11 عاماً من السقوط (1-2)

                                    

                     د. محمد عياش الكبيسي

في مثل هذه الأيام من سنة 2003، تمكنت الدبابات الأميركية من اختراق بغداد والتمركز في ساحاتها الرئيسة في مشهد اهتزت له الدنيا وجُرحت فيه كرامة الأمة من محيطها إلى محيطها.

هناك سقط التمثال، وسقطت معه أشياء كثيرة، قد لا نستطيع أن نقدّم كشفا دقيقا بأسمائها وأحجامها، لكنه يكفينا هنا أن نأخذ منها ما يساعدنا على تشخيص الواقع المرير وتداعياته الخطيرة في المشهد العراقي والمحيط الأوسع.
لقد كانت المجادلات العراقية - العراقية  وربما العربية أيضا حول طبيعة المشروع الأميركي وأهدافه الحقيقية، وكان الكلام في الغالب يتجه نحو (النفط) والمصالح الأميركية في بسط هيمنتها على الثروات العراقية، وهناك من يتجه إلى (المصلحة الإسرائيلية) في تدمير الجيش العراقي وقوته المتنامية، بينما كان الكثير من المشايخ والدعاة يتخوفون من مخطط (نشر الرذيلة) والعادات الغربية التي تتصادم مع ديننا وهويتنا، وقد سمعت أحدهم وهو يقول: إننا نتحمل الجوع والحصار لكننا لن نتحمل انتشار السفور وحانات الخمور، وتغيير ثقافة الشباب، فيرده صوت آخر: يا أخي دعنا نتنفس الحريّة ونتنعم بخيرات بلادنا، فثرواتنا ليست بأقل من ثروات الخليج، ثم إن الدعوة الإسلامية لا شك أنها ستزدهر في أجواء الحرية والديمقراطية أكثر منها تحت سياط المخابرات ورجال الأمن والحكم الفردي الدكتاتوري!
الرئيس الأميركي ربما لم يكن بعيدا عن هذا الجدال، فكان يرسل بين الفينة والفينة رسالته المتكررة (سنقاتل من أجل الديمقراطية) و (الشعب العراقي عانى كثيرا من الظلم والاستبداد وقد حان الوقت لينعم بالحرية والسلام)، إنه هنا يدخل كطرف في النقاش ولو من خلال التلفاز والكلمات المترجمة.
إن البيت (الأبيض) والعالم كله بات يدرك أن تلك الشعارات قد سقطت سقوطا مريعا أكبر بكثير من سقوط التمثال، ومهما اختلفت التفسيرات فإن هناك حقيقة واحدة، أن أميركا قد سقطت في العراق سياسيا وعسكريا وأخلاقيا، وقد ذهب ماء وجهها، ولم تعد محط ثقة لا بشعاراتها ولا بوعودها. إن سجن (أبي غريب) والذي أصبح بصمة أميركية في عالم (الفضائح) لم يكن في الحقيقة إلا حدثا جزئيا مقارنة بالمنهجية العامة للبيت الأبيض والتي أوصلت العراق والمنطقة كلها فيما بعد إلى هذا الجحيم، بحيث صار الكثيرون يبكون من شدة حنينهم إلى أيام الاستبداد والدكتاتورية، حيث كان الأمن والاستقرار والكرامة والمنعة.
أما الساقط الثاني فهو ذلك الذي كان واقفا على الضفة الأخرى، متمسحا بثياب الزهاد والنسّاك، وممتشقا سيف الدفاع عن (المحرومين والمستضعفين)، ومنهمكا بكتابة التمائم وقراءة المعوّذات لطرد الشياطين صغارهم وكبارهم، فلما حلّ الشيطان ببابه راح يقدّم له القرابين، ويرسل إليه أبناءه وبناته ليتعلموا منه فنون (الشيطنة) ويقدموا له بيعة (السمع والطاعة).
إن الأقنعة الإيرانية قد سقطت كلها في العراق قبل سقوطها الأخير في سوريا، لكن (الثوريين العرب) ودعاة (المقاومة والممانعة) وبعض (الإسلاميين) كانوا لا يزالون تحت تأثير السحر وطلاسم الشعوذة (سحروا أعين الناس).
ومن الغريب حقا أن يتأخر اكتشاف العرب لحقيقة (حزب الله) وهو الذراع الإيرانية الأشد، والذي لا يخجل زعيمه من التصريح جهارا نهارا أنه مجرد جندي من جنود الولي الفقيه، ثم يعوّل عليه العرب ليحمي لهم لبنانهم وشامهم من الخطر (الصهيوني الأميركي)، وكان يكفي أن يسألوه عن موقفه من تحالفات وليه الفقيه المعلنة مع الأميركان في العراق وأفغانستان. نعم لقد كانت الغشاوة قد بلغت حدا سميكا لا ينفع معه التنبيه الحييّ ولا الحوار الخجول، ولا زلت أذكر ذلك الشاب (العربي) الممتلئ حيوية وحماسا وهو يجيبني عن كل هذه التساؤلات بقوله: أين هي المشكلة؟ إيران أخطأت في العراق وأفغانستان وأصابت في لبنان وفلسطين، وهكذا حزب الله! ولا أدري هل سيضيف هذا الأخ اليوم على قائمة العراق وأفغانستان سوريا واليمن والبحرين والتهديد بضرب السعودية واحتلال مكة والمدينة، ثم لا ينسى أن يضيف إلى قائمة لبنان وفلسطين المساعدات الإيرانية للشعوب الفقيرة في إفريقيا وبناءها للجامعات والمصانع وتقديمها لحافلات النقل العام والمكتوب عليها (هدية الجمهورية الإسلامية للشعب الموريتاني الشقيق)، وتقديم الملايين لدعم حكومة جزر القمر، وقبول الطلاب الفقراء من إندونيسيا وغيرها للدراسة المجانية في الجامعات الإيرانية، فهذه إيجابياتها! وتلك سلبياتها، وهذه هي القراءة المنصفة والواعية للملف الإيراني في نظر هؤلاء.
لا زلت أذكر أيضا بعد زيارة أحمدي نجاد لبغداد وتحت حماية الدبابات والمدرعات الأميركية والتي أحرجت الكثير من أصدقائه (العروبيين) و (الإسلاميين)، راح أحدهم يكتب عن ضرورة (الإنصاف)، فالرجل قد ضرب المثل الأعلى بالزهد! و (جاكيته) شاهد على ذلك، وأما خطاباته (الثورية والشجاعة) ضد الاستعمار والهيمنة الأميركية والصلف (الصهيوني) فلا ينبغي نكرانها أو التشكيك في مصداقيتها!
في تقديري أن الكثير من هؤلاء كانوا ضحايا ذلك (السحر السياسي) و (الدجل الديني) خاصة بالنسبة لمن بدأ يصحح موقفه ويستعيد ذاكرته بعد الهزّات العنيفة في سوريا، لكني لا زلت أخشى من وجود نوع من التضليل الممنهج عند البعض الآخر لحسابات خارج نطاق الفكر والاجتهاد الثقافي أو السياسي.
إن (القلم العربي) حقيقة لم يكن على قدر المسؤولية التي تتطلبها المرحلة، فقد كان يعيش حالة من السطحية، والتأثر الكبير بالصور والشعارات والدعايات السياسية، والغرق في (أحلام اليقظة) والبحث عن الفارس الذي يعيد للأمة هيبتها، وهذه الحالة بالذات تفسّر التعلق الشديد لدى هؤلاء بالعناوين المتناقضة، فمرة خلف صدام حسين، وأخرى خلف أحمدي نجاد، وثالثة خلف حسن نصر الله، ورابعة خلف أسامة بن لادن، وهكذا، إنها محاولة لإرواء العطش الداخلي لقيم البطولة ومواقف العزة، وهناك أقلام أخرى كانت وما زالت لمن يدفع أكثر، وكل ذلك أسهم في انتشار الخدر الحالم والذي يؤول في كل مرة إلى حالة من الصدمة والشعور بالإحباط.
لا أكتمكم أني التقيت مؤخرا في أربيل العراق ببعض الشباب (المتدين) وهم مشغوفون بقصة (البديل) أو (الشبيه) وأن بعض (الشيوخ) يقسمون الأيمان لهم أن صدام حسين موجود وأنه هو من يقود الثورة! إنها حالة تؤكد أننا نعيش في أزمة نفسية لا تدعنا أبداً نفكر بطريقة علمية ومنهجية للوصول إلى الحل، وإن كنتم ترون في هذه القصة قدرا كبيرا من الغرابة، فإني أعتقد أن التعويل على هذه الخرافة عند هؤلاء، ليس بأكثر غرابة من التعويل على المشروع الإيراني للمساعدة في تحرير فلسطين وإنقاذ الأمة من مخالب الهيمنة الاستعمارية.
إن (سقوط التمثال) أو (سقوط النظام) أو (سقوط بغداد) لم يكن سوى المظهر الأخير لحالة عامة من السقوط، تستدعي وقفة طويلة ومراجعة عميقة لتصوراتنا وتصديقاتنا وتحليلاتنا وسلوكياتنا، قبل أن تهوي الأمة كلها -لا قدّر الله- في الهاوية التي ليس بعدها نجاة.

أطفال الگاردينيا

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

392 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع