قصة الخلافات بين خروشوف وعبد الناصر -١

  

قصة الخلافات بين خروشوف وعبد الناصر -١
نصوص الرسائل السرية المتبادلة بين الزعيمين

       
موسكو ـ د. سامى عمارة:الوثائق كما الأرقام لا تكذب. وشهود العيان ومهما بلغت ذاكرتهم من حدة لا يمكن ان يكونوا وحدهم المرجع الرئيسى لرصد وقائع التاريخ وتعرجاته. ولذا ومن هذا المنظور تحديدا، نعود الى استكمال ما سبق وسجلناه على صفحات الاهرام فى شهرى ابريل ومايو الماضيين حول وثائق العلاقات المصرية السوفيتية»، التى ثمة من يقول انها لم تغير وحسب تاريخ وأسس العلاقات الدولية، بل أيضا جغرافية المنطقة، وهو ما سنحاول الخوض فى تفاصيله من واقع وثائق وسجلات المؤسسات السوفيتية الروسية.

كانت الاحداث التى شهدتها المنطقة ابان سنوات الوحدة بين مصر وسوريا دفعت بالعلاقات بين مصر والاتحاد السوفيتى الى مجرى التوتر والخلافات ولم تكن مضت طويلا على درب الاتفاق، تحت وقع الحملات المضادة من جانب الشيوعيين السوريين، وكذلك الرئيس عبد الكريم قاسم والشيوعيين العراقيين. وزاد من حدة ذلك التوتر جنوح القيادة الحزبية السوفيتية صوب تبنى توجهات الرفاق، وتأييدهم فى مواجهة القوميين ممن كانوا يحظون بتأييد عبد الناصر، فضلا عن بدء حملة اعتقالات الشيوعيين المصريين فى عام1958، ما كان فى صدارة اسباب حملات التلاسن الكلامية بين الزعيمين ناصر وخروشوف.

    


وكان الزعيم السوفيتى نيكيتا خروشوف قد انتقد سياسات عبد الناصر ومواقفه من الشيوعيين العرب والمصريين فى تقريره الذى قدمه الى المؤتمر الحادى والعشرين للحزب الشيوعى السوفيتى فى 27 يناير 1959، فى معرض رده على خطاب عبد الناصر فى 23 ديسمبر 1958 فى بورسعيد بمناسبة ذكرى الانتصار على العدوان الثلاثي، وعلى ما سبق واتهم به الحزب الشيوعى السورى بمحاولة اجهاض الوحدة والعمل ضد فكرة القومية العربية.

فلم يكن خروشوف ليستطيع وبطبيعة الحال الصمت تجاه كل هذه الاتهامات فى حق الرفاق من الشيوعيين العرب فى مثل هذه المناسبة بالغة الاهمية.

قال خروشوف:

لقد شهدت مصر ونتيجة تعبئة جهود كل القوى الوطنية نجاح النضال من اجل طرد المستعمرين، ومن اجل تأميم قناة السويس. كما رحبت كل القوى البشرية التقدمية بحركة التحرر الوطنى فى مصر.

وفى العراق جرى طرد الطغمة الرجعية التى كانت تقوم على خدمة الإمبريالية، بينما تم اعلان قيام الجمهورية المستقلة. وقد أيد الشعب السوفيتى وشعوب كل البلدان الاشتراكية النضال العادل للشعوب العربية، فيما لقى التعاطف الحار من جانب المواطنين السوفيت ابرز شخصيات هذه الحركة وهما جمال عبد الناصر رئيس الجمهورية العربية المتحدة وعبد الكريم قاسم رئيس الحكومة العراقية.

أن بلادنا شأن البلدان الاشتراكية الاخرى دعمت وتدعم حركة التحرر الوطني. ولم يتدخل الاتحاد السوفيتى ولا يعتزم التدخل فى الشئون الداخلية للبلدان الاخري. لكننا لا نستطيع التزام الصمت تجاه ما يحدث فى بعض الدول ومات يجرى من حملات ضد القوى التقدمية تحت شعارات زائفة معادية للشيوعية.

ولما كانت صدرت فى الجمهورية العربية المتحدة منذ زمن غير بعيد أفعال مضادة للافكار الشيوعية، وجرى توجيه الاتهامات ضد الشيوعيين ، فإننى وكشيوعى فى مؤتمرنا للحزب الشيوعى أرى انه من الضرورى اعلان انه من غير الصحيح توجيه الاتهام للشيوعيين بانهم يعملون من اجل اضعاف او فرقة الجهود الوطنية فى النضال ضد الإمبريالية. وعلى العكس .. فليس هناك اناس اكثر ثباتا وصمودا من القوى الشيوعية فى النضال ضد المستعمرين. (تصفيق حاد متواصل).

كما انه لايوجد من هو اكثر ثباتا وصمودا فى النضال ضد الامبريالية من القوى الشيوعية. وليس من قبيل الصدفة ان الامبرياليين يوجهون سهامهم ضد الحركة الشيوعية.

إن النضال ضد الاحزاب الشيوعية والتقدمية الاخرى قضية رجعية ، كما ان انتهاج سياسة معاداة الشيوعية لا توحد القوى الوطنية، بل تفرقها. ولعله من السذاجة ايضا مساواة الشيوعية بالصهيونية. فمن المعروف للجميع ان الشيوعيين بما فى ذلك داخل اسرائيل يخوضون النضال ضد الصهيونية. ومن غير المنطقى ان نرى فى كل شئ دسائس الشيوعيين.

وقال ايضا : انه يوجد أكثر من 32 مليوناً أعضاء فى الأحزاب الشيوعية فى 83 دولة بينما نفى أن يكون الاتحاد السوفيتى يقوم بتوجيه الأحزاب الشيوعية الأجنبية.

فماذا كان رد عبد الناصر على مثل هذا الخطاب؟

ولقد كان الأمر الذى استوجب التصريحات التى لم تقع منكم موقع الرضا-عن الحقيقة فى أمر العدوان الثلاثي؛ أن إذاعات تنطق باسمكم، وصحفاً تصدر فى بلادكم، راحت-وسط مناقشات بيننا وبين الحزب الشيوعى السورى -تعود بالفضل كله إلى هذا الإنذار! وكان واجباً أن أضع دور الشعب المصرى فى مكانه الصحيح.

إننا نقدر موقفكم ونفهم دوافعه، ولم يخطر ببالنا أن نطلب منكم أن تدخلوا حرباً عالمية من أجلنا!

لقد اتهمتونا بالتدخل فى الشئون الداخلية لغيرنا، بل أيضا فى شئون الاتحاد السوفيتي!

وبالنسبة للوحدة فقد كانت الشواهد تشير إلى أن الاتجاه الجديد إليها لا يلائم ميولكم ورغباتكم. وقد كان موقف الحزب الشيوعى من الوحدة؛ أنه لم يتقبل الإجماع الشامل للشعب السورى على قيامها، وكان النائب الشيوعى خالد بكداش هو الوحيد الذى فضل أن يهرب، ثم وجدناه يلجأ إلى بعض بلدان الكتلة الاشتراكية. وأخيراً وقف بجواركم فى احتفال المؤتمر الـ21 للحزب الشيوعي، وراح يتهجم على حكومة بلاده، الأمر الذى سبب لنا القلق والانزعاج؛ ومبعثه أن تنتهك مبادئ التعايش السلمى بهذا الشكل العلني!

وكان أيضاً مما يشير إلى اتجاهكم؛ أن الاتحاد السوفيتي، بعد إعلان الوحدة فى أول فبراير 1958من القاهرة، ظل أكثر من أسبوعين حريصاً على الامتناع عن إبداء رأيه فيها.

ولقد كانت ثورة العراق بداية للأزمة الطارئة على علاقاتنا، وإن كان الكثير مما ورد فى خطابكم، قد فتح عيوننا إلى أن أسباب سوء الفهم بيننا كانت تمتد إلى ما قبل هذه الثورة بكثير!

ومن عجب أننا نسمع من دوائر مختلفة هجوماً على القومية العربية كأساس! إن التضامن مع ثورة العراق بدأ منذ وقت طويل؛ فإن عدداً من قادة ثورة العراق-وبينهم قاسم رئيس الحكومة العراقية-قد اتصلوا بنا قبل الثورة، وطلبوا أن نساعدهم فى تخطيطها. وكانت نصيحتنا إليهم؛ أن يحفظوا أمرهم سراً حتى علينا، وألا ينشدوا العون إلا من شعبهم، وألا يتولى وضع خطة الثورة إلا الذين سوف يقع عليهم عبء تنفيذها.

وبعد أن نجحت ثورة العراق، أراد الحزب الشيوعى العراقى انتهاز الفرصة للسيطرة عليها؛ فاستغل خلافاً شخصياً نشب بين قاسم ونائبه عارف؛ لكى يخلق جواً من البلبلة يساعده على تحقيق أغراضه!

وقد أدهشنى أنك فى خطابك ناقشت ما قلته فى إحدى خطبي؛ من أن الشيوعيين أتباع يتلقون التعليمات من الخارج! ولقد كان توحد الأحزاب الثلاثة الشيوعية الموجودة فى مصر، هو الذى فرض عليَّ، يوم الاحتفال بالجلاء عن بورسعيد فى 23 ديسمبر الماضي، أن أشير إلى النشاط المعادى للوطن الذى تقوم به المنظمات الشيوعية.

وقد شرحنا أن هجومنا لا يتجه إلى الشيوعية كعقيدة؛ لأن ذلك ليس من شأننا، كذلك كان هجومنا لا يتعدى هؤلاء الذين يدعون الشيوعية فى بلادنا، ولكن محاولاتنا لم تكن كافية لشرح وجهة نظرنا!

وقد أرسلت لكم رسالة مع سفيركم ديمترى كيسيليف؛ أشرح لكم فيها أن صداقة الشعوب العربية لكم لا ترجع إلى نشاط الأحزاب الشيوعية، بل هى بالرغم من هذه الأحزاب الشيوعية!

ثم جاء خطابكم فى تكريم الوفد العراقى فى 16 مارس 1959، وبدا منه أنكم غيرتم موقفكم؛ فبعد أن كنتم تتعاملون مع القوى الوطنية بدأتم الآن تفضلون التعامل مع الأحزاب الشيوعية. وقد كان من العجيب أن تتصدى بنفسك للدفاع عنهم وتبرير تصرفاتهم!

ويتلخص الموقف الآن فيما يلي: أننا وجدنا أنفسنا مرغمين على الدفاع عن بلادنا ضد نشاط المنظمات الشيوعية داخل حدود (الجمهورية العربية المتحدة )، وضد مساندتك شخصياً لهذا الحزب، ثم فى وجه الحرب العنيفة من جانب الأحزاب والمنظمات الشيوعية فى العالم.

هذه كانت الرسالة التى رد عبد الناصر من خلالها على اتهامات وانتقادات خروشوف. لكنها لم تكن وبطبيعة الحال القول الفصل فى علاقات ابدى الجانبان تمسكهما بضرورة تطويرها واعادتها الى سابق عهدها فى اطار الصداقة والتعاون المتكافئ والتفاهم المتبادل بعيدا عن التدخل فى الشئون الداخلية .

وذلك ما اكدته الكثير من الوثائق التى اطلعنا عليها فى ارشيف وزارة الخارجية السوفيتية ومنها رسالة السفير يفجينى كيسيليوف الى وزارة الخارجية السوفيتية حول لقائه فى القاهرة مع ابو نصير وزير الشئون البلدية والقروية فى 30 مايو 1959 ، تحت رقم 172 بتاريخ 5 يونيو 1959 تحمل خاتم سري.

فى هذه الرسالة اشار السفير السوفيتى الى ان الوزير المصرى فسر النبرة الحادة لخطاب عبد الناصر فى بور سعيد بقوله: ان الخطاب وما تضمنه كان عمليا ذروة حالة الغضب التى كانت تعتمل فى نفس عبد الناصر منذ بداية عام 1958، تحت تأثير تقارير عبد اللطيف البغدادي، والعمرى رئيس البنك الاهلى والتى كانت تقول ان الاستمرار فى التوسع فى العلاقات الاقتصادية مع الاتحاد السوفيتى والمعسكر الاشتراكى لن يسفر عن شىء طيب لمصر، الى جانب التوصية بضرورة التحول صوب الغرب.

واشار ابو نصير ايضا الى ما نشرته صحيفة الفيجارو الفرنسية، يومى 30 ، 31 مارس 1958 تمن تقارير حول سلبيات التعاون الاقتصادى مع الاتحاد السوفيتى والبلدان الاشتراكية. وقال ان هذه اللحظات كانت مقدمة لاعداد خطة ابعاد مصر عن الاتحاد السوفيتي، بينما كان مطلوب اختيار التوقيت لبدء الحديث عن نقاط الاختلاف فى توقيت مواكب لنشر الاخبار حول احتمالات تقديم المانيا الغربية للقروض المالية الى مصر.

ومضى السفير السوفيتى ليشير الى ما قاله ابو نصير حول ان البلدان الغربية تحاول ابعاد ناصر عن الاتحاد السوفيتى ، وان عبد الناصر يجنح نحو الانفراد باتخاذ القرار بعد ابعاد مجلس قيادة الثورة عمليا ، وفى ظل تدهور العلاقات بين الجمهورية العر بية المتحدة مع البلدان العربية وتزايد الضغط الغربى عليها.

وتوالت اللقاءات التى كان اهمها من حيث المعنى والتوقيت، هو لقاء عبد الناصر مع السفير السوفيتى كيسيليوف بعد عودته من موسكو مكلفا بمهمة زيارة عبد الناصر حاملا رسالة الزعيم نيكيتا خروشوف .

حول هذا اللقاء الذى جرى فى اول يونيو 1959 ، واوجزه السفير كيسيليوف فى رسالته الى الخارجية السوفيتية تحت رقم 176 بتاريخ 5 يونيو قال كيسيليوف: انه زار عبد الناصر بتعليمات من موسكو وابلغه بمجريات مؤتمر جنيف وما يمكن ان تسفر عنه هذه المجريات لخدمة المصالح المصرية. واضاف قوله:

سألنى ناصر وبدون مقدمات تذكر عما اذا كنت اطلعت على رده على خطاب خروشوف . وحين قلت اننى لم اطلع بعد ولا استطيع ان اقول شيئا عن رد فعل الحكومة الروسية تجاه هذه الرسالة. قال ناصر انه تلقى معلومات تفصيلية من السفير القونى حول حديثه مع خروشوف. وللحقيقة ان هذا الحديث دار قبل ان يعرف خروشوف جوهر هذا الخطاب ، لكن السفير قال لخروشوف الكثير من الملاحظات المهمة والتى تستحق النظر، ومنها ان ناصر شأن خروشوف يرى ضرورة تجاوز فترة الاتهامات المتبادلة والتوجه صوب المستقبل . غير انه وحتى لا توجد انطباعات غير صحيحة نتيجة معلومات خاطئة، حيث يرى انه من الضرورى ان يشرح مرة اخرى بشأن الماضى القريب.

ومضى السفير، ليضيف:

قال عبد الناصر ان خروشوف يؤكد على سبيل المثال اننى قررت مهاجمة الشيوعية، وانه مضطر مرة اخرى الى تأكيد اننى كنت اتحدث فى بورسعيد لا عن الشيوعية بوجه عام، بل عن الحزب الشيوعى السورى الذى كان بدأ فى ذلك الحين بل وقبل ذلك بكثير نشاطا تخريبيا ضد افكارى حول القومية العربية. وعلى الرغم من انتقادات خروشوف ومحى الدينوف(سكرتير اللجنة المركزية للحزب الشيوعى السوفيتى لشئون العالم الثالث) فى المؤتمر 21 للحزب الشيوعى السوفيتى ، فاننا فضلنا عن الرد على هذه الانتقادات، عدا ما يتعلق بما كتبه محمد حسنين هيكل فى الاهرام.

واضاف عبد الناصر: انه كانت هناك خطابات كثيرة لهما بعد ذلك، ولم اتناول لا الشيوعيين ولا الاتحاد السوفيتى ردا عليهما. اما فى 21 فبراير وبعد ان تلقيت رسالة خروشوف القيت خطابا تناولت فيه هذه العلاقات بين ج ع م والاتحاد السوفيتي، وقد لقى هذا الخطاب الذى القيته فى 21 فبراير صدى طيبا لدى كل مواطنى الجمهورية العربية المتحدة .

وقد ظل الحال هكذا حتى 8 مارس تاريخ انتفاضة الموصل حيث كال الكثيرون بهذه المناسبة الاتهامات والانتقادات ضد عبد الناصر من جانب الشيوعيين العراقيين. قال انه وبعد بعض التردد اضطر فى 11 مارس الى مهاجمة الشيوعيين العراقيين. قال ان خروشوف وخلال استقباله للوفد العراقى فى موسكو فى 16 مارس وجه اليه الكثير من الانتقادات، دون ان يلحظ ان الشيوعيين العراقيين طالبوا بتحرير سوريا، بل ومصر ايضا من طغيان عبد الناصر.

واضاف عبد الناصر انه سبق وقال لى انه لا ينوى ولم يكن ينوى ضم العراق الى الجمهورية العربية المتحدة واستطرد عبد الناصر فى حديثه وهو يلوح برسالة السفير القونى حول حديثه مع خروشوف ليقول فى اطار محاولات تبرير وتفنيد ما قاله خروشوف فى حديثه مع القوني. قال ان القونى كتب اليه يقول ان خروشوف استرعى انتباهه ما نشرته صحافة القاهرة وما شنته من حملات عدائية للسوفيت . وحاول ناصر ان يؤكد لى انه قبل 16 مارس لم تكن هناك اية حملات معادية ، لكنه وبعد 16 مارس اكد ناصر ودون دليل يعتد به انه لا الاذاعة ولا الصحف هاجمت الاتحاد السوفيتى . اما ماحدث فلم يكن سوى ردا انتقاديا على ما تضمنه خطاب خروشوف ضد الجمهورية العربية المتحدة.

وقال ناصر انه «حين يهاجموننا فلا بد لنا ان ندافع عن انفسنا».واستطرد ليقول ان رسالة القونى تقول ان خروشوف يعتقد فى ان الاحاديث عن الروبل والدولار كانت بمبادرة من الحكومة . واقسم باغلظ الايمان ان ذلك لم يحدث وانه لا يزال هناك فى الجمهورية العربية المتحدة توجد شخصيات كثيرة قادرة على المضاربة بكل الشعارات السياسية . وقرأ ناصر رسالة القونى وما كتبه حول ما قاله خروشوف بشان ان الحملات ضد الشيوعية كانت على امل الحصول على المعونات الاقتصادية مقابل هذه الحملات.

واعلن عبد الناصر انه كان يعتزم مهاجمة الشيوعيين السوريين فى سبتمبر 1958 بهذه المناسبة، وانه وكأنما اوقفته مخاوف ان تساور احدا الشكوك تجاه احتمالات ان يكون ذلك بالاتفاق مع الغرب. ولذا فانه تردد كثير ولم يتحدث الا بعد ان اصبحت ادانة الشيوعية ضرورة ملحة. واضاف انه كان يعرف انه قد يزيد من حدة تعقيد المشكلة بفتح جبهة ثانية ضده. وقال صدقنى انه لا توجد اية اتصالات مع الولايات المتحدة حول الحصول منهم على اية اموال مقابل الحملة ضد الشيوعية.

قال ان ذلك ضد مبادئنا ، فضلا عن اننا نعلم ان يصعب اقناع الغرب بمثل هذه الوسائل ، لانهم يعلمون حتى اليوم ان القومية العربية لا تزال العدو رقم واحد للامبريالية فى الشرق الاوسط .

واستطرد ناصر ليقول ان القومية العربية هى منظومتنا للدفاع ضد الامبريالية وانها لا يمكن ان تكون عدوانية فى جوهرها. ولذا اعتقد ان خروشوف حين بعث برسالته اليً، اخطأ من جانبه فهم وكأنما اعتزم مهاجمة الدول العربية المجاورة عسكريا. ان القومية العربية مهمتها توحيد العرب ضد الامبريالية ولا يمكن ان يكون هناك اى حرب بين العرب وبعضهم.

ومضى ناصر ليقول ان تحسن العلاقات مع الولايات المتحدة مسألة واردة مثلما هى واردة بالنسبة للاتحاد السوفيتي. وقال اننا نريد تحسن العلاقات مع الولايات المتحدة، لكن ليس على حساب التجارة بالمبادئ. اننا لسنا عملاء لاى بلد. واعاد الى الاذهان زان القرض الالمانى والاتفاقية الموقعة فى مايو 1958 وأحاديثه مع السفير الامريكى مسائل نوقشت فى الكرملين بالتفصيل مع خروشوف.

وواصل ناصر تبرير موقفه مشيرا الى انه تحدث آنذاك بصراحة وبشكل مستفيض واعاد الى الاذهان ان الصفقة مع الولايات المتحدة حول شراء القمح كانت قبل خطابه فى بورسعيد. وأعلن ان تصورات الحكومة السوفيتية تجاه الغرب غير صحيحة.

وخلص السفير السوفيتى بعد استعراضه لآراء عبد الناصر تجاه العراق وانضمامه الى دولة الوحدة بقوله:

زان الانطباع العام عن الحديث مع عبد الناصر يتلخص فى انه كان يريد ، ولتاريخ علاقاتنا تبرير هجومه ، وان يبقى نظيفا بريئا ، وكأنما لم يفعل شيئا، اما عن العراق فقد حاول عبد الناصر على ما يبدو ان يلعب بورقة «البراءة الُمُهَانة!».

ما قاله السفير السوفييتى فى نهاية رسالته يبدو فى بعض جوانبه بعيدا عن تطلعات من ينشد تنقية الاجواء فى تلك اللحظات الفارقة، التى كانت تشير الى بوادر انفراجة فى العلاقات بين الزعيمين، وهو ما كان يبدو ايضا من توجهات تقدميين مصريين ممن كانوا يترددون على السفارة السوفيتية فى القاهرة ومنهم محمد البندارى رئيس لجنة السلام المصرية والذى نقل السفير السوفيتى كيسيليوف فحوى لقائه معه فى 16 يونيو 1959، فى رسالته التى بعث بها الى الخارجية السوفيتية، فى 21 يونيو.

على ان ما اعقب ذلك من رسائل متبادلة بين ناصر وخروشوف، يقول بتدارك الزعيمين لمغبة التصعيد وضرورة اعلاء العام على الخاص، وهو ما تحقق فى عقب الجدل الذى احتدم بين الزعيمين وما بلغ ذروته فى الرسالة الثانية التى بعث بها خروشوف الى عبد الناصر، والتى نستعرضها ادناه، على ضوء ما يبدو انه كان نتاج جهد بذله الكثيرون من الاصدقاء من اجل تحقيق الهدف الاسمى وطى صفحات الخلاف، فى توقيت شهد ايضا محاولات آخرين من اجل تأجيج نيران هذه الازمة ومنهم كمال الدين حسين وانور السادات حسب تأكيدات السفير السوفيتى كيسيليوف.

على ان الاهم هنا قد يتمثل فى الرسالة التى بعث بها خروشوف الى عبد الناصر فى 19 فبراير 1959 تفى اطار حرص الجانبين على رأب الصدعت والحيلولة دون السقوط فى شرك المزيد من الخلافات بين الجانبين ،

السيد الرئيس المحترم !

اود فى هذه الرسالة المفعمة بالصراحة التى ابعث بها اليكم مشاطرتكم بعض التصورات حول الموضوعات التى جرى التطرق اليها من جانب رجال الدولة فى ج ع م فى احاديثهم مع المسئولين السوفيت.

من واقع حديثكم مع السفير السوفيتى قبيل سفره الى موسكو وكذلك احاديثكم وتصريحاتكم الاخيرة الى الصحافة فى «الجمهورية العربية المتحدة » يظهر لدينا انطباع حول ان الاحداث المعروفة خلال الفترة الاخيرة اثارت لدى حكومة «الجمهورية العربية المتحدة » ولديكم شخصيا القلق تجاه آفاق تطور العلاقات بين بلدينا . كما ان ما يصدر من شكوك عما اذا كان هناك تغير فى مواقف الاتحاد السوفيتى نحو حركة التحرر الوطنى العربية. واعتقد من وجهة نظرنا انه يجب ان يسود الوضوح الكامل تجاه مثل هذه القضايا المهمة.

انتم تعلمون سيادة الرئيس ان علاقات طيبة تجمع بين الدولتين وان ذلك لعب دورا مهما فى الذود عن مصالح السلام والامن لدول المشرق مثلما حدث ابان ايام ازمة السويس او خلال ايام الاعداد للهجوم ضد سوريا ، حين عمل بلدانا سويا من اجل صد هجوم القوات المشتركة للمستعمرين ضد حرية الشعوب العربية التى كانوا قد حصلوا عليها من خلال الكثير الصعوبات والتضحيات. كما ان تعاوننا المشترك ساعد كذلك على تقويض الاحتكارات القديمة لرؤوس الاموال الاجنبية الكبيرة فى الحياة الاقتصادية لبلدان الشرق الاوسط ، ونحن سعداء بصدق لما تحققه هذه الشعوب من نهضة فى الاقتصاد الوطني.

لقد حدث مثل هذا التعاون المثمر رغما وكما يعلم الجميع، عن اختلاف توجهاتنا الأيديولوجية. وحين نتحدث عموما عما يجمعنا فى النضال من اجل السلام وضد قوى الامبريالية والاستعمار فاننا نسعى فى الاتحاد السوفيتى وبطبيعة الحال نحو عدم تأكيد الخلافات الايديولوجية القائمة. لكنكم آثرتم فى بور سعيد ضرورة الافصاح عن رايكم تجاه هذه القضايا. ولذا فقد كنا مضطرين ازاء ذلك وفى مؤتمرنا الحزبى ان نقول راينا . ومن الواضح ان كلا منا بقى عند رأيه . وليس فى ذلك اى شيء مفاجئ.

ولما كنت اعرفكم كشخصية سياسية على مدى العديد من الاعوام فاننى اود ان أعرب عن املى فى ألا يستطيع الامبرياليون العثور على ثغرة بيننا يستطيعون من خلالها ضرب وحدة شعوب بلدينا فى النضال ضد الاستعمار. وهل يوجد اساس لاعتبار انه لم تعد هناك اخطار تهدد الجمهورية العربية المتحدة والبلدان العربية الاخرى من جانب البلدان الامبريالية التى تسن سكاكينها اليوم مثلما كانت تفعل بالامس، ضد حريات واستقلال البلدان العربية؟. وهل من الممكن اعتبار انه قد تحققت بالفعل المهمة الصعبة لنهوض اقتصاد هذه البلدان، وتصفية التبعات المريعة التى خلفها الاستعمار فى السنوات الماضية؟ وهل من الممكن القول انه لم تعد هناك حاجة الى توحيد الصف ضد القوى الامبريالية من اجل تقرير مهمة النضال ضد الاستعمار التى لا تقل اليوم اهمية عن الامس، وبالدرجة الاولى توحيد جهود البلدان المستقلة فى الشرق مع الاتحاد السوفيتى وكذلك البلدان الاشتراكية الاخري؟

وتوقف خروشوف عند شائعة تدبير الاتحاد السوفييتى لمحاولة اغتيال عبد الناصر:

اننا نعلم ان الصحافة الفرنسية والانجليزية روجت منذ زمن غير بعيد ونقلا عن مصادر يوجوسلافية اخبارا تقول بان هناك من يدبر محاولة اغتيالكم، مشيرين وبشكل غير مباشر، فى هذا الصدد الى الاتحاد السوفيتي. انهم بمثل هذه الاكاذيب التى تستهدف وبشكل واضح صرف انظاركم عما يجرى حولكم، كانوا قد اغفلوا الاشارة الى واقع ان عملية الاغتيال كانت من تدبير المخابرات الفرنسية والاسرائيلية، على الرغم من انهم كانوا يعرفون ذلك. انهم يمدونكم بمعلومات حول التغلغل الشيوعى فى اليمن الذى يدعون ان الخبراء السوفييت يقومون به على نفس النحو الذى حاولوا من خلاله تخويف القيادات اليمنية بانباء حول الطموحات الموالية للشيوعيين للرئيس عبد الناصر، وحول الدور الخاص الذى ينسبونه الى الخبراء السوفيت ممن دعتهم الحكومة المصرية للمشاركة فى عملية بناء عدد من المشروعات داخل الجمهورية العربية المتحدة».

واستطرد خروشوف ليقول:

اما عن الاتحاد السوفيتى والحكومة السوفيتية فقد ايدناكم ونؤيدكم فى نضالكم العادل ضد الاستعمار، من اجل الاستقلال والحقوق المشروعة للجمهورية العربية المتحدة. كما ان موقفنا منكم ومن البلد الذى تترأسونه لا يتغير تبعا للظروف السياسية المؤقتة او اية تحولات اخري. ونحن نعرفكم شخصيا كشخصية بارزة لحركة تحرر الشعول العربية من اضطهاد المستعمرين. وقال: ان الاتحاد السوفيتى وبكل الاخلاص ايد ويؤيد وسوف يؤيد هذا النضال.

وفيما استعرض خروشوف بعض جوانب حديث عبد الناصر مع السفير السوفيتى فى القاهرة الذى اكد فيه ان حكومة الجمهورية العربية المتحدة لا تنوى تغيير سياسات الصداقة مع الاتحاد السوفيتي، قال انه يسعده من جانبه ان يشير الى التعاون بين البلدين الذى قال انه يتطور بنجاح فى المجالات الاقتصادية والثقافية، وانهم فى الاتحاد السوفيتى ينوون مواصلة توسيعه ودعمه. وعاد الزعيم السوفيتى الى مباحثات عبد الناصر فى موسكو ليقول انها جرت فى اجواء الصراحة والتفاهم المتبادل. وتوقف عند ما قاله حول وجهة نظره فى الوحدة بين مصر وسوريا:

طرحت انذاك فى هذا الصدد ولعلكم تذكرون حسبما اعتقد فكرة اننا نعتقد ان الوحدة بين مصر وسوريا شابه بعض التعجل نظرا لانها لم تراع بالدرجة الكافية كل خصائص وحدة البلدانت . وقد افصحنا عن رأينا هذا باخلاص، سعيا من جانبنا وفى اطار روح الصداقة من اجل المساعدة فى بناء الدولة الجديدة ودرء ظهور المصاعب المحتملة. غير انكم وكما تشهدون بنفسكم ان التسرع تسبب فى نتائج غير مرجوة. ان الخبرة التى اكتسبتها بلدان كثيرة بما فى ذلك الاتحاد السوفييتى تؤكد امكانية العثور على السبل الفعالة لتلافى اسباب ظهور مثل هذه الصعاب من خلال مراعاة السمات الخاصة لتطوير مختلف مناطق الجمهورية العربية المتحدة .

اما عن الموقف من علاقة «الجمهورية العربية المتحدة » من الشيوعية فان الاتحاد السوفيتى لم يتدخل ولا يعتزم التدخل فى الشئون الداخلية للجمهورية العربية المتحدة، على الرغم من انكم سيادة الرئيس حين توجهتم نحو التقارب بين بلدينا كنتم تعرفون بلا شك اننا شيوعيون واننا لا نستطيع التعاطف مع سياسة مناهضة الشيوعية، التى نعتبرها تاريخيا غير صحيحة ولا امل منها، ومن ثم لا يوجد هنا اى جديد لا بالنسبة لكم ، ولا بالنسبة لنا .

أطفال الگاردينيا

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

614 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع