الدولمة.. بين الامس واليوم .. !

          

         الدولمة .. بين الامس واليوم..!

  

      

             

اشتريت كتاب من بائع مكتبة الرصيف مقابل بناية سراي السليمانية ، واتجهت نحو المقهى الصغير القابع في شارع صابون كران حيث يجلس شيخنا الجليل كعادته ، نلتقي كل يوم لأسمع ما يروي لي وتعود به ذكريات السنين التي قضاها في المدينة ، لقد تعلق قلبه بالماضي وما يحويه من ذكريات رائعة ،  يتذكر الايام ما فيها من ذكريات حلوها ومرها ، دخلت المقهى وكانت مفاجئة لي ، لم اجد الشيخ في محله وهذه اول مرة اصل قبله للمقهى ، طَلبتُ الشاي وجلست انتظر مجيئه وأقرا في الكتاب ، مرت اكثر من نصف ساعة انتابني القلق ، اتصلت معه تلفونيا وأعلمني انه سيأتي بعد ساعة من الزمن .. !
بدأت اقرأ بالكتاب مرة ثانية حتى يصل الشيخ للمقهى ، لم تمضي على انتظاري نصف ساعة حتى وصل الشيخ يحمل حقيبة صغيرة بيده ، جلس مقابلي اراه تعب شاحب الوجه صامتا كنت أرى نظرات الحزن في عينيه ، يلتقط انفاسه بصعوبة ، متمالك الاعصاب وقد دفن حزنه في اعماق صدره .
قلت له : سأطلب الشاي لك .
هز رأسه موافقا وناديت على النادل ان يقدم الشاي للشيخ ، وكنت ارى ملامح وجهه تدل على التفكير والرزانة والهدوء أكثر من الابتسامة ، وترددت أن أساله لماذا تأخرت أو اين كُنت ، أخذتني الحيرة ، توقف تفكيري ، وهرب الكلام من بين شفتيّ .
جاء النادل وقدم الشاي للشيخ .
قال بهدوء ونبرة حزينة : اعرف ما يدور في فكرك وتريد ان تعرف اين كنتُ ولماذا تأخرت .
قلت له : كنت قلق عليك عندما تأخرت وازداد قلقي اكثر عندما رايتك بهذه الحالة السيئة .
قال بهدوء : كنت اليوم مراجعا لإحدى دوائر المحافظة ، سأقص لك ما جرى معي وكيف حال المواطن عندما يراجع هذه الدائرة ولن تشمل بقية الدوائر .
وصلت الى دائرة (...) الساعة الثامنة صباحا وقفت مع عدد من المواطنين المراجعين الواحد خلف الاخر وبدأ الشرطي بتفتيش الواقفين عند الباب وشملني التفتيش مع حقيبتي الصغيرة المملوءة بالوثائق والمستمسكات والصور الشخصية ، بعد التفتيش سُمح لي بالدخول الى داخل البناية ، وهذا واجب يقدر ويثمن .
صعدت درجا كان الله بعون المعوق او المصاب بعاهة عند صعوده ، ودخلت الى قاعة كبيرة مملوءة بمناضد مكتبية وعلى كل منضدة تجلس موظفتان او أكثر ، وقفت أمام موظفة ممشوقة القامة تقترب إلى الطّول ، ولكنّها ممتلئة ليست بدينة ، خطت على وجهها حواجب كسيوف رسمتها باعتناء ، تضع على وجهها مساحيق التجميل ، شفاه لم يفارقها الأحمر وكحل سميك حول عيناها ، وبدون ان اتكلم معها اي كلمة قالت لي بانفعال : انتظر..!
مدت يدها الى بعض الاوراق أو ملفات من فوق المنضدة  التي امامها وقالت لي : عندي شغل كل هذه المعاملات امامي ، تعال غدا
قلت لها بهدوء : بنتي اريد أسال اين اخذ هذه المعاملة ، اريد اعرف أي موظف سيكون مسئول عليها لتمشية طلبي.
قالت بعصبية : انا لست مسئولة الاستعلامات ، راجع المدير ..!
وقفت في طرف من القاعة المكتظة بالموظفين من كلا الجنسين ارصدهم ، وارى المواطنين المراجعين لمعاملاتهم يتنقلون من منضدة الى اخرى وكأنهم قطع لعبة الداما ، يتحركون بإيعاز من موظف الى اخر ، قلت مع نفسي انهم ذو خبرة ومعرفة بأمور هذه الدائرة  ، تجرأت و سألت الفراش الجالس عند باب احدى الغرف والتي تحمل رقم فقط  ، وهو احد الفراشين المتواجدين في القاعة والجالس كل واحد منهم عند باب كل غرفة : أين مسئول الاستعلامات .  نهض من محله ومد عنقه باتجاه مدخل البناية وقال ببراءة وثقة : الاستعلامات مغلقة ،  انتظر سيأتي المسئول بعد قليل لأنه يتناول فطوره في المقهى القريب من الدائرة .
 انتابني ضجر وصمت عميق ، مضت بضع دقائق وأنا بذهول غريب ، قلت مع نفسي : هذا خطأ في ظني ان الموظفة التي سألتها اولا مهملة ، ولو كان اسلوبها معي غير لائق ، ومن حقها ترد عليه بهذا الاسلوب ربما ظروف العائلة او زخم العمل ، فأنا اعلم ان كل طلب جديد لأي دائرة يحتاج لهامش المدير . وقد قالت لي بعصبيتها راجع المدير .
تقدمت مني موظفة رقيقة القدّ ، وسيمة الوجه ، تنطق عيناها بالصّفا والطّيبة ، سألتني باحترام : يا عم ، هل تحتاج الى مساعدة .

قلت لها :نعم عندي هذه الطلب واعتقد يحتاج لهامش المدير ، أخذت الورقة مني وقرأتها وقالت بهدوء : نعم خذه للمدير كي يحوله للموظف المختص ، وتركني وعادت الى منضدتها المكتبية .
سمعت الجواب من هذه الجميلة الانيقة فانطلقتُ مبتهج الفؤاد منشرح الصّدر نحو غرفة المدير واستقبلني عند باب الغرفة الفراش الذي استمد سيطرته من سيده الجالس في الغرفة ووثب من كرسيه ، قائلا : اعطيني الطلب ، اعطيته طلبي ودخل الى الغرفة ولم تمضي لحظات وخرج ، سلمني الطلب وقال خذه غرفة (....) ، شكرته واتجهت نحو الغرفة المرقمة .
دخلت الغرفة وسلمت الطلب الى شاب بدين مستدير الوجه قصير القامة ، تصفح الطلب وكتب جملة من ثلاث كلمات ورسم ثلاث خطوط اعتقد توقيعه وأعطاني الطلب قائلا : خذه للموظفة اول منضدة في القاعة.
وقفت امام باب الغرفة وشعرت بحيرة ويأس وامتلأت نفسي بالحزن والهمّ ، قلت مع نفسي . يعني الطلب أخذه الى الموظفة ذات الحواجب الشبيهه بالسيوف .
توكلت على الله واتجهت نحو الموظفة وقدمت لها الطلب باحترام ، اخذته مني ووضعته على الطاولة وهي منهمكة بالحديث مع صديقتها الجالسة بقربها ، والحديث كان يدور حول وصفة شعبية لإزالة السواد من تحت العيون محاولتان اخفاء الحديث عن السامع ، استمر حديثها عدة دقائق ثم اخذت الموظفة الطلب وقرأته وقالت : انتظر .

ابتعدت عن المنضدة عدة خطوات وأنا اراقبها متى ستنهي حديثها وتكتب شيئا على طلبي او تنادي مستفسرة  ، مر الوقت سريعا وأصبحت توقيت الساعة المعلقة على جدار القاعة يشير الى التاسعة ، يعني مضى ساعة وأنا في دوامة ،  تشجعت واتجهت نحوها وقلت لها : اكملتِ طلبي .

قالت بانفعال : اعطيني الوثائق ، قدمت لها هوية الاحوال المدنية وشهادة الجنسية العراقية وصور وكل ما طلبت ، اخذتهم وقلبت الوثائق وقرأتها من الحرف الاول للأخير وتتكلم مع صديقتها المنشغلة بتلفونها الجوال ، رن تلفون الموظفة الجوال اخرجته من حقيبتها وبفرح وسرور فتحت الخط وضعت الوثائق على المنضدة ، وخرجت من مكانها واتجهت نحو خارج البناية .
يبدو لي ان الموظفة التي بجانبها والمشغلة بتلفونها عطفت على شيخوختي وأخذت الطلب والوثائق ونظمت لي الطلب وحررت مسودة رسالة وأعطتني كل الاوراق وقالت خذه للطبع في غرفة الكومبيوتر ، وأشرت بيدها للغرفة ... !
غرفة الكومبيوتر بابها مغلق ونافذتها المطلة على القاعة اسدلت ستائرها ، ومن النافذة يوجد نصف فردة مفتوحة  تكون المراجعة منها ، توحي لك كأن من بداخل الغرفة يعمل في برنامج معقد سري مرتبط بأمن الدولة وليس بطبع الرسائل ، يجلس بالقرب من النافذة المفتوحة شاب في مقتبل العمر يستلم الاوراق ويضعها على المنضدة ، صدقني صديقي العزيز كان يلعب العاب الكومبيوتر ، لان زجاج النافذة المفتوحة تعكس ضوء الشاشة ، لحظات وأخذ جميع الاوراق التي معي وقال : انتظر حتى اطبع الرسالة شكرت الله انني سأنهي الطلب واصل قبلك الى المقهى.
يوجد بالقرب من نافذة غرفة الكومبيوتر ثلاث كراسي وأريكة ، اعتقد من بقايا الدولة العثمانية ، جلستُ انتظر اكمال الطبع ، وعيني على ساعة الجدار والتوقيت يقترب من العاشرة صباحا .
بدأت حركة غريبة بين الموظفين وكأن شيء سيحدث سألت رجلا يجلس بجانبي هل هناك شيء حدث في الدائرة .
قال : لا ، الساعة العاشرة موعد استراحة الموظفين نصف ساعة .
على كل حال أزداد فضولي لمعرفة ما يحدث وأنا اراقب الموظفين من يحمل كوب القهوة والآخر قدح للشاي ولفة طعام يتنقلون بين الغرف يستعدون لوليمة او دعوة لاحتفال ، والموظفات فتحن حقائبهن وأخرجن اكياس الحلويات و المعجنات ، والغريب ان سخانات الماء الكهربائي مخفية بدولاب الموظفين بدأ تعمل وسخن الماء وصب الشاي في الاقداح .
في زاوية من القاعة تجمع ما يقارب عشرين مواطن مراجع وأنا من ضمنهم ، قلت مع نفسي : فعلا انه امر غريب ما يحدث لان لم يمضي على بدء الدوام غير ساعتان ولم ينجز اي طلب ، أين الرقابة وأين المدير ...!  ومتى جاع الموظفين وكيفوا تعبوا لأخذ هذه الاستراحة .
في هذا الاثناء دخل الى القاعة رجلا بالعقد السادس يحمل قدر متوسط الحجم تفوح منه رائحة البهارات السبعة ويتصاعد البخار منه ،تلحقه الموظفة ذات الحواجب الشبيهة بالسيوف تحمل صينية من الفافون وكيس نايلون ، واتجها نحو احدى الغرفة ودخلا ،

      

لم تمضي لحظات والتف حول الطاولة عدد من الموظفين وافرغ قدر الدولمة فوق الصينية وفرش الخبز الرقيق والخضروات وبدأ المدعوون بتناول الدولة ، تذكرت بالأمس عندما كنا نقوم بسفرة (سيران) الى منطقة سياحية تدعونا إلى التّمتّع بمناظرها السّاحرة و جمالها الخلاّب ، ونبسط غطاء رصصننا عليه الأطعمة وتكون الدولمة من بين اطباق الطعام التي ترص ، لا تكاد تنافسها أي أكلة أخرى ، وحضورها مهم على كل مائدة ، وعلى رأس لائحة متطلبات الضيافة واليوم وأصبحت فوق المناضد المكتبية ،نيئا لهم وبالعافية .
سألته باستغراب واندهاش : لماذا تقول لهم هنيئا .
قال بنبرة حزينة : لان هم سلاطين بامتياز، و محصنين ومحميين من اسيادهم المدراء لان طبق من الدولمة ادخلته الموظفة ذات حواجب السيوف الى غرفة المدير او من يقوم بمقامه .
قلت له : ربما هناك مناسبة او احتفال .
قال بعصبية : هذا يسمى فلاتان وتسيب العمل ، في الدوائر الرسمية يوجد ضوابط وأصول ، وإذا كان هناك استراحة فعلى الدائرة تخصص غرفة خاصة يستريح في داخلها الموظف وليس الجميع الموظفين في وقت واحد يوقفون العمل ، المفروض جزء يعمل والآخر يستريح ، ولا يوجد في كل دوائر العالم قدر دولمة يفرغ في صينية ويؤكل من الموظفين امام المراجعين ، وهل هناك موظفة تترك عملها بصحبة فراش لتجلب القدر الى الدائرة في الوقت المعين ، وعلى اعصاب كل المراجعين الواقفين في القاعة الذي يتمتمون مع انفسهم بجمل وعبارات لا تليق بمكانة الدائرة .  
قلت له : وهل اكمل طبع الرسالة .
قال : لان الكهرباء قطعت والمولدة عاطلة ، ثم استمر بحديثه قائلا : هذه الحالة يجب ان تحل من قبل المسئولين وهذا النمط من المعاملات الحكومية للبقاء على البيروقراطية ، تغيرت كل مؤسسات الدول وأصبحت دوائر الكترونية ومازلنا  نحتفظ بكراسي ومناضد مكتبية من بقايا العهد العثماني او زمن الملك غازي .
قلت له : ما رويته لي هو اذلال وإساءة للمواطن وانتهاك حقوقه ، و المواطن المراجع يجب أن يكون صاغرا وطائعا لما يمليه له الموظف مع كل التقدير .
قال بهدوء : لم تكمل معاملتي والتي لا تأخذ اكثر من عشرة دقائق لموظف يحترم قدسية عمله ، عليه غدا سأذهب ثانية وأتابع طلبي ربما ستأخذ عدة ساعات مع العلم اننا في عصر السرعة والتكنولوجيا التي توفر الوقت والجهد والمال لا اعلم لماذا لا يكون دوام الموظف ثمانية ساعات ويحسب على عدد الساعات التي يقدم عمل بها ، والبدء بإصلاح  النظام الاداري ومعالجة الدوائر التي تتصف بالتقصير والفتور في مهام عملها .
سألته باستغراب : لماذا لم تأخذ احد من معارفك الى مدير الدائرة فيكون لك عونا وتنهي طلبك بأسرع وقت .
قال : لا احب ان اكون ثقيلا على اصدقائي ، فهذه الشيخوخة في الدوائر تراكمت عليها ظواهر سلبية ، ولكن ستنتهي عن قريب ، اذا جاء التغير الالكتروني للدوائر وتحويل كل الملفات الى قاعدة بيانات ، والتغير قادم لان الاقليم جاد بتغير النظام الاداري من كلاسيكي قديم الى نظام الكتروني حديث ، وتتحول من نظام اوراق الى شبكة الكترونية ،

قلت له :اتمنى ذلك ، وكان الله في عون المراجعين .  

  

إذاعة وتلفزيون‏



أفلام من الذاكرة

الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

627 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع