معلمتي الاولى

                                                    

                             سمية العبيدي

معلمتي الاولى

عجباً لم أنسها على صغر سني وقلة تجربتي انها معلمتي الاولى أثابها الله , كما اني لن أنسى مدرستي الاولى فقد حفرتا على صفحة ذاكرتي كما يحفر الفنان الحجر ليخلد أحد العمالقة العظام أو أحد الأباطرة فالعظيم – في نظري – ليس من يقود البلدان الى أمجادها فحسب , بل العظيم من يملأُ مكانه فعلا وحقاً ويحفر بصماته فوق صفحة عمره بعمق وتفرد . لم أنسها لا اسماً ولا شكلاً على إني أكملت سنتي الدراسية الاولى في ثلاث مدارس لا أذكر من الأخيرتين حتى اسميهما . كان ذلك العام عام ارتباك في عمل والدي رحمه الله مما جعلنا نتنقل من بيت لآخر فآخر .
كانت للست نبيهة وهذا اسم معلمتي الاولى في الصف الأول في مدرستي الابتدائية " الخنساء الثانية " فضل كبير على َّ وعلى غيري من طالباتها حتماً . لم نكن الا مجموعة من العصافير المبللة صدقاً أو تشبيهاً غير انها كانت أُماً قبل أن تكون معلمة فكان جناحها الدافىء يضمنا جميعا ً ليحمينا من برد الصباح . فهي حين تدخل غرفة الصف الأول وترى بعيون قلبها ارتعاشات البرد والفقر الذي يحرمنا في الأغلب من ارتداء ما يكفي من ملابس , ما كانت تبدأ الدرس الا بعد ممارسة تمارين الإحماء التي تبعث في أبداننا الضئيلة دفئاُ وطاقة . علماً إن مدرستنا الابتدائية ( الخنساء الثانية ) تقع في احدى زوايا الأعظمية من بغداد لا يفصلها عن نهرها الخالد دجلة الا أمتار قليلة .
كانت البناية قديمة تأكل الرطوبة بعض خواصرها ووجهها غير إننا لم نر جدار صفنا أبداً لا رطبه ولا يابسه لأن معلمتنا ذات النشاط الإنساني قبل النشاط المدرسي غطت تطوعاً كل أضلاع الغرفة البائسة بعشرات من وسائل الإيضاح الجميلة التي كانت تشد عيوننا اليها بملائكتها المجنحة وورودها الملونة ووجوه بنات صغيرات موردات الوجنات متلألئات العيون كل ذلك مصفوفاً بكثافة على شكل أرقام يقطعها رمز إشارة الناقص أو الزائد أو الضرب والتقسيم . كنا جميعا نحب معلمتنا كما نحب أُمنا لا لجمالها ولا لألوانها التي طلت بها وجهها بل لروحها الشفافة ويدها الحنون التي تقدم العلم مشفوعا باللطف والعطف لا بالعنف والضرب والعصا والعقاب .
كانت معلمتنا الودود تشملنا بعنايتها جميعاً طفلة طفلة وتؤكد على أن نتعلم لفظ وحفظ الكلمات فعلاً لا أن نحفظ الدرس عن ظهر غيب دون أن نعرف أن نفرق بين كلمة واخرى لذا كانت في جعبتها طريقة سحرية لذلك وهو أن تقطع من غلاف علبة السكائر السميكة قطعة على شكل مربع تتوسطه عين مفرغة تتسع فقط لإبراز كلمة واحدة فقط , فكانت تتجول بين مقاعدنا وفي يدها العين المفرغة تنحني بهدوء نحونا لتضعها حيثما شاءت وتسألنا ان نقرأ .. لترى إن تعلمنا فعلاً قراءة الكلمات أم لا . ومن هنا تعلمنا كل كلمة من فحوى الدرس , رأيت كل ذلك في درس الست نبيهة فقط وفي مدرسة الخنساء الثانية سنة 1952 ولم أره في المدرستين الاخريين اللتين لا أذكر منهما حتى اسميهما ولا اسمي المعلمتين اللتين درستاني ثلثي العام الأخيرين . وليس في ذاكرتي عنهما الا صورة شبحية يلفها الغموض حتى يخفيها كما تخفي الغيوم المتراكمة شمس الله في وضح النهار .
وأذكر إن طالبات الصف لم يكنَّ يصدرن من الضوضاء الكثير لانشغالهن فعلاً في تعلم القراءة والكتابة والحساب . ربما يقول قائل إن التعليم كان آنذاك غير ما هو عليه الآن . نعم هذا صحيح . غير إني قارنت بما في زماني ورأيت الفرق واضحاً للعيان بين من يخلص في عمله حباً به وتحقيقاً لأمر الله ورسوله وبين يقوم به ليسقط عنه تهمة الإهمال . بين من يهتم للطالب مهما كان شكله ولونه ومنحدره وبين من يريد ملائكة أُولي أجنحة وملكات جمال وأناقة على مقاعد الدراسة مقرنين في الأصفاد يسميهم طلابه وينسى إن الطفل طاقة وإنه لابدَّ أن يتحرك ويلعب . عرفت لاحقاً طفلاً كان يجلب لأُمه ما انتزعته معلمته من شعره ملفوفاً في ورقة من أوراق دفتره لمجرد إنه يتحرك كثيراً . شتان بين اليوم والأمس ولكن من يحسن عمله كما أمر الله ورسوله إن لم يذكره التأريخ فستذكره القلوب فيكون لها نبراساً وقبساً هادياً يهتدي بهديه بعد الله ورسوله .

 

  

إذاعة وتلفزيون‏



أفلام من الذاكرة

الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

933 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع