قصص واقعية ... بشِّر القاتل بالقتل

 

قصص واقعية من كتاب (قصص واقعية) للواء محمود شيت خطاب ...بشِّر القاتل بالقتل

              

                 

                            

                     

كان ثلاثة رجال من الفلاحين يسيرون ليلاً من قرية على نهر الحازر متجهين نحو قرية في منطقة عقرة وكان معهم بعض الدواب والماشية وبعض المال.
وكان أهلهم في قريتهم الجبلية ينتظرون وصولهم إلى القرية في منتصف الليل، ولكنهم لم يصلوا إليها في الوقت المعين، وأصبح الصباح ولم يصل الرجال الثلاثة إلى القرية فأخبر أهلهم مختار المدينة، فركب حصانه ويم شطر عقرة وأخبر الشرطة هناك بالحادث،

       

وامتطى مفوض الشرطة ومعه بعض رجاله سيارة مسلحة، وساروا على طريق عقرة المبلطة وكانوا يتوقفون في القرى يسألون عن الرجال المفقودين، واستمر تفتيش الشرطة خمس ساعات، ثم عثروا على الجثث الثلاثة للرجال الثلاثة محروقة في جوف وادٍ سحيق ولم يجدوا أثراً لدوابهم وماشيتهم ونقودهم.
وابتدأت الشرطة بمطاردة الجناة، وبعد أيام عثروا على بعض دوابهم وماشيتهم مع أخوين شقيقين فألقوا القبض عليهما.
وجرى التحقيق مع المشتبهين وكانا معروفين بارتكاب جرائم القتل والسرقة والسلب وبعد التحقيق الدقيق قُدِّما إلى المحكمة العسكرية العرفية.
كانت سوابق هذين المتهمين تشير إلى أنهما اللذان ارتكبا الجريمة الشنعاء، وكان عثور الشرطة على دواب وماشية القتلى عند المتهمين دليلاً مادياً على ارتكابهما جريمة القتل …
وعندما وقعا في فخ الشرطة تكاثر عليهما الشهود فاعترف أحدهما وهو الصغير بأنه ارتكب جريمة القتل، بينما أصرَّ الثاني على الإنكار.
وتداول قضاة المحكمة العسكرية العرفية أمر المتهمين، فكان من رأي الأكثرية أنَّ الأخ الصغير اعترف بعد أنْ رأى أنَّ الأدلة على ارتكاب الجريمة متواترة لا سبيل إلى التخلص منها، لذلك أراد أنْ يتحمل العقاب وحده باعترافه ويُخلِّص شقيقه من العقاب.
وأخيراً حكمت المحكمة على الشقيقين بالإعدام علناً شنقاً حتى الموت، ثم أرسلت بالدعوى إلى المراجع للتصديق.
كانت الجريمة بشعة حقاً، وقد استفزت الرأي العام فكانت حديث المجالس، وقد وصلت إلى أسماع الناس في كل مكان، وكانت السلطة العليا تحرص على تطمين الناس وإدخال الأمن إلى نفوسهم وتهدئة روعهم، فصدقت على الحكم بسرعة، وأقرت تنفيذ الحكم على الشقيقين علناً في ميدان عام مزدحم بالسكان.
ونشرت الصحف تصديق الحكم على الأخوين، وأذاعت الإذاعة الخبر، وتسامع الناس بموعد تنفيذ الحكم بهما ومكانه، فأقبلوا جماعات ووحداناً ليشهدوا مصرع الجانيين…
وفي عصر يوم من أيام أواخر الخريف من عام 1952 كان المسؤولون عن السجن يقيمون مشنقة خشبية في ساحة باب الطوب من مدينة الموصل، فانتشر الخبر انتشار النار في الهشيم، وسمع من لم يسمع بخبر العزم على تنفيذ حكم الإعدام بالمجرمين صباح يوم غد، وسمعتُ بالخبر كما سمعه الناس.
وعزمتُ على أن أشهد تنفيذ حكم الإعدام بهما، وحرصت ألا تفوتني هذه الفرصة، فقد كان وقع الجريمة في نفسي شديداً…
وكنت أسهر في ليلة التنفيذ مع بعض الضباط، وإذا بجندي من جنود الانضباط العسكري يسلمني رسالة رسمية من آمر موقع الموصل، فلما قرأتُ الرسالة علمت منها رغبة آمر الموقع أن أحضر إلى السجن ممثلاً للجهة العسكرية لأبلغ المجرمين موعد تنفيذ حكم الإعدام ومكانه…
وفي السجن حين حضرت لتبليغ المجرمين وجدتُ ممثلاً عن المحكمة العسكرية العرفية ومدير السجن وطبيباً وممثلاً عن المحاكم المدنية وممثلاً عن الإدارة المحلية، ووجدت ملفاً ضخماً للدعوى فيه أوراق بيضاء وحمراء وصفراء. إلخ….
وكانت الأصول المتبعة أن يحضر ممثلون عن الجهات العسكرية والمحاكم والإدارة المحلية وطبيب عسكري ليوقع كل واحد منهم على بعض تلك الأوراق بعد تبليغ المزمع تنفيذ حكم الإعدام بهما، ويوقع على بعض تلك الأوراق بعد تنفيذ حكم الإعدام بهما، والإجراءات الشكلية كانت تجري كالمعتاد. وقد ذهب كل أولئك ومعهم ملف الدعوى الضخم إلى زنزانة المجرمين.
وفتح السجان باب الزنزانة، فإذا مجرمين شابين قويين مفتولي العضلات متمالكين أعصابهما إلى أقصى الحدود، ودخلنا الزنزانة، فاستقبلنا المجرمان بترحاب وأريحية كأنهما أصحاب الدار، وكأننا ضيوف عليهما.
كانا هاشين هادئين غير متذمرين، وكانا طبيعيين حتى لقد تحرجنا من قراءة الحكم عليهما وبقينا واجمين صامتين فترة من الزمن لا ندري كيف نبدأ الحديث.
وأخيراً قرأنا عليهما الحكم، وأخبرناهما بأن الإعدام سينفذ بهما صباح غد علناً في ساحة باب الطوب … فاستمعا إلى ذلك بشجاعة وصبر عجيبين. وسألناهما كالمعتاد: ماذا تريدان؟ وهل لديكما ما تقولان ؟؟
قالا: لا نريد شيئاً غير الشاي وعلبتين من الدخان. وقالا: نريد رحمة الله وغفرانه، ولا نريد من البشر شيئاً.
وتضاحكا، وأخذ كل واحدٍ منهما يشجع أخاه. قال الصغير للكبير:لقد ارتكبتُ أنا الجريمة، فشاركتني أنتَ في العقاب، وما كنتُ أريد لك هذا المصير ظُلماً وعُدواناً.
وقال الكبير للصغير: لا تحزن ...! صحيح أنني لم أشترك معك في قتل الرجال الثلاثة، ولكنني قتلتُ غيرهم كثيراً، فأنا اليوم أؤدي ما في عنقي من ديون.
وسرد الأخ الصغير قصته كاملة على الحاضرين، فكان مجمل ما قاله: إنني اليوم أقربُ ما أكون إلى الله، وسأكون غداً ضيفه. إن أخي هذا لم يشترك معي في قتل الرجال الثلاثة ولم يشهد قتلهم.
لقد كنتُ وحدي ومعي بندقيتي في حفرة بالقرب من قارعة الطريق، فلما مرَّ بي الرجال الثلاثة مع دوابهم ومواشيهم، انتهزتها فرصة سانحة وقررتُ ألا يفلت من يدي هذا الصيد الثمين.
كنتُ أراهم ولا يروني، فصوبتُ بندقيتي على رأس أحدهم، ثم أطلقتُ النار عليه فأرديته قتيلاً. وارتبك الاثنان الآخران وامتدا على الأرض بالقرب من مكمني، فأطلقت النار على الثاني، فأرديته قتيلاً، ونهض الثالث من مكانه وهرب متعثراً، فأعجلته برصاصة استقرت في رأسه فمات على الفور.
وجمعتُ الدواب والماشية وفتشت جيوب القتلى، وسلبت ما كان عندهم من نقود، ثم قدت الدواب والماشية إلى بطن الوادي القريب من الطريق، ثم ربطتها بالحبال، وعدتُ إلى الجثث لإبعادها عن الطريق، وسحبتها إلى بطن الوادي؛ لأنني خفت أن يراهم عابر سبيل فيخبر أهل القرى بالحادث، فيتنادى سكانها فيلقوا القبض على الدواب والماشية قبل أنْ أستطيع الفرار بها وتدبير أمرها.
وحين استقرت الجثث في بطن الوادي، جمعت بعض الأخشاب اليابسة، ووضعتها فوق الجثث، وأوقدتُ فيها النيران؛ لإخفاء معالم الجريمة إلى الأبد.
وكان وادي الموت سحيقاً، وكانت النيران تلتهم الجثث فلا يراها أحد، وكانت أقرب القرى إلى ذلك الوادي تبعد ثلاثة أميال.
وسُقتُ الدواب والمواشي إلى قريتي، فوصلت إليها في منتصف الليل فربطتها بالقرب من القرية، وذهبتُ إلى شقيقي هذا، وأخبرته بالحادث، فأسرع معي إلى مكان الدواب والماشية، فاستقناها بعيداً في شعاب الجبال.
ولما عَلِمَ رجالُ الشرطة بالحادث، تعقبوا آثار الدماء، فعثروا على بقايا الجثث، ثم استطاعوا بتقدير الله تعالى أنْ يعثروا عليها في أعماق الوادي.
وحين ألقى رجال الشرطة القبض علينا كنا نائمين بالقرب من عين تحت شجرة ضخمة من أشجار البلوط، ولو كنا يقظين لما استطاعت أي قوة في الدنيا إلقاء القبض علينا.
وفي المحاكمة شهد الشهود بسماع طلقات نارية في ليلة الجريمة كما شهد أهل القرية بأنهم افتقدوني وشقيقي منذ تلك الليلة حتى وقت إلقاء القبض علينا.
اقتنع قضاة المحكمة بأنني وشقيقي قتلنا الرجال الثلاثة ولم يفد معهم اعترافي بالجريمة وإصرار شقيقي على الإنكار.
لقد ظنوا أنني أضحي بنفسي من أجل شقيقي وأنني أريد أن أنقذه من حبل المشنقة، وما علموا أن اعترافي هو الحق، وأن إنكاره هو الحق أيضاً.
وتنهد الأخ الكبير، وقال: إن ما قاله شقيقي حق، ولست في معرض الدفاع عن نفسي؛ لأني أعلم أن وقت الدفاع قد فات، ولكني أعترف بأني قتلت غير هؤلاء الرجال في غير تلك الليلة، وكنت أقتل القتيل وأمشي في جنازته أشد ما أكون تظاهراً بالحزن عليه، وقد ستر الله عليَّ مراتٍ كثيرة. ولكن الله يمهل ولا يهمل … وغداً أموتُ من أجلِ قَتلاي الكثيرين لا من أجل القتلى الثلاثة، وإذا استطعتُ أنْ أهربُ من عِقاب البشر، فإني لم ولن أستطيع الهرب من عقاب الله.
في صباح اليوم التالي كانا يتسابقان بخطوات ثابتة رصينة لصعود
المشنقة ، وعلى السطح تحت حبلين يتمرجحان تعانق الأخوان، وقال الصغير للكبير: أطلب منك العفو، فأجابه الكبير: إنك لم تقترف ذنباً بحقي، فأنا المذنب بحق نفسي. وبعد لحظات كانت جثتان هامدتان يتلاعب بهما الريح، وكانت تحتهما امرأة عجوز تنهل الدموع من عينيها غزيرة مدرارة.
ولكن الذين شهدوا تنفيذ حكم الإعدام يزيدون على عشرة آلاف نسمة رجالاً ونساءً وشيوخاً وأطفالاً، ولم يكن بين الحاضرين من يشاركها أساها، ولم يكن بينهم من يشاطرها الحزن. ولا شماتة في الموت ولكن الجريمة كانت أفظع من مقابلتها بغير الشماتة القاسية، وتحلق بعض الناس حولها يصبون لعناتهم على المصلوبين ولكن المرأة العجوز – وكانت أم المجرمين اللذين لا تزال تتأرجح جثتاهما بعبث الريح بعنف وقسوة – تسربت من بين الحشود الشامتة الغاضبة بعد أن ألقت عليهم درساً لا يزالونَ يَذكرونه ولا أخالُ أنهم سينسونه في يومٍ من الأيام.
قالت الأم الثكلى: إنني لا أملك إلا الحزن عليهما فهما فلذتا كبدي، ولكنني كنت مُتيقنة من زمن بعيد أن مصيرهما سيكون القتل بالرصاص أو الصلب على أعمدة المشانق.
ولقد كنت أقول لهما: إن الموت مصير كل حي ولكن شتان بين أن يموت المرء شريفاً، وبين أن يموت مُجللاً بالخزي والعار !! ولقد كُنتُ أقولُ لهما: بشِّر القاتل بالقتل … كما تدينُ تُدان، واليوم أرى مصرعهما بعيني. فإذا كانت الحدود مطهرات، فليكونا عبرة لغيرهما من الناس ...
ومضت المرأة العجوز هائمة على وجهها ...
فهل من معتبر.

  

إذاعة وتلفزيون‏



أفلام من الذاكرة

الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

841 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع