في الشأن النِسوّي ليست ’’هي‘‘ ولا ’’هو‘‘ ولكن ’’نحن‘‘

                                                 

                         د. زكي الجابر

في الشأن النِسوّي ليست ’’هي‘‘ ولا ’’هو‘‘ ولكن ’’نحن‘‘

إعداد د. حياة جاسم محمد

أَجِدُنِي مُخْلِصاً مع التأريخ حين أعودُ وتعودُ معي إلى الوراء لتَستَعيدَ آذانُنا صوتَ ذلك البابِ الخارجيِّ تَصْفِقُه ’’مسز نورا هيلمر‘‘ مُغادِرَةً بيتَ الزوجيةِ الذي ما كان، على ما ارتأتْ، يحتويها إلا دُميةً مُسَلِّية، والزوجُ حريصٌ على هذه الدُميةِ لِئَلَّا تُكسَرَ لِهَشاشَتِها وضَعْفِها. لقد كان ذلك في عام 1879، حين أبدع ’’هِنريك إِبسِن‘‘(1) مسرحيتَه ’’بيتُ دُمية‘‘، وكان لِذاكَ البابِ وهو يُصْفَقُ على المسرح دَوِيٌّ على صَعيدِ الحياةِ الاجتماعيةِ الغربيةِ في وقتٍ كان الجوُّ يتكشَّفُ عن إرهاصاتٍ مُتَوالِيَةٍ لِحركةِ تحريرِ المرأة، وما زال صَدَى ذلك الدَوِيِّ في تَصاعُدٍ والحركةُ تتنامَى، ومع تَنامِيها تتكوَّنُ فلسفةً وسياسةً وأدباً ونقداً.
وإذا كان كذلك شأنُ المرأةِ على الجانبِ الآخرِ من الأرض فما شأنُها هُنا ونحن نضعُ خُطُواتِنا مُتَوَجِّسينَ على عَتَباتِ بَوابَةِ القرنِ الحادي والعِشرين. إن التساؤُلَ عن شأنِ المرأة العربية يعني، في جوهَرِهِ، مُحاوَلَةَ التَعَرُّفِ عَلَيْهِ وما أُنجِزَ من فِعلٍ تِجاهَه. ومن العَقْلانِيَّةِ تَقَبُّلُ الاجتهادِ الذي يذهب إلى أنّ التساؤُلَ عمّا إذا كانت لدينا فكرةٌ عن موضوعٍ يجب أن يَتَقَدَّمَ على أيِّ تساؤُلٍ حول طَبيعَةِ هذه الفكرة، كما يبدو من العقلانيّةِ تَهْيِئَةُ ظَرْفٍ مُسانِدٍ، عَرَبِيّاً، لِتَحَدّي جُمْلَةٍ من الاقتناعاتِ ذاتِ الصلةِ بالشأن النِسوِي. ولقد سَبَقَ للفيلسوف ’’برتراند رَسِلْ‘‘(2) أنْ قال: ’’كلُّ إنسانٍ، أينما ذهب، مُحاطٌ بسَحابةٍ من الاقتناعاتِ المُريحةِ تتحرَّكُ معه مِثلَ الذُبابِ في يومٍ صائِف!‘‘ وقد يكون في مُقَدِمَةِ هذه الاقتناعات تلك التي تتعلّقُ بالمساواةِ بين الرجلِ والمرأةِ و’’تمكينِ المرأةِ‘‘ والتصوُّراتُ المتشائمةُ حولَ ما ينتهي إليه الشأنُ النِسوِيُّ إذا ما انعكستْ تياراتُ الأُنثَوِيَّةِ التي يَشهَدُها الغربُ حالياً على المجتمعِ العربيِّ المُسلِم.
وَلِيَكُنِ الحَدِيثُ أَوّلاً عن مُساواتِها بالرجل، المُساواةِ التي تكافح المرأة من أجلها والتي لم تَعُدْ مَسألة تَرَفٍ ورَفاهِية. وفي الظن أنها اقتناعٌ دَرَجَتْ عليه الأدبيّاتُ التي كثيراً ما تُنشرُ كلَّ 8 آذار باعتباره اليومَ العالميَّ للمرأة، وهو أمرٌ أَلِفَتْهُ صِياغاتُ الاتفاقاتِ الدوليّةِ وَلُغةُ المؤتمراتِ المَعنيَّةِ بقضايا النِسوَة. وإذا ما رَغِبْتَ في مِثالٍ عن صياغاتِ تلك الاتفاقاتِ فإنَّكَ لَواجِدٌ في دِيباجَةِ اتفاقيةِ القضاءِ على جميعِ أشكالِ التمييزِ ضِدَّ المرأةِ (1979) خيرَ مِثالٍ، وذلك حين تقول: ’’التمييزُ ضِدَّ المرأةِ يشكّلُ انتهاكاً لِمَبْدَأيِ المُساواة في الحقوقِ واحترامِ كرامةِ الإنسانِ، ويُعَدُّ عَقَبَةً أمام مشاركةِ المرأةِ، على قدمِ المساواةِ مع الرجلِ، في حياة بلدِها السياسيةِ والاجتماعيةِ والثقافيةِ، ويَعُوق رَخاءَ المجتمعِ والأُسرةِ، ويزيدُ من صعوبةِ التَنمِيةِ الكاملةِ لإِمكاناتِ المرأةِ في خدمةِ بلدِها والبَشَرِية‘‘. أمّا إذا رَغِبْتَ في مثالٍ عن لُغَةِ تلك المؤتمراتِ فإليكَ ما انتهى إليه المؤتمرُ الدُوَليُّ للسكّانِ والتنميةِ (القاهرة، 1994) من النَصِّ على ’’تحقيقِ المساواةِ والإنصافِ بِناءً على المشاركةِ المُتوافِقَةِ بين الرجلِ والمرأةِ‘‘.
إنّ أهَمَّ تَحَدٍّ يُواجِهُهُ الاقتناعُ بالمساواة، كما ترى الاجتهاداتُ المعاصِرةُ، يقول بأنها ليست واحدةً، وإنها كالحريّةِ والعدالةِ تختلفُ باختلافِ الرُؤيَةِ وتَغَيُّرِ المنظور، وبالأخصِّ بين كونِها ’’سَيرورَةً‘‘ لضمانِ معاملةٍ متساويةٍ وكونِها ’’نتيجةً‘‘ لتطبيق قواعدَ معيَّنة.
لقد قال ’’أدمون بيرك‘‘(3): ’’كلُّ الناسِ لهم حقوقٌ متساويةٌ ولكنْ ليستْ لهم أشياءٌ متساوية‘‘. ولعلَّ ذلك يُشكِّلُ مُنطَلَقاً للتساؤُلِ عن الشئِ الذي يتساوَى فيه الناس، أَهْوَ نِتاجُ المجتمعِ الذي يساهم فيه المجتمع، مما يُوجِبُ أن يُوَزَّعَ بينهم بدرجةٍ من التَساوي؟ أَهْوَ تَساوٍ في الفُرَصِ؟ أَهْوَ تَساوٍ أمام القانون؟ أم يكون ذلك في جُملةِ أُطُرٍ مِثلَ الحِمايةِ القانونيةِ والتربيةِ والتكوينِ والرعايةِ الصِحِّيَّةِ ومشاركةِ المرأةِ في صُنعِ القرارِ وإِدماجِ المرأةِ في النشاطِ الاقتصاديِّ والإِعلام.
ويرتبطُ بموضوعِ المساواةِ الاقتناعُ بأَنَّ الرجلَ هو المسؤولُ عن تحقيقِ الإنصافِ بين الجنسين انطلاقاً من مَيْلِ ميزانِ القوةِ لصالِحِهِ في شتَّى المجالات، واعتقاداً بأن الفتاةَ تعيشُ بغرائِزِها لا عقلِها، وأنّها تَحيا للأِزياء لا للحقيقة!
أما الاقتناعُ بـ ’’تَمكينِ المرأةِ‘‘ فينطلقُ من اعتبارِها أقلَّ قيمةً من الرجلِ، وأنّ مَنزِلتَها رهنُ الإنجابِ وتربيةِ الأطفالِ، كما ينطلقُ من مَحدوديَّةِ وصولِ المرأةِ إلى مراكزِ النفوذِ والسلطةِ وضيقِ الاختياراتِ المتاحةِ أمامها وقلَّةِ مَدخولِها إن لم يكنْ انعدامَه. وفي الأدبيّاتِ الدُوَّليةِ يُعتبرُ ’’تمكينُ المرأةِ‘‘ عنصراً يتكاملُ مع عناصرَ ثلاثةٍ أخرى تشكِّلُ قوامَ النموذجِ العامِّ للتقدُّم الإنسانيّ. أما هذه العناصرُ الأخرى فهي الإِنتاجيَّةُ والاستدامَةُ في ضمانِ الفُرصِ للأجيالِ القادِمةِ والمساواةُ في تلك الفُرصِ والتحدّي الذي تُواجهُه عملياتُ ’’التمكينِ‘‘ الذي يتمثّلُ في مدى قُدرتِها على تَجاوُزِ اقتصارِ ’’التمكينِ‘‘ على النِسوةِ/النُخبةِ إلى الملايينِ من اللواتي تَعْتَصِرُهُنَّ الأميّةُ، وتفتكُ بِهِنَّ ساعاتُ الولادةِ، وتقتلُ طموحَهُنَّ سَوْرَةُ التخلُّف والجهلِ والنظرةُ الدُونيَّةُ والمطالبةُ بالصمتِ. كيف يُمكنُ لهؤلاء النِسوةِ أن يَقُمْنَ بأدوارِهِنَّ في عملياتِ التغييرِ الاجتماعي؟ كيف يمكن أن يكونَ لهنَّ مكانٌ في المشهدِ السياسيِّ وَهُنَّ يَفْتَقِدْنَ الرغبةَ في السياسة إنْ لم يَجْهَلْنَ ما يَجري على ساحاتِها وفي زواياها!
وبعد ذلك فهناك ذلك الاقتناعُ بالتصوُّراتِ المتشائمةِ لِمَآلِ حركةِ تحريرِ المرأةِ العربيةِ، وجهودِ الرُوّادِ الأوائلِ من المفكّرينَ العربِ الذين أَدْلَوا بآراءٍ جريئةٍ من أجل الارتفاعِ بالمرأةِ اجتماعيّاً وثقافيّاً وسياسيّاً. لقد اختلفتْ مدارسُهم بين التجديدِ الدِينيِّ والليبراليَّةِ والقوميَّةِ ولكنّهم على اتفاقٍ بضرورةِ رَفْعِ الحَيْفِ عنها واتخاذ خُطُواتٍ جديدةِ تنتهي إلى موقفٍ جديدٍ أو مواقفَ جديدة. إنّ هذا الاقتناعَ الذي نتحدّثُ عنه يأتي انعكاساً لما بدأ من انتشارٍ لأُطروحةِ ’’ذُكوريَّةِ اللغة‘‘ وضرورةِ أن تكون للمرأةِ لُغتُها الخاصة، ولِما يُقاربُ تلك الأُطروحةَ من الجهرِ بضرورةِ تكوين عالَمٍ مِحوَرُه المرأةُ، له خصائصُهُ وتَمَيُّزُهُ في كلِّ شؤونِ الحياةِ والفِكر. إنها ’’النِسوِيَّة‘‘ أو ’’الأُنثَوِيَّة‘‘ على تَبايُنِ اتجاهاتِها الفلسفيّةِ والسياسية. ففي نِطاقِ الاتجاه الفلسفي نجدُ التيارَ الجَوْهَريَّ وتيَّاراً آخَرَ ’’نقيضُه‘‘. يذهب الأولُ إلى القولِ بوجودِ مجموعةٍ قوامُها ’’النِسوة‘‘، لها خصائصُها وأدبُها وقِيَمُها وانشغالاتُها متميِّزَةً عن المجموعةِ الأخرى التي قوامُها ’’الرجالُ‘‘. أما التيّارُ ’’النقيضُ‘‘ فيُعنَى بفهمِ تلك العملياتِ التي من خلالِها تتكوَّنُ ذاتيَّةُ المرأةِ في إطارِ حضارةٍ معيَّنةٍ. أما في نطاقِ الاتجاهِ السياسيِّ فَثَمَةَ تيَّارُ ’’النِسويَّةِ أو الأُنثويَّةِ البُرجوازيَّةِ‘‘ المُرَكِّزُ على حصولِ المرأةِ على حقوقِها المتساويةِ وحرياتِها في المجتمعِ الرأسماليِّ، وثَمَّةَ تيّارُ ’’النِسويَّةِ أو الأُنثويَّةِ الماركِسيَّةِ‘‘ الذي يربُطُ ما بين اضطهادِ المرأةِ والبيئةِ المُتَّسِعَةِ للرأسماليّةِ، كما يجد نوعاً من العلاقةِ بين هذا الاضطهادِ واضطهادِ الأقليّاتِ والشَواذِّ والطبقاتِ العاملةِ، وثَمَّةَ تيّارُ’’النِسويَّةِ أو الأُنثويَّةِ المُتَطَرِفَةِ‘‘ الذي يؤكِّدُ على اختلافِ المرأةِ عن الرجلِ ويدعو إلى تأسيسِ مجتمعاتٍ نِسويّةٍ تُحقّقُ حاجاتِ النساءِ ورغباتِهنّ.
إن التحدِّيَ القائمَ هو كيفيَّةُ تَعامُلِ المجتمعاتِ العربيّةِ المسلمةِ مع ما تحملُه هذه ’’النِسويّةُ‘‘ أو ’’الأُنثويّةُ‘‘ من مبادئَ وأفكارٍ وأساليب. إن القلقَ والتخَوُّفَ غيرُ كافِيَيْن في مواجهةِ هذا الاقتناعِ الذي يقومُ على تصوُّراتٍ مُعتِمَةٍ لِما ستكونُ عليه حركةُ تحريرِ المرأةِ العربيةِ، ويبدو أننا مُطالَبُون بالرصدِ والدعوةِ إلى التفكيرِ والنقاشِ الهادئِ تحت خَيْمَةٍ يتفاعَلُ فيها الموروثُ والسياسةُ والأخلاقُ ومُتَغَيِّراتُ التَثاقُف. فلا أنا ولا أنتَ بِراغِبَيْنِ في أن نرَى أُختَ ’’نورا‘‘ تَصْفِقُ البابَ مُغادِرَةً بيتَ الزوجيّةِ مُخَلِّفةً وراءها زوجَها وأطفالَها في حَيرةٍ وضياع، ولا نريد للزوجِ أن يُعامِلَ شَريكةَ حَياتِهِ كَدُميةٍ مُسَلِّيةٍ ضعيفةٍ هَشَّةٍ. وإني لَأِجِدُ نفسي على صوابٍ حينما أُردِّدُ مع مَن يُردِّدُ بأنَّ الإِشكاليَّةَ ليست ’’هي‘‘ ولا ’’هو‘‘ ولكن ’’نحن‘‘!
**************
1. ’’هِنريك إِبسِن‘‘ Henrik Ibsen (1828-1906) شاعر وكاتب مسرحي
نرويجي، من أشهر مسرحياته ’’بيت دمية، البطة البريّة، هيدا ﮔابلر‘‘
(Benet’s Reader’s Encyclopedia, pp. 473-474).
2. ’’برتراند رَسِلْ‘‘ Bertrand Russell (1872-1970) فيلسوف وعالم بالحساب ومصلح اجتماعي إنـﮕليزي (Benet’s Reader’s Encyclopedia, p. 83).
3. ’’أدمون بيرك‘‘ Edmund Burke (1729-1797) مفكر سياسي إيرلندي، يعتبر من رُوّاد الفكر المحافظ الحديث (ويكيـﭙيديا).
نشرت في صحيفة العلم (المغرب)، 25-4-2000.

  

إذاعة وتلفزيون‏



أفلام من الذاكرة

الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

795 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع