يرها. كنت أسير في أحد أيام العطلة الصيفية في ضحى يوم جميل من أمام اللوحة السحرية أمني النفس بنظرة.

         

وفجأة فتح الباب ووقفت فتاة رائعة الجمال بثوب بيت أبيض شفاف ونظرت إلي بعينين كعيني حورية من حور الجنة، وابتسمت ابتسامة رائعة ساحرة،  وتعاصصت عيوننا ورحت في سكرة وجد روحية بريئة مهومة، بقيت سكرتها تبعث أياما عديدة شحنات من السحر إلى قلبي البتول.

فهمت عند ذاك روعة الجمال الذي أوحى إلى الشاعر أن يقول: "أمنتُ بالله، نور جمالك آية، آية من الله، أمنت بالله".

فالنور الذي يشع من عينين جميلتين ساحرتين يعمّد الناظر إليه ويطهره، ويقول الشاعر الأندلسي يهودا هليفي (اللاوي) في كتابه "البرهان والدليل في نصرة الدين الذليل" أو "كتاب الخزري"، أن ملك الخزر فضل الديانة اليهودية على غيرها عندما علم إن بني إسرائيل الذين تعمدوا بنور السكينة التي شعت من نور الله حين أنزل الله التوراة على كليمه في طور سينا، تطهروا وشهدت على ذلك الآية الكريمة "آتينا بني إسرائيل الكتاب والحكم والنبوة". والآن بعد أن تمرستُ في الحياة أدركت لماذا عفا هرون الرشيد عن أبي نواس الذي أغضب الخليفة بفكاهة سمجة، فدعا بالسياف مسرور وبالنطع. فلما جثا أبو نواس على النطع ورأي الموت المحقق، وقد جرد السياف سيفه منتظرا إشارة مولاه، نظر النواسي الى الخليفة متوسلا بآخر سهم في جعبة الأعذار والشفاعات وقال والدموع في مآقيه: "أتقتل يا مولاي رجلا نظرت عيناه جمال زبيدة؟". فلو لم يدرك أبو نواس أن للجمال نورا يطهر الناظرين ويعمدهم، لما أتى بهذا العذر الذي لم يستطع هرون الرشيد رده، فعفا عنه، وذلك لأن "الله جميل يحب الجمال".  
 كنت معجبا بأبي منير، فقد كان رقيقا معنا ويبدي نحونا نحن الصغار عاطفة أبوية، كنت إذا رأيته صباحا في طريقي الى مدرسة السعدون أحييه "صباح الخير!"، فرد عليّ باسما: "يا هلا بالطير!، واشلونك بالدراسة يا سبع، وسلم على الوالد!". فيمتلئ قلبي فرحا لهذا الحوار اللطيف مع ضابط كبير وله ابن ضابط وليس ككل الضباط، فهو طيار باسل وعقيد.

                                   

وفي أيام حركة رشيد عالي كانت الطائرات البريطانية تصول وتجول في سماء بغداد، سمعنا ذات مساء دوي طائرات وصلية رشاشات، صعدنا الى السطح لنشاهد معركة جوية بين طائرة انكليزية سوداء بجناح واحد تطارد طائرة عراقية بجناحين وتطلق عليها الرصاص. صعدت معي أختي كلادس بثوب البيت البرتقالي الفضفاض ووقفت معي تتطلع إلى المعركة الجوية والهواء ينشب جاعلا من ثوبها راية مرفرفة. سمعنا صوت أبو منير "بنتي! أنزلي للبيت بسرعة ترى ثوبج يبين للطيارين".

عدونا نازلين الى الدار ونحن نعجب من أدب أبي منير، حينما كان كبار الضباط العراقيون يتحلون بأخلاق الملوك الهاشميين، في وقت كان اليهودي إذا سار في الطريق وطائرة بريطانية محلقة في الجو يتهم بأنه يبعث إليها بإشارات لاسلكية بيديه أو بالدكمة (الزر) المعدني في سترته وغيرها من التهم التي ما أنزل الله بها من سلطان. وعندما كان أبطال الفتوة المقدادية يجرون اليهودي عنوة الى مراكز الشرطة، كان الضباط يسخرون من الخيال الشعبي لهذه التهم الملفقة. روى لي صديقي الأستاذ نير شوحيط  مؤلف كتاب "قصة مهجر" أي المهجر العراقي، وهو من كبار أدباء العمارة في إسرائيل كيف ساق رجال الفتوة رجلا يهوديا بدعوى أنهم قبضوا عليه وهو يقطع أسلاك التلغراف لشل المجهود الحربي، فلما سأل ضابط الشرطة: "زين وين المقص؟"، أجاب أفراد الفتوة "عمي هذا اليهودي لما لزمناه بلع المقص".

ضحك الضابط لهذه المسخرة وقال لهم "ولكم يا طراطير! يا أدب سـزّيـّة، مرة اللخره جيبولي حجة أحسن من هاي!"، وأطلق سراح اليهودي.

وعلى اثر هذه المعركة الجوية الحامية التي لم نر نهايتها، شاعت في العراق رواية عجيبة عن بطولة أحد الطيارين العراقيين. نفد رصاص رشاش طائرة عراقية كانت تلاحق طائرة بريطانية، فما كان من الطيار العراقي الباسل إلا أن يطير بموازاة طائرة العدو ويخرج مسدسه ويقفز على الطيار الإنكليز ويطلق النار عليه ويرديه قتيلا ويعود إلى طائرته ثم إلي قاعدته سالما، وكانت "القوانة" التي تذيعها محطة الاذاعة العراقية هي "وقد عادت جميع طائراتنا إلى قواعدها سالمة" من قصف قواعد العدو الغاشم في سن الذبان والحبانية.

 كان تأثير العقيد الطيار كبيرا على أبناء العكد، وكان البعض منا يتمنى أن يصبح طيارا مثله معززا مكرما وعلى صدره نياشين البطولة. وعندما سألني أخو زوجة عبد القدير ونحن على عتبة التسقيط والسفر، ماذا أريد أن أكون في المستقبل؟ أجبته بفخر وبصورة تلقائية دون أن أفكر بوقع كلماتي على الأصدقاء، وصورة عقيد الركن بشارة الطيار والأوسمة على صدره تبتسم لي، "أريد أن أكون طيارا!"، صاح بأخته: "شوفي يامّا، صديقكم يريد ايصير طيار باسرائيل ورجع يقصفنا!". استدركت قائلا بأني أحب العراق ولا أفكر في إيذائه، فلم يعر جوابي كبير اهتمام وشعرت بأنني أهنت أصدقائي بهذا الجواب الذي كان مصدره الإعجاب بحامي حينا الطيار. وعندما جندت في إسرائيل، أردت تحقيق حلمي وتقليد العقيد منير حلمي، فباءت الجهود بالفشل: "أنت لا تحسن العبرية وأنت تعاني من سوء التغذية ونقص الوزن"، وراحت عليّ، إذ لم تستسغ معدتي هذا الطعام الغث الذي يرى في السمك الفسيخ برائحته الكريهة من أطايب الطعام.
 أما أخو إلياهو، فقد ابتسم له الحظ، ولعله كان مثلي يرى في العقيد الطيار المثل الأعلى للرجولة والبطولة. نلت الدكتوراه من جامعة لندن وأصبحت أستاذا في الجامعة العبرية وكان من طلابي بعض زملائي في مدرسة شماش الثانوية من الذين التحقوا بالحركة الصهيونية السرية أو الحركة  الشيوعية، وضحوا بالدراسة وفروا إلى إسرائيل. وهناك أرادوا الحصول على الشهادة الثانوية فكلفهم الأمر في تعلمهم العبرية بمستوى يستطيعون اجتياز امتحانات الدراسة الثانوية وللالتحاق بالجامعة العبرية، ثلاث سنوات و أكثر. شكرنا الوالد وقلنا له لو لم تشجعنا على التفرغ لإنهاء الدراسة الثانوية في العراق، لأصبحنا مثل هؤلاء الذين ضيعوا السنين الثمينة في مقتبل العمر وفورة الشباب التي يجب تكريسها لبناء المستقبل.
وفي معارك الاستنزاف على قناة السويس، سمعنا باسم طيار إسرائيلي أسْقِطتْ طائرته ووقع أسيرا بأيدي قوات الجيش المصري. قال لي أخي ريمون: "سامي! هذا مَكـنـّي كان جيغانا، أخونو اللياهو؟" أجبته: "إي والله صدق، هذا كان يتباهى بالعقيد الركن اللى ساعدو الأخونو لياهو، وقيبيّن غاد يقلدو العقيد منير الطيار!". نشرت الصحف الإسرائيلية بعد عودة جارنا ابن البتاويين من الأسر، أن هذا الطيار كان يلعب أيام الأسر، الكرة الطائرة مع أسرى إسرائيليين آخرين، فرأى فجأة أن بعض الجنود المصريين يرفعون العلم المصري وباقي الجنود في شغل شاغل، لا يكترثون برفع العلم ولا هم يحزنون. لا أدري ما ذا دفع جارنا أخو الياهو في أن يترك الكرة تسقط من يده ويقف وقفة استعداد عسكرية تحية للعلم المصري، وتبعه باقي الأسرى الإسرائيليين. بهت الجنود والضباط المصريون وشعروا بالخجل، أسرى الأعداء يحيون العلم المصري بوقفة استعداد عسكرية أماهم أصحاب القضية فلا يكترثون بالأمر. ومنذ تلك الوقفة الاستعدادية واللفة الكريمة لأبن أم الياهو، صار الجنود والضباط المصريون يقلدون الأسرى الإسرائيليين في احترامهم لرموز الوطن ويقفون وقفة جدية بتحية عسكرية مشرفة. قلت لأخي ريمون ضاحكا: "أقسم بالله بأن الصفعات التي كالها أبو منير الطيار للجندي العراقي الذي مرّ من أمامه دون أن "يضربله تحية عسكرية"، هي التي فعلت فعلها وجعلت جارنا يتذكر بأن عليه أن يقف احتراما للعلم المصري. فقد اشتهرت صفعات أبو منير الضابط في كل العكد والعكود الأخرى وبقينا نتحدث عنها طوال شهور عديدة". ضحك أخي ريمون ضحكته العالية المرحة وقال :"والله سامي، تغا بيها الحكيي غاس!" (والله، أظن أن في تفسيرك شيء من الصحة).

للراغبين الأطلاع على الحلقة السابقة:

http://www.algardenia.com/2014-04-04-19-52-20/fereboaliraq/19272-2015-10-01-09-22-36.html

           

  

إذاعة وتلفزيون‏



أفلام من الذاكرة

الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

1038 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع