عصفور حر ومواطن اسير - من ذكريات يهودي عراقي

                                                                                             

                          داود كركوكلي

عصفور حر ومواطن اسير- من ذكريات يهودي عراقي

انظر لقد وقع في مصيدتي، لقد نجحت!! كانت تلك "الفريسة" عصفور بغدادي صغير اغرته حبات "حباش الصمون" التي ذرتها اختي الصغيرة على أرض طارمة الحوش فدخل بجناحيه المصيدة. كان ذلك "انجاز" سجلته اختي ذات السبعة ربيعاّ لنفسها بأسرها، بذكاء طفلة بعمرها، عصفور جائع دخل "زنزانته" بجناحيه.

احتفت اختي بهذا الإنجاز وصار العصفور شغلها الشاغل، تطعمه وترويه الماء قبل ذهابها الى وبعد عودتها من المدرسة. أصبح عصفورها رهين قفص "5 نجوم " توفر له سجانته الطعام والماء لكنه "مكبل" الجناحين!... وتمر الايام ويطرق بابنا ليلاً زوار غير مرغوب بهم جاؤوا لينتزعوا ابي من عائلته ويأخذوه إلى المجهول بل إلى مجهول قصر النهاية!!

لم تكن تلك المرة الأولى التي نفقد بها أبي. قبلها بأشهر اختطفت إحدى الجهات "الأمنية" والدي من محل عمله. أطلق سراحه بعد عملية استنطاق وتعذيب وحشي، بطرق لا يمكن بوصفها بالآدمية. وحين أفرج عنه وعاد ألينا، من رحلته المظلمة في اقبية وسراديب أجهزة النظام الغابر في البصرة، كان هزيلا ًوقد فقد من وزنه ما يكفي بحيث لم نتعرف عليه للوهلة الأولى. كان اشبه بهيكل عظمي يمشي!

"البس هدومك ساعتين ثلاثة وترجع" - كلمات لازالت ترن في اذناي حتى بعد مرور خمسة عقود. كان أبي "يلملم" جسده المنهك من الجولة الأولى بالبصرة حينها قطع صراخ اختي التوتر الذي كان يسود جو الغرفة.
"شلكم بيه هذا أبويا ومحد يأخذه".
ساد الصمت غرفة الصالون – كم هي جريئة هذه الصغيرة أنها تقف كاللبوة بوجه نصف دزينة زلم النظام لتدافع عن والدها.

تحولت الاضواء فجاءة إلى تلك الطفلة وانعقدت السنة الرجال الذين انتهكوا حرمة بيتنا، لم يكن لأحد منهم جواب حتى بادر رئيسهم بالرد:
"بس چم سؤال ونرجعه, ليبقى بالچ".
وذهب ابي لتستغرق إجابته على أسئلتهم شهور بل سنتين!

بقت اختي متقوقعة مع عصفورها حتى قررت في أحد الايام إطلاق سراحه لعلها تحظى بتكحيل عينيها برؤية ابيها. بقي القفص وطار العصفور وبقت اختي على أمل ...تحرير الاسير متمنية لو كان مفتاح "قفصه" بيدها ......لو...
ونتيجة للاعتقال المتكرر لأبي لم يعد يزورنا أحد من المعارف والأصدقاء خشية أن يكون بيتنا مراقبا و"تجر رجل" من يطرق بابنا وهكذا تقوقعنا بدارنا ووضعنا أنفسنا، مسيرين لا مخيرين، "تحت الإقامة الجبرية".

أما على الصعيد الشخصي فقد تحملت مسؤولية "رجال "البيت ولم اكمل بعد الثلاثة عشر ربيعاً، يمسي ليلاه، وبشكل يومي، على غير عادة أبناء جيله، نشرات أخبار تلفزيون بغداد وبالتحديد اخبار منتصف الليل لا لشيء إلا لاستمع لقائمة المدانين بالإعدام شنقا بمحاكم النظام بتهم التخابر مع اعداء العراق من الذين سيعدمون فجر اليوم التالي!!نعم كنت، ولفترة ليست بالقصيرة، اجلس مشدودا أمام شاشة التلفاز ابتهل للباري عز وجل ألا يدرج اسم ابي على تلك اللائحة الملعونة.

وحين بزغ فجر ال٢٧ من يناير/كانون الثاني ١٩٦٩ اللعين ونزل خبر اعدام تسعة من اليهود كالصاعقة على أبناء الطائفة الموسوية والتي تابعت بمرارة البث المباشر من ساحة التحرير ببغداد والألاف تدافعت تهتف وترقص، بمحيط الجثث المعلقة على أعواد المشانق بقلب بغداد. هكذا كان شتاء عام ٦٩ قارس ببرودته وقارص بطعنه لأعرق طائفة عراقية لم تبخل بالتقديم لبلدها، التي تمتد جذورها في سوادها لعصور خلت، على جميع الأصعدة.

عشنا سنوات طفولتنا ومراهقتنا في ظل ترعيب النظام الذي تفنن في تغييب اباءنا وأخواتنا. فقدنا خلالها ٥٠ شخصا ممن قضوا نحبهم على أعواد مشانق النظام وفي معتقلاته. وعلى الرغم من مرور خمسة عقود يبقى صدى صوت تلك الطفلة، محررة العصفور، يصدح في كل كانون ثاني من كل عام: "شلكم بيه هذا أبويا ومحد يأخذه.”

مهداة لأرواح الذين قضوا نحبهم في غياهب المعتقلات والسجون وللذين علقوا على أعواد المشانق والذين خرجوا ولم يعودوا منذ نصف قرن. إلى الاطهار من يهود العراق.

حولون – إسرائيل
كانون الثاني 2020

  

إذاعة وتلفزيون‏



أفلام من الذاكرة

الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

1059 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع