فصلان جديدان فى تمثيلية النيوليبرالية

                                                  

                            علي محمد فخرو*

فصلان جديدان فى تمثيلية النيوليبرالية

منذ حوالى ربع قرن، وفى منتجع دافوس السويسرى، أحد أبرز معاقل الدعم للفكر والممارسات النيوليبرالية، حصل إقرار مبكر من بعض منظمى اجتماعات دافوس السنوية الشهيرة بأن العولمة قد دخلت طورا جديدا يتميز بتصاعد ردود الفعل العنيفة ضد ممارستها الاقتصادية النيوليبرالية، مما سيهدد الاستقرار الاجتماعى ويهيئ لظهور زعامات وحراكات شعبوية متطرفة تتحول تدريجيا إلى حالات عصيان.

وبعد عشر سنوات لخص أحد عرَّابى النيوليبرالية العولمية، ألن غرنسبان، الأسباب الكامنة وراء ذلك التنبؤ عندما أشار إلى أن النمو الاقتصادى فى العالم يصبُّ فى مصلحة الأغنياء، بينما يبقى العمال فى وضع لا يحسدون عليه، وأضاف بأن ذلك سيؤدى إلى توترات اجتماعية وتغيرات اقتصادية جذرية.
التمثيلية التى نشاهدها الآن فوق مسرح النيوليبرالية الرأسمالية المتوحشة المنفلتة تؤكد أقوال ومخاوف الأمس تلك. وتتمثل تلك المسرحية فى فصلين جديدين متقابلين ومتناقضين.
الفصل الأول يظهر إضافة لممارسة عولمية نيوليبرالية جديدة. فبعد انتقال الرأسمالية النيوليبرالية، كرأسمالية إنتاجية، من تسليع الإنتاج المادى الكلاسيكى وتسويقه كبضائع تجارية تباع وتشترى، إلى رأسمالية استهلاكية تقوم بتشيئ الإنسان وتسليعه وتسليع كل أنواع نشاطاته الإنسانية غير المادية من فنون ورياضة وأفكار، نتعايش الآن مع الرأسمالية الخيالية الرافضة للواقع، التى أضافت فى المدة الأخيرة نوعا جديدا من التسليع على يد الرئيس الأمريكى الحالى، وهو تسليع العلاقات بين الدول. كل علاقة لها ثمن يدفع، إما بشكل أموال أو بشكل فتح أسواق وخضوع سياسى. ما عادت الصداقات الطويلة الأمد ولا التحالفات القديمة قادرة على أن توقف موجة التسليع الجديدة.
وعليه، إذا كانت دولة ما تريد من دولة كأمريكا حماية عسكرية، أو دعما سياسيا فى المحافل الدولية، أو غض الطرف عن انتهاكات حقوق الإنسان، فعليها أن تدفع ثمن الحماية أو الدعم أو غض الطرف إن كانت دولة غنية، أو أن تفتح أسواقها للبضائع أو الشركات الأمريكية إن كانت دولة فقيرة.
إنه تسليع لكل ممارسة سياسية فيما بين الدول القوية البائعة من جهة والدول الضعيفة الشارية من جهة أخرى.
فإذا أضفنا إلى ذلك انسحاب أمريكا من اتفاقيات والتزامات حماية البيئة من آثار التلوث الناتج عن النشاطات الصناعية، أى التجاهل العبثى لكل الإنذارات الصادرة عن مراكز البحوث والعلماء بشأن توجه بيئة الكرة الأرضية نحو الكارثة إذا استمر مستوى ذلك التلوث فى تزايد مستمر.. فإننا ندرك كم أن أفكار وقيم الرأسمالية النيوليبرالية لم تعد مقتصرة على الاقتصاد، وإنما أصبحت فلسفة شمولية تطال الإنسان والحياة الطبيعية والمعنوية كلها بعد أن أصبحت العلاقات السياسية سلعة من السلع. إنه تطور مرعب نحو إدارة العالم بمنطق تنافس السوق واحتكاراته وأنانيته وجشعه الذى لا يشبع.
***
أما الفصل الثانى فتكتبه الأحداث الجارية فى شوارع مدن فرنسا فى هذه اللحظة، والتى شاهدنا مثلها من قبل كمظاهرات غاضبة صاخبة فى مدن العراق منذ فترة قصيرة وفى المدن التونسية فى هذه الأيام. كما تكتبه فى العديد من بلدان الغرب الرأسمالى القوى اليمينية الشعبوية الغاضبة المنادية بعدم الأخذ بالعديد من ممارسات العولمة والتراجع مجددا نحو الدولة الوطنية الحمائية المعنية بمصالحها الذاتية كأولوية قصوى.

إنها جميعا إرهاصات لردود الأفعال التى نبهت إلى إمكانيات مجيئها بعض عتاة المنادين بالنيوليبرالية منذ سنين عديدة كما فصًّلنا سابقا.
فى الفصل الأول هناك استمرارية لمحاولات تطوير ودفع الرأسمالية العولمية النيوليبرالية لتصبح النظام الأوحد فى هذا العالم ولتكتسح كل النظم الاقتصادية الأخرى، وليهيمن فكرها وتهيمن قيمها على النشاطات السياسية والاجتماعية والثقافية، بحيث تصبح إملاءات الاقتصاد الرأسمالى النيوليبرالى هى المرجعية العليا للحضارة الحديثة.
وكالعادة فإن النظام الرأسمالى، فى أى شكل كان، لن يتعلم من عثراته وأزماته التاريخية السابقة، وسيجد لديه ساسة، من أمثال دونالد ترامب، وأكاديميين، من أمثال أساتذة مدرسة شيكاغو الشهيرة التى نشرت الفكر النيوليبرالى على نطاق واسع ودربت أعدادا كبيرة من الطلبة لتطبيقه فى بلدانهم. ولذلك فالأمل فى تراجع أمثال هؤلاء الساسة والأكاديميين ضعيف. نرجسيه هؤلاء لن تسمح لهم بالانفتاح على فكر الآخرين والاعتراف بالثقافات الأخرى.
***
الأمل إذن هو فى بعض من يكتبون الفصل الثانى: إنهم العمال والمزارعون والطلاب والمنتمون للطبقة الوسطى وأصحاب الضمير الملتزمون بالقيم الإنسانية الذين بدأوا، كعادتهم عبر التاريخ، بمقاومة هذا النظام الاقتصادى الجائر.
إنهم هؤلاء الذين، إضافة لانسحاقهم المادى، بدأ وعيهم ينضج ليرى مساوئ ذلك النظام الكبرى.
إنهم يعون الغياب شبه التام للعدالة، وعلى الأخص العدالة الاجتماعية، مما يخلق تفاوتا طبقيا عالميا كارثيا يتميز بازدياد الفقراء فقرا والأغنياء غنى. إنهم يعون محاولات إضعاف دولة الرعاية الاجتماعية ويشاهدون جنون الخصخصة. إنهم يعرفون أنهم وحدهم يحملون عبء دفع مديونيات بلادهم المدمّرة لاقتصادهم الوطنى. إنهم يقفون حائرين أمام تشيّئ وسلعنة كل شىء على حساب إنسانيتهم ومن أجل مصالح المترفين الخاصة.
الوعى بكل ذلك هو الذى يكتب الفصل الثانى، وسيوصل نهاية التمثيلية.إما إلى إصلاح جذرى إنسانى أو إلى موجة جديدة من الدمار البشرى. إنه التاريخ وهو يعيد كتابة قصصه.

*مفكر عربى من البحرين

علي محمد فخرو شغل العديد من المناصب ومنها منصبي وزير الصحة بمملكة البحرين في الفترة من 1971 _ 1982، ووزير التربية والتعليم في الفترة من 1982 _ 1995. وأيضا سفير لمملكة البحرين في فرنسا، بلجيكا، اسبانيا، وسويسرا، ولدي اليونسكو. ورئيس جمعية الهلال الأحمر البحريني سابقا، وعضو سابق المكتب التنفيذي لمجلس وزراء الصحة العرب، وعضو سابق للمكتب التنفيذي لمنظمة الصحة العالمية، وعضو مجلس أمناء مؤسسة دراسات الوحدة العربية، وعضو مجلس أمناء مؤسسة دراسات فلسطينية. وعضو مجلس إدارة جائزة الصحافة العربية المكتوبة والمرئية في دبييشغل حاليا عضو اللجنة الاستشارية للشرق الأوسط بالبنك الدولي، وعضو في لجنة الخبراء لليونسكو حول التربية للجميع، عضو في مجلس أمناء الجامعة العربية المفتوحة، ورئيس مجلس أمناء مركز البحرين للدراسات والبحوث.

  

إذاعة وتلفزيون‏



أفلام من الذاكرة

الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

1015 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع