أَيَّةُ أدوارٍ للاتّصالِ الوَسائِطيِّ في التربيةِ على حقوقِ الإنسان؟ / ق٢

                                                   

                             د. زكي الجابر

أَيَّةُ أدوارٍ للاتّصالِ الوَسائِطيِّ في التربيةِ على حقوقِ الإنسان؟

                   إعداد: د. حياة جاسم محمد

                القسم الثاني
المواجهة
وإذا ما كانتِ الإشكاليَّةُ تَنضوي على تلكَ المَلامحِ المُعتِمَةِ التي كَشَفَ عنها التَحليلُ فهل يَعني ذلك التَسليمُ والانكِفاءُ وغَلقُ الأبوابِ أمامَ الاجتهادِ بالبَحثِ عن السُبُلِ العَمَليَّةِ غيرِ الوَعظيّةِ التي يُمكنُ من خِلالِها أن تَقومَ وَسائِطُ الإعلامِ بِدَورٍ في التَربيةِ لحُقوقِ الإنسانِ والتَوعِيَةِ بها؟
إنَّ القَولَ بأَنَّ أجهِزةَ الاتّصالِ تَنقلُ صَوتَ سَيِّدِها لم يَمنَع من نَفاذِ أَصواتٍ أُخرَى، تِلكَ هي أصوات دُعاةِ حقوقِ الإنسانِ من الصَحَفِيِّينَ والصَحَفِيّاتِ مِمَّن يَعمَلونَ في تلكَ الأجهِزَةِ ويُدرِكُونَ كَيفيَّةَ التَعامُلِ مع رُوتِينِها ويَعرفونَ أَفضَلَ السُبُلِ لِتَحويلِها إلى حَلَبَةِ نِقاشٍ حتَّى وإنْ كانتْ مُصَغَّرةً وغيرَ مُمَركَزَة، وقد لا يكونُ صوتُ هؤلاءِ عالياً ولكنّنا نُشاهِدُهم هنا وهناك يُساهِمونَ في حَرَكِيَّةِ النَقدِ من أَجلِ حُقوقِ الإنسان.
إنَّ هؤلاءِ يَعملونَ على بِناءِ الجُسورِ بينَ أُولئِكَ الذينَ يُلاحِظونَ بِدونِ تَفكيرٍ وأُولئِكَ الّذينَ يُفَكِّرونَ مِن غَيرِ أن يُلاحِظُوا. إنَّهُم، مِن خِلالِ المُمارَسَةِ، يُدرِكونَ ما هو نَوعُ التَفكيرِ وما هو نَوعُ المُلاحَظَةِ وما يَربِطُ بينهما.
إنَّ مُهِمَّةُ الإعدادِ لِمُمارَساتٍ فاعِلَةٍ في مجالِ التربيةِ لحقوقِ الإنسانِ لا ينبغي أن تَسيرَ على نَهجِ تَضمينِ مَناهِجِ كُلِيّاتِ الحُقوقِ والقانونِ والشُرطةِ، وكذلك كُلِيّاتِ الإعلامِ ومَعاهِدِه، مُقَرَّراتٍ تتناولُ بالدرسِ حُقوقِ الإنسانِ بل يَنبغِي أن يتجاوزَ الأمرُ ذلكَ إلى تَضمينِ مُقَرَّراتِ تعليمِ الإعلامِ تَداريبَ عَملِيَّةً على الكِتابةِ الصَحَفيَّةِ وصِياغةِ البرامجِ الإذاعيَّةِ والتَلفزِيَّةِ في مَجالاتِ قضايا حقوقِ الإنسانِ والكَشفِ عن المُمارَساتِ التي يُضَحَّى من خِلالِها بهذهِ الحقوقِ وتُهدد كرامة البشر.
وإلى جانبِ ذلكَ ينبغي أنْ يتعلَّمَ هؤلاءِ المُتدرِّبونَ مُمارسَةَ حِرفتِهم الصَعبةِ كَمُثقَّفينَ يُساهِمونَ في الحِوارِ والنِقاشِ على أرضِ الواقعِ. إنَّ أَداءَ هذهِ المُهمَّةِ لَيَزدادُ صُعوبةً حين يَصعَدُ الإيقاعُ إلى الدماغِ، ولا تسمعُ القبيلةُ سوى أَناشيدِ الحَماسِ والمَجدِ، وما يَحمِلُ هذا التَصعيدُ من احتقارٍ للطَرَفِ الآخرِ، وما يُؤَدّي إليه الاحتقارُ من حِرمانِ ذلكَ الطَرَفِ من أَهَمِّ حقٍ نَصَّتْ عليه حُقوقُ الإنسانِ، وهو حَقُّ الحياة.
ومُسايَرَةً لِكُلِّ ذلكَ يَنبغي أن تَعمَلَ مُؤَسَّساتُ المُجتَمَعِ المَدنّيِّ في اتّجاهِ الضَغطِ على وَسائِطِ الاتّصالِ لإِنجازِ حَملاتِ حُقوقِ الإنسانِ، وأَنْ تَعمل كذلك علَى أن تتضمّن مَواثيقُ الشَرفِ الإعلامِيِّ وأنظمةُ النَقاباتِ والجمعيّاتِ المهنيةِ الإعلاميَّةِ وقوانينُ مجالسِ الإعلامِ ما يَنُصُّ صَراحةً على العَمَلِ من أجلِ حُقوقِ الإنسانِ والتَوْعيةِ بها والتَربيةِ عليها.
وإذا ما كانَ لِوَسائِطِ الإعلامِ أنْ تَعمَل في حُقوقِ التَربِيةِ على حُقوقِ الإنسانِ فإنَّ السُبُلُ المُقتَرَحةَ تتضمَّنُ تَوظيفَ التلفزةِ والإذاعةِ والصَحافةِ كَأَدواتٍ فاعلةٍ في مَجالاتِ التَعليمِ على حُقوقِ الإنسانِ على اختِلافِ أَنماطِ التَعليمِ مِن نِظاميِّ وغَيرِ نِظاميِّ ولا نِظاميّ.
أَنْ تُوظِّفَ وَسائِطُ الاتَصالِ طاقاتِها في مجالاتِ مُراقَبَةِ البيئةِ والإخبارِ عنْ المُمارَساتِ الجيّدةِ والرَديئةِ في تَعامُلِ الإنسانِ مع أخيهِ الإنسانِ، وأن تُسَلِّطَ الأضواءَ على الظُلمِ والاضطهادِ وسَلْبِ المِلكيَّةِ والاغتِصابِ والتَشريدِ وانتِهاكِ حُقوقِ الطُفولة.
أَنْ تُرتِّبَ أجهزةُ الإعلامِ أَولَوِيّاتِها، وأنْ تَحتَلَّ حُقوقُ الإنسانِ مَرتبةً مُتقدِّمةً من هذهِ الأَولَوِيّاتِ، وأن تُعالِجَ هذه الحقوقَ وَفْقاً لِصِلَتِها العَمليَّة بِحَياةِ الإنسانِ العَربيِّ وبَقائِهِ على قَيدِ الحياةِ كريماً مُنتَعِماً بما وَهبَ اللهُ أرضَهُ من نِعَم.
أن تُساهِمَ في خَلقِ مَناخٍ عامٍّ يَسمَعُ فيهِ المُواطِنُ ويَقرأُ ويُشاهدُ عن حُقوقِ الإنسانِ وأهمِّيَتِها وضُرورَتِها واعتبارِها لازمةً من لَوازمِ الحياةِ لا يَتفَضَّلُ أو يَمِنُّ بها أحدٌ على أَحَد.
أَنْ يتوجَّهَ الدارِسونَ جِدِّيّاً إلى صِياغةِ نظريةٍ للحُريّةِ باعتبارِها شَرطاً وليسَ مِعياراً للأَداءِ الإعلامِيِّ، تُحيلُ أَساساً على الحَقِّ في حُرّيَّةِ التَعبيرِ والتَكوينِ الحُرِّ للآراءِ، كما تتَضمَّنُ، كَذلكَ، أيضاً قِيَمَ الصحافةِ من مَوضوعيّةٍ وإنصافٍ ودقّةٍ ومصداقيّةٍ مع اقترانٍ بالحَقّ ِفي الوُصولِ إلى قَنَواتِ الاتّصالِ وتَوَفُّرِ الفُرَصِ لِتَلَقّي المعلوماتِ على اختلافِها. وعلَى هذا فَمِنَ المُمكِنِ تَلخيصُ الأركانِ الثلاثةِ التي يَستَنِدُ إليها شَرطُ حُرّيّةِ أَداءِ أجهزةِ الإعلامِ في: استقلالِيَّةِ المَكانَةِ بعيداً عن الضُغوطِ السياسيّةِ والإداريّةِ والماليَّةِ، والوُصولِ إلى القَنَواتِ، وتَنَوُّعِ المَعلوماتِ.
وبِذلكَ تكونُ وَسائط الاتّصالِ مَجالاً لِلحِوارِ بينَ مُختَلِفِ شَرائِحِ الشَعبِ لا تَستَثني أُولئكَ الذينَ اهتزَّتْ ثِقَتُهم بإِمكانيَّةِ تَطبيقٍ ناجعٍ لِحقوقِ الإنسانِ، وأولئِكَ الذين طالَما أَغفَلتْ أَجهزةُ الإعلامِ آراءَهم وهَواجِسَهم وظُلاماتِهم وتَرَكَتْهُم لِمُعاناةِ ’’صَمْتِ المَقهورين‘‘.
إنَّ تَعليمَ حُقوقِ الإنسانِ وتَوظيفَ وسائِطِ الإعلامِ من أَجلِ إنجازِ فَعّالِيّاتِ هذا التعليمِ لَمَسؤوليَّةٌ مُمتازَةٌ ومُتَميِّزَةٌ، ومِن واقعِ التَجربةِ ليسَ ثَمَّةَ تَرَدُّدٌ في القَولِ بأنَّ العَملَ التَعليمِيَّ غَيُر مُجزٍ مادِيّاً وغَيرُ مُثيرٍ إعلامِيّاً. وقد يكونُ مُفِيداً أن أَستَعيدَ الأبياتَ الهازِئَةَ (لشاعرٍ مجهولٍ) التي استخدمها الصحفيُّ الإنگليزيُّ ماثيو أنگيل (Matthew Engel) عُنواناً لِكتابهِ عن تأريخِ الصحافةِ الشعبيّةِ ’’ دَغْدِغِ الجُمهورَ: مائةُ عامٍ من الصحافةِ الشعبيّةِ‘‘ (Tickle the public:
One hundred years of the popular press):
دَغْدِغِ الجُمهورَ، إِجْعَلْهُ يَضحَكْ
كُلَّما تُدَغدِغُ أكثَر تَربَحُ أكْثَرْ
عَلِّمِ الجُمهورَ، لَنْ تَغدُوَ أبداً غَنِياً
وسَتَعيشُ مِثلَ مُتَسوِّلٍ، وتَنتهي حَياتُك في حُفره
***********
نشر القسم الأول من الدراسة على موقع الگاردينيا في 14-11-2019.
نشرت في صحيفة ’’العَلَم‘‘، المغرب، 18-4-2000.

  

إذاعة وتلفزيون‏



أفلام من الذاكرة

الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

827 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع