من حكايات جدتي ... التاسعة والثمانون

                                                       

                            بدري نوئيل يوسف

من حكايات جدتي ... التاسعة والثمانون

المرأة الشريفة

حدثتنا جدتي عن كثرة العراك والخلافات بين جارتنا أم البنات وحماتها، قالت بحزن شديد:
ـ لم تمضي أيام قليلة بعد عودة العروسين من شهر العسل، انتقلت الكنة تسكن لكي مع حماتها في بيت واحد، ووجدت الكنة أنها لم تَعُد قادرة على المعيشة مع حماتها على الإطلاق، ووجدت أن شخصيتها لا تتناسب، بل تختلف كل الاختلاف عن شخصية حماتها، وكذلك شخصية حماتها نفس الشيء تختلف عنها، فقد كانت الكنة تغضب من كثيرٍ من عادات حماتها، بالإضافة إلى أن حماتها كانت تنتقد الكنة دائماً. ومرَّت الأيام، وعَبَرَت الأسابيع، والكنة وحماتها لا تكفَّان عن العراك والجدال، ولكن ما جعل الأمر أسوأ وأسوأ، هو أنه بحسب التقاليد العشائرية يجب على الكنَّة (زوجة الابن) أن تخضع لحماتها وتطيعها في كل شيء. وقد تسبَّب كل هذا الغضب والشقاء لزوجها بالحزن والألم الشديد. وأخيراً، وجدت الكنة أنها لا يمكنها أن تقف هكذا في مواجهة سوء تصرف حماتها وتحكُّمها فيما بعد، فقررت أن تفعل أي شيء لتلافي ذلك.
في أحد الأيام توجَّهت الكنة إلى صديق حميم لوالدها، فهو عطار أعشاب طبية في القرية، وأخبرته بكل الوضع وسألته إن كان يمكنه أن يعطيها بعض الأعشاب السامة حتى تحل مشكلتها مع حماتها مرة واحدة وإلى الأبد، وفكَّر العطار مليّاً برهة من الزمن، وأخيراً قال بثقة وجدية:
ـ سوف أساعدك على حل مشكلتك، ولكن عليكِ أن تنصتي لِمَا أقوله لكِ وتطيعيني.
فردَّت عليه الكنة بفرح وسرور:
ـ حاضر يا ملك العطارين، سوف أفعل كل ما تقوله لي.
دخل العطار إلى الغرفة الداخلية لدكانه، ورجع بعد عدة دقائق حاملاً رزمة من الأعشاب، وقال للكنة :
ـ أنتِ لا تستطيعين استخدام سم سريع المفعول لتتخلَّصي من حماتكِ، لأن ذلك سوف يثير الشك في نفوس أهل القرية، لذلك فقد أعطيتكِ بعض الأعشاب التي تبني السموم في جسمها، وعليكِ يوماً بعد يوم أن تُعدِّي لحماتك أكلة لذيذة الطعم وتضعي فيها قليل أعشاب في إناء للطبخ، ولكي تتأكَّدي من أنه لن يشكَّ فيكِ أحد حينما تموت، فلابد أن تكوني واعية جداً أن تتصرفي معها بطريقة ودية جداً، فلا تتجادلي معها وأطيعها في كل رغباتها، بل عامليها كأنها ملكة البيت.
فرحت الكنة كثيرا، وشكرت العطار، وأسرعت إلى البيت لتبدأ خطة التخلص من حماتها، ومرت الأسابيع، وتتابعت الشهور، والكنة تُعِدُّ الطعام الخاص الممتاز كل يوم لحماتها، وتعاملها كأنها أُمها.
وبعد مرور ستة أشهر، تغيَّر كل شيء في البيت. بدأت الكنة تمارس ضبط غضبها من حماتها، حتى أنها وجدت أنها لم تَعُد تتصرَّف معها بحماقة أو بغضب، وظلَّت الكنة لا تدخل في مجادلات مع حماتها لمدة ستة اشهر، لأن حماتها بدأت تعاملها بحنان ومودة أكثر. وهكذا تغيَّر اتجاه الحماة تجاه الكنة، وبدأت تحبها كأنها ابنتها، بل صارت تحكي لصديقاتها وأقاربها أنه لا توجد كنَّة أفضل منها، وبدأت الكنة مع حماتها يتعاملان معاً كأم حقيقية مع ابنة حقيقية! أما زوج الكنة فعاد سعيداً جداً وهو يتعجب مما يحدث.
ولكن الكنة كانت منزعجة من شيء ما. فتوجَّهت إلى العطار وقالت له:
ـ يا ملك العطارين أرجوك أن تساعدني لتجعل السمَّ الذي أعطيته لي لا يقتل حماتي! فقد تغيَّرتْ إلى سيدة طيبة، وصرتُ أحبها كأنها أُمي. أنا لا أريدها أن تموت بالسم الذي وضعته لها في الطعام.
ابتسم العطار وأطرق برأسه قليلاً ثم قال لها:
ـ يا بنتي ليس هناك ما يثير انزعاجك، فأنا لم أعطِكِ سمّاً، فالأعشاب التي أعطيتها لكِ كانت فيتامينات لتقوية صحتها، السمُّ الوحيد كان في ذهنكِ أنتِ وفي مشاعرك تجاهها، ولكن كل هذا قد زال بمحبتكِ التي قدَّمتيها لها. أما المثل الشعبي الذي لا ينطبق على هذه الكنة: "الحماة ما تحب الكنة ولو كانت حورية من الجنة"
نعود لحكايتنا اليومية: كان يا ما كان، شيخ عرب وعنده بنت وحيدة جميلة وصاحبة دين وأخلاق حميدة اسمها كوكب، وكانت تحب أباها وتخدمه، وتصنع له القهوة المرّة ولها دقّة مهباج رائعة ومميزة ومشهورة بين الناس، وكان عندهم عبد أسود يخدمهم ويلبي حاجاتهم.
في أحد الأعوام أراد الشيخ أن يذهب إلى الحج، فجهّز نفسه وأوصى العبد بابنته خيراً وودّعهم وسافر، وفي أحد الأيام عاد العبد إلى البيت فوجد كوكب بالحمّام، وأراد الاعتداء عليها، فقاومته وضربته بالعصا، فكسرت رجله وقعد بالأرض لا يتحرك، فحقد عليها وصمّم على الانتقام منها.
لمّا عاد أبوها من الحج رأى العبد مكسوراً، فسأله عن السبب؟ فطلب منه الأمان، فأعطاه الأمان فقال له:
ـ يا سيدي ابنتك صاحبت رجلاً وأحضرته إلى البيت، فلما أردت منعها ضربتني هي وصاحبها، فكسرا رجلي وقعدت على الأرض منذ ذاك اليوم.
فغضب الأب وفار دمه وطلب ثلاثة رجال من القبيلة، وأمرهم أن يأخذوها إلى البرية ويرموها هناك، ويتخلصون منها، فأخذها الرجال ولما ابتعدوا عن المضارب أرادوا أن يعتدون عليها، وصاروا يتقاتلون مع بعضهم ، فقالت لهم:
أنا أحلّ الخلاف بينكم سأرمي حجراً بالمقلاع ومن يسبق ويعود بها أكون له، فوافقوا ورمت الحجر بعيداً، فتسابقوا عليها، ولمّا ابتعدوا ركبت الفرس وسابقت الريح وهربت منهم، ومرت في طريقها على عين، فنزلت عليها وغسّلت وجهها وشربت، وجلست ترتاح تحت شجرة ونامت .
مرّ أحد أمراء العرب فشاهدها وأعجبه حسنها وجمالها، فعاد بها إلى القبيلة وكتب كتابه عليها، وتزوجها وبعد أعوام ولدت له ولدين، بعد فترة من الزمن وفي أحد الأيام قالت لزوجها:
لقد اشتقت لأهلي وأريد أن أذهب إليهم لتطمئن على والدي.
وكان الأمير مشغولاً فطلب من أخيه أن يوصلها إلى أهلها، ويبقى معها عندهم مدّة أسبوع ثم يعيدها إلى القبيلة. أخذها شقيقه وسارا في طريقهم إلى ديار أهلها، وفي الطريق نزلا قرب بئر ماء ليأكلا ويشربا ويرتاحا قليلاً، حاول الأخ الاعتداء عليها، فرفضت، وهدّدها بأن يرمي أولادها في البئر، ولكنها رفضته بقوة، فرمى الأولاد واحداً بعد الآخر وهي مصرة على موقفها، ثم رماها وراءهم في البئر وعاد إلى دياره، وقال لأخيه:
ـ زوجته هربت مني في البرية، وأنا نائم وبحث عنها كثيراً فلم أجدها.
غضب زوجها كثيراً وحزن لأمرها، وصمّم أن يبحث عنها ويجدها لكي يؤدبها ويغسل عاره منها.
أما المرأة والأولاد فقد جاء أحد الرعاة ليسقي غنمه، فسمع صوت أنين في البئر فنزل وأخرجها من البئر وأنقذها وأخرج الولدين ميتين، وأخذها إلى مضارب قبيلته ورعاها حتى صحّت، فأخذت ثياب من الراعي، ولبست ثياب الرعاة، ووضعت على رأسها عقالاً وحطّة وتلثّمت، وتابعت طريقها حتى وصلت مضارب أهلها فدخلت ضيفة على أبيها، فرحب بها وأضافها ثلاثة أيام بعدها قالت له:
ـ أنا غريبة ومقطوعة، وأرغب أن أبقى عندكم لخدمتكم، وأعمل عندكم مقابل مبيتي وأكلي.
وافق والدها ولم يتعرف عليها، فصارت تنظّف وتكنس وتطبخ له وتصنع القهوة المرّة، وعندما كانت تدق على المهباج تذكّر والده ابنته فبكى عليها. أمّا العبد فقد أحس بالشؤم من سماع دقة المهباج، وتذكّر فعلته مع ابنة سيده، فكره هذه المرأة الدخيلة والغريبة والملثمة، وصمّم على التخلص منها بأقرب فرصة.
لم تمضي عدة أيام حتى حضر زوجها وأخوه الذي خرج للبحث عنها إلى بيت هذا الشيخ، فرحب بهما وقدّم لهما الطعام، و قال له أنه تزوج ابنتك وقد جاءت لزيارتكم ولكنها هربت و معها ولدان، فنفى والدها أنه شاهدها ، في المساء اجتمع أفراد القبيلة عند الشيخ، وبينهم الرجال الثلاثة الذين أخذوا البنت إلى البرية، وزوجها وأخوه والعبد وطالت سهرتهم، طلب الشيخ من المرأة الملثمة أن تقص عليهم حكاية لتمضية السهرة، وكانت تنتظر الفرصة لتكشف نفسها وتفضح الجميع أمام والدها وزوجها.
بدأت بسرد قصتها دون أن تذكر الأسماء، ولما وصلت لذكر ما فعل العبد صرخ بها، واتهمها العبد بالكذب وأن حكايتها قبيحة، وأراد الخروج فأمره الشيخ بالجلوس، وقد أحس الوالد بأن قصة هذا المرأة الغريبة تشبه قصة ابنته، ولما وصلت إلى الرجال الثلاثة قاموا ليسكتوها ويضربوها، فأمر رجاله باحتجازهم، فتابعت الحكاية إلى أن وصلت إلى قصة الأمير زوجها، فعرف أنها تحكي قصته، ففرح بها كثيراً واستبشر خيراً وعندما بدأت بقصة أخيه قام أخوه غاضباً وسحب سيفه، وأراد أن يضرب عنقها فأوقفه رجال القبيلة، وعندها قامت ورمت العقال والحطّة عن رأسها، فعرفها الجميع وفرح الأب والزوج لنجاة كوكب من كل هذا الظلم، وحاكموا الجميع ونالوا جزاء أفعالهم الشنيعة ثم أقاموا الأفراح من جديد وعاد العروسان إلى ديار القبيلة وجدّدوا الأفراح والليالي الملاح، وعاشوا بالثبات والنبات وخلّفوا صبيان وبنات .

  

إذاعة وتلفزيون‏



أفلام من الذاكرة

الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

977 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع