ألف ألف رحمة على روحك الطيبة أخي الحبيب "هشام علي غالب عزّت"

                                                   

                            صبحي ناظم توفيـق

ألف ألف رحمة على روحك الطيبة أخي الحبيب "هشام علي غالب عزّت"

إحـتَرْتُ في أمري يا أخي الحبيب وصديق عمري "أبا سنان" من أينَ أبدأ وبماذا، وكيف أنتهي؟؟ فنادِراً ما إستشعرتُ علقماً طيلة عمري الذي تجاوز منتصف عقده السابع كالذي أذوقه اليوم.

أُخاطِبك من هذه الدنيا الفانية وروحك الطاهرة في "جنات خُلْدٍ فردوس" بعد أن حَرَمَتْـني فايروس "كورونا" اللعين من أن أشمّ رائحتك المِسك في ما تَبَقّى من عمري، مثلما كان حالنا طيلة (7) عقود إنصرمت وكأنها بضعة أيام، لم نختلف خلالها على شيء، قضيناها أشبه بأخَوَين بل أكثر من ذلك بكثير، ولم نتحسّس بفرق بين مَسكنَينا -إلاّ ما حرّم الله جُلّ في عُلاه- مستشعِراً بالسيدة "أم سنان" شقيقة، وإبنك "سنان" وإبنتي "دينا" بمثابة أولاد لي، وَبِكَ أخاً لزوجتي وأباً لبناتي الثلاث.
كان أوّل صداقتنا الحميمة عام (1960) حين إحتوتنا "ثانوية كركوك"، حيث تحابَبنا شابّين يانعَين متصادِقَين من دون مصلحة، كنتَ بالفرع الأدبي وأنا بالعلمي... وقد تَلَمَّسْتُكَ -بمضيّ الأيام وإنقضاء الأعوام وتقدّم العمر وصقل الحياة، كما تلمّس فيك كل من جالسك عن قرب- محبوباً، ذكيّاً، متفوّقاً، محترماً، ودوداً، حَسَنَ الهندام، ذوّاقاً في إختيار مرتدياتِك، سلِس الكلام، ممتِع الحديث، مُجيد الإنصات، حاضر البديهة، حَسَنَ المعشر، دَمِثَ الأخلاق، رياضياً ورساماً كاركاتيرياً وخطّاطاً ونحّاتاً، كريم النفس عزيزها، معتدل الآراء، واصل الأرحام، صائب القرارات، حازماً في الشدائد، وحاسماً متى ما تطلّب الأمر ذلك، لا تأخذك في قول الحقّ لومة لائم... فاضلاً متواضعاً، مدركاً للأمور، مقدّراّ للمواقف، مؤمناً بأن لكل مقامٍ مقال، مثقّفاً لا يُجارى، زاهداً بأمور الدنيا، نظيف اليد، عزيز النفس، مترفِّعاً عن المادّيات، لم تَغُرْكَ المناصب والدرجات والمكافآت، فقد كنتَ أرفع منها وأعظم.
لذلك، ولأسباب عديدة أخرى، أجلّك الجميع صغاراً وكباراً، أقرباءً وأصدقاءً ومعارفَ وجيراناً، تركماناً وعرباً وأكراداً ومسيحيين وسواهم، فإحترموك عن قناعة وأحاطوا بك وإرتاحوا لبشاشتك المعهودة، ليس من أجل مصلحة، بل تقرّباً إلى شخصك ومواصلةً لصداقتك، وتمتّعاً برؤياك، والإستماع لأحاديثك الممتعة.
وعلمتُ يا"هشام" إنك وُلِدْتَ عام (1942) بمدينة "الرمادي" وقتما كان السيد الوالد موظفاً في دائرتها المالية، وقد عدتُم منها إلى مدينتكم الأصل "كركوك" فنشأتَ في مدارسها الإبتدائية والمتوسطة والثانوية، من أبوين تركمانيّين كركوكيَّيْن ينتميان لعائلتين عريقَتَين، لم يَدُرْ ببالك أي تعصّب لأنك َتَرَفّعْتَ عنه ونأيتَ منه في صباك وسنيّ شبابك بل وطوال حياتك، وقد ترعرعتَ وسط إخوتك "نهاد، خلدون، رأفت، ممتاز".
وأعلم أنك فضّلت الإنخراط بالمسلك العسكري الذي عشقناه، وقُبِلنا سوية في الكلية العسكرية بدورتها الـ(41) حتى تخرّجنا معاً برتبة "ملازم

    

هشام علي غالب عام (1963) بالصف المتوسط-الدورة/41 بقيافة تلاميذ الكلية العسكرية

ثانٍ" يوم (14/تموز/1964).
وفيما نُسِّبتُ أنا للحرس الجمهوري فقد إخترتَ أنت الصنف المدرّع، لتغدو آمر رعيل دبابات (T-54) لدى كتيبة دبابات المقداد-اللواء المدرّع/6، والتي كانت سراياها ورعائلها منتشرة وسط قواطع العمليات في عموم محافظة "أربيل"،

    

الملازم هشام علي غالب -الثاني من يسار الصورة- مع عدد من أصدقائه الضباط لدى كتيبة دبابات المقداد في قاطع أربيل سنة (1965)

حتى إلتقينا سوية وقتما نُقِلتُ إلى ذلك اللواء في (تموز/1966)، وقبل أن نُحَرَّك في أوائل حزيران/1967 نحو الجبهة الأردنية ثم السورية، لنمكث فيهما (44) شهراً متواصلاً قبل أن نعود إلى الوطن عام (1971)، حتى بلغت خدمتك في الكتيبة ذاتها (8) سنوات متتابعة، ترفّعتَ فيها لرتبة "نقيب" من دون أن تتشكّى وتطالب أن تُنقل منها، حتى أمر الرئيس "المَهيب أحمد حسن البكر" -في زيارة مفاجئة- بتكريمك ونقلك معلّماً بمدرسة الدروع في "الموصل"عام (1972).

ويشهد الجميع أنك كنتَ متمَيِّزاً في الرياضة، وبالأخص كرة القدم ضمن الفريق (آ) للكلية العسكرية، وقد رُشِّحتَ لمنتخب الجيش بعد التخرج ولسنوات عديدة، لكن ظروف العمليات في الشمال ثم الأردن وسوريا لم تمكِّن الساعين من تحقيق ذلك.
وأشهد -وأنا صديق عمرك الحميم- إنك نأيتَ عن جميع الأحزاب والتكتلات السياسية في كل العهود، وتدرّجتَ في الرتب بعرق جبينك، وتنقّلتَ بمناصب الصنف المدرع وفي ظروف الحركات الفعلية. وعملتَ برتبة "عقيد" بمنصب مدير إدارة وميرة فرقة في القاطع الجنوبي أثناء الحرب العراقية-الإيرانية، قبل أن تشغل منصب ضابط الركن الأقدم لدى مديرية التطوير القتالي تحت إمرة معلِّمنا وقائدنا "اللواء الركن علاء الدين حسين مكّي خَمّاس" -والذي كان وما زال يعزّك- وكنتَ خير عَونٍ له بشهادته، قبل أن تُنقَلَ وتترفّع لرتبة "عميد" عام 1988، وتُحالَ على التقاعد بُعَيدَ إنتهاء الحرب، وقتما تقرر هيكلة الجيش وتقليص حجمه.

وأشهد كذلك أنك كنتَ محطّ إحترام الجميع ومحبّتهم وإعتزازهم، سواء كانوا آمري كتائب وألوية وقادة فرق ومدراء مديريات بوزارة الدفاع، كما كان حالك في قلوب أصدقائك وزملائك الضباط ومرؤوسيك من ضباط الصف والجنود.
وما بعد التقاعد لم نفترق، بل بالعكس، فقد تفرّغنا لنقضي أوقاتاُ هانئة بمَسكَنَينا القريبَين من بعضهما في "زَيّونة"، فلم يكن ينقضي أسبوعان إلاّ ونجتمع مع أصدقاء أعزاء كانوا يتمنّون مجرد مصاحبتك والإستمتاع لأحاديثك لساعات طوال، قبل أن يحلّ الغضب على العراق خلال التسعينيات بعد غزو دولة الكويت والحرب التي شُنَّت على العراق عام (1991).
وفيما كنا نخطِّط سويّةً منذ مطلع (1998) لنهاجر من وطننا العزيز -مضطرّين- والخروج المشترك مع عائلتَينا عن طريق "أربيل" أو "السليمانية" ، فقد إتّهَمتَني أنت بالتردّد والتباطؤ... ووقتما طرقتُ باب بيتك بعد أسبوعين من آخر لقاء، فوجئتُ برجل كَهِل يخبرني بأنه إقتناه، وفي لحظته قَدَّرتُ أنك سافرتَ وأني فارقتُ واحداً من أعز أعزائي منذ (38) عاماً، وسيظلّ الفراق نصيبي لأعوام قادمة، ولربما لا يُقَدِّر الله سبحانه أن نلتقي ثانية.
وفي "كركوك" علمتُ من أخيك "الأستاذ نهاد" بوصولك إلى "السويد" سالماً بخطّة سفر مُنَسَّقة، فحمدتُ العلي القدير على ذلك قبل أن يصعقني "نهاد" بوفاة نجلك "الملازم أول سنان" في حادث غرق، رغم تركك الوطن من أجل تخليصه من براثن العسكرية، بعد محاولاتك الدؤوبة وطرقك لأرفع الأبواب، وعجزك من إحالته على التقاعد بأي أسلوب وطريقة كانت.
إنقضت (17) سنة لم نَلتَقِ في غضونها، حتى تَحاضَنّا وسط "إستانبول" عام (2015)، وتكرّر لعدة أيام في (2017) للمرة الأخيرة، فإكتفينا بمراسلات

  

آخر صورة لـ"هشام علي غالب" في "إستانبول" جمعته مع صاحب الرثاء وسبطه "عبدالله"

شبه يومية ومهاتفات أسبوعية كنا نسعد بها ونستأنس بذكرياتنا مع زملاءنا التلاميذ بالكلية العسكرية ومفارَقات أصدقائنا من ضباط اللواء المدرع/6 ووزارة الدفاع، حتى حلَّ يوم (4/11/2020) لأستشعر بصوتك على ما لا يُرام، وكنتَ على قناعة بأنه مجرّد "إنفلونزا"عابرة.
ولكن الأحداث تسارعت حينما هاتفتني باليوم التالي لتخبرني أنه "الكورونا" اللعينة بعينها، وجاءتني الصعقة يوم (8/11) وقتما أعلمتني أنك وأختي "أم سنان" قد نُقِلتُما إلى المستشفى متباعدَين، حتى حلَّ يوم (12/11) لأسمع صوتك المُتعَب عبر الهاتف للمرة الأخيرة في حياتي وأنت على وشك إدخالك بالعناية المركّزة مُخَدَّراً، فإنقطِعتَ عن الدنيا طيلة (31) يوماً، حتى وافاك الأجل اللعين يوم الأحد (13/12/2020).
وبعد أن ووريتَ الثرى في وطن الغربة يوم (الأربعاء 23/12/2020) أحسستُ بأن لحظة الفراق المؤقّت قد حلّت، إذْ يحزّ في نفسي المتألّمة أن أودّعك بهذه الأسطر الضئيلة التي لم تَشْفِ ولو بعضاً من غليلي، أو تُهَدِّىء جزءاً ممّا أُعانيه من إرهاصات فراقك بهذه اللحظات الموجِعة، في حين ستظلّ روحك الطيبة الحائمة في جنات نعيم نبراساً يُصاحِبني، ويستحيل معه أن أنساك ولو لحظة مما تَبَقّى من عمري...
وفي حين لا أكتمك بأن لا أحد يعوّضني أو يحلّ في قرارة نفسي وقلبي وعقلي محلّك، فأنني أُخاطبك أن تنام، يا أخي الحبيب "أبو سنان" رغيداً، قرير العين، هانئاً بملىء جفونك ولا تكترث، فأنت وَمَنْ سَبَقَكَ من الأجِلاّء هم السابقون، ويبدو أن آلافاً آخرين من الطراز نفسه سيُلحَقون بك.
فوداعاً يا أخي الحبيب "هشام علي غالب عِزَّت"، ومن العليّ القدير والواحد الأحد، على روحك الطاهرة المعطاء ألف ألف رحمة، فأنتَ أنتَ أهلٌ لها.
وأخيراً لا يسعنا إلاّ أن نستذكر أن لن يصيبنا إلاّ ما كتب اللّه لنا، وإنا للّه وإنّا إليه راجعون، شئنا ذلك أم أبينا، فتلك إرادة العليّ القدير الذي لايُرَدُّ في هذه الدنيا الفانية الدنيئة.

مخلصك وصديق عمرك
د. صبحي ناظم توفيـق
إستانبول- في 24/12/2020

   

  

إذاعة وتلفزيون‏



أفلام من الذاكرة

الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

757 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع