السلطان أردوغان والحالة الاقتصادية في تركيا

                                                

                  المهندس هامبرسوم أغباشيان

السلطان أردوغان والحالة الاقتصادية في تركيا

لا يخفى على احد بان الاقتصاد التركي في تراجع مستمرفي الوقت الحاضر، وهذا ليس بسر بل واضح للعيان من خلال متابعة قيمة الليرة التركية مقارنة بالعملات الصعبة. ففي العام 2005م وبغية رفع قيمة الليرة التركية وكسب ثقة الاسواق العالمية، الغت الحكومة التركية ستة اصفار من قيمة العملة الوطنية (الليرة) واوجدت الليرة التركية الجديدة والتي يتم تداولها حاليا، وقبل الغاء الاصفار وتعزيز قبمة الليرة الجديدة كان الدولار الامريكي الواحد يعادل مليون ونصف ليرة تقريبا، وبعد تعديل قيمة الليرة اصبح الدولار الامريكي الواحد يعادل (344. 1) ليرة. ولكن لم تستطع الليرة الحفاظ على قيمتها الاساسية بالرغم من كل المحاولات الحكومية والجهود المبذولة لدعمها واستمرت قيمتها في الهبوط لتعكس التراجع المستمر في الاقتصاد التركي. ففي العام 2010م كان سعر صرف الدولارالامريكي مقابل الليرة التركية (550. 1) ليرة بينما في العام 2015م كان (189. 2) ليرة ولكن في مع نهاية عام 2017م اصبح (77. 3) ليرة وفي مايس 2018م اصبح (47. 4) ليرة ليصل في حزيران 2018م الى (68. 4) ليرة. ان السبب في كل ذلك هي تراكمات السياسات الخاطئة عبر السنين في المجال الاقتصادي والاجتماعي والدبلوماسي والعسكري. 

كيف سيكون حال الاقتصاد التركي في السنين المقبلة؟ هل سيتعافى ام سيستمر في التراجع؟
لا شك ان السبب الرئيسي في ضعف الاداء الاقتصادي لتركيا هو السلطان الحالم رجب طيب أردوغان. فألاحلام السلطانية ، والقرارات الفردية، وكبت الحريات والتجاوز على حرية الرأى وقيامه بمطاردة اصحاب الاراء الحرة والمنتقدين لسياساته وايداعهم في السجون، والمشاكل الداخلية مع الاكراد ومطاردتهم في تركيا وسوريا والعراق، والسياسات العدوانية تجاه الجيران والحروب التي خلقت بسببها، بالاضافة الى تطلعاتة لبناء امبراطورية وقيامة بتاسيس قواعد عسكرية خارج البلاد في العراق والسودان والصومال وقطر والانفاق المترتب على كل ذلك ، وسياساتة الفظة مع دول الاتحاد الاوربي وغيرها والخسائر الاقتصادية المترتبة جراء كل ذلك ،ودعمه وتاييده للاخوان المسلمين وايواهم في تركيا ومدهم بالمال وكنتيجة لذلك خسارة الاسواق التجارية المهمة في مصر والسعودية والامارات العربية المتحدة واسواق اخرى مهمة، ودخول العلاقات التركية في نفق مظلم مع الحليفة الكبرى في الناتو الولايات الامريكية المتحدة بسبب الداعية الاسلامي التركي فتح الله كولن الذي كان الداعم الاول لسياسات أردوغان ورفيق دربه وتحول الى عدوه الاول بعد المحاولة الانقلابية الفاشلة عام 2016م حيث اتهم بها كولن الذي يقيم حاليا في امريكا وتطالب تركيا بتسليمه لها، وغيرها من السياسات الخاطئة التي عزلت تركيا عن حلفائها واصدقائها. بالاضافة الى كل ذلك، يحلم أردوغان بتحويل تركيا الى دولة خلافة وسلطنة جديدة يكون هو فيها السلطان والخليفة. وحسب ما جاء في موقع ميدل ايست كوارترلي في الاول من جزيران 2018م ، فان الحكومة التركية ومن خلال دائرة الشؤون الدينية (ديانات) تدفع رواتب 110000 من الائمة في انحاء البلاد وتراقب خطبة يوم الجمعة. أن هؤلاء الائمة يكلفون خزينة الدولة مبالغ طائلة ولكنهم يتسابقون في مدح أردوغان. ان القصر الرئاسي الجديد الذي بناه أردوغان كجزء من خطة تحويل الدولة الى سلطنة كلفت خزينة الدولة مئات الملايين من الدولارات، وفي نفس الوقت حول أردوغان شبكة التلفزة الحكومية تي.ار.تي الى بوق دعائي له شخصيا مانحا المحطة مساعدات حكومية سخية ودعم مستمر.
اما بالنسبة للاداء الاقتصادي لتركيا فمن المفروض ان يكون القطاع الزراعي في تركيا المصدرالاول للعملة الصعبة للدولة وفي المركز الاول في الصادرات وذلك بسبب الاراضي الشاسعة االصالحة للزراعة وكذلك وفرة المياه والطقس الملائم وتوفر الايدي العاملة الزراعية وغيرها ولكنه ليس كذلك. فبالرغم من قيام الدولة بصرف مليارات الدولارات لبناء العديد من السدود ومنها السدود الضخمة مثل سد (اتاتورك) وسد (اليسو) وغيرها بغية السيطرة على الموارد المائية والتحكم بتوزيعها وتامينها الاسمدة الكيمياوية الضرورية للزراعة وتوفير المكائن الزراعية الى حد ما، فان القطاع الزراعي في حالة فوضى. فاستنادا الى ما ذكره الصحفي التركي البارز (محمد جيتينكولك) في موقع المونيتور في 28 مايس 2018م ، فان الحكومة التركية قد تعرضت للانتقادات بسبب الفوضى في القطاع الزراعي وارتفاع اسعار المنتجات الزراعية في البلد واضطرار الحكومة لاستيراد العديد من المنتجات الزراعية الاساسية من الخارج مثل الحنطة والبقوليات واللحوم وحتى القش الذي يستعمل كعلف للحيوانات للحد من ارتفاع اسعار هذه المنتجات. ان سؤء اداء القطاع الزراعي كان قد بدا منذ ايام الرئيس التركي الراحل توركوت اوزال الذي كان مهندس الانفتاح الاقتصادي والراعي الاول له والذي قام بالغاء رسوم الاستيراد على العديد من المنتجات الزراعية لتوفيرها في الاسواق المحلية باسعار مناسبة ولقد استمرأردوغان على نهجه وامتلات الاسواق بمنتجات زراعية باسعار مناسبة، ولكن على مرالسنين كان لهذه السياسة اثر كبير على الانتاج المحلي وما زال. وحسب عضو البرلمان التركي (أورهان صاريبيل)، استوردت تركيا منذ عام 2010م مليونان وتسعمائة الف راس ماشية ومليونان ونصف مليون راس غنم وماعز ومائتان وستة وثلاثون الف طن من اللحم الاحمر والتي بمجموعها كلفت الدولة المليارات من العملة الصعبة. ( أورهان صاريبيل) الذي هو بالاساس خبير زراعي، ذكر بانه في عام 2002م ، كان نسبة العاملين في القطاع الزراعي في تركيا 35% من مجموع القوى العاملة بينما انخفضت حاليا بنسبة 19%.
اما فيما يتعلق بالقطاع الصناعي والمعادن، فان تركيا تنتج المنسوجات والسيارات والمعدات الكهربائية والالكترونية والبتروكيمياويات والمواد الانشائية والاطعمة المعلبة والمكائن والورق وغيرها وتنتج الفحم والنحاس والحديد والخشب ومواد اخرى، ولكنها تستورد المكائن الضخمة والمعقدة والمعدات التكنولوجية الحديثة. لدى تركيا ايضا منتوجات عسكرية متنوعة ولكن اسواقها محدودة حيث انها تنتج الاسلحة التقليدية وليست لديها قابلية في انتاج المعدات العسكرية المعقدة والمتطورة وهي تستوردها بالاصل. ولقد اثرت التقلبات السياسية وعدم الاستقرارعلى النمو القطاع الصناعي في البلد بسبب مخاوف المستثمرين.
اما بالنسبة للمحروقات فتركيا تعتمد بشك كبير على النفط والغاز المستورد، ومع انها تستلم حصة من النفط العراقي الخام لقاء السماح بتصديره عبر الانابيب الماره داخل اراضيها، وتستورد المحروقات من اذربيجان باسعار تفضيلية، وتستلم باسعار مخفضة جدا النفط السوري المهرب من قبل التنظيمات المعارضة للحكومة السورية والتي ترعاها تركيا، فان كل ذلك ليس بالعلاج الناجع لاقتصاد بلد لديه ثمانون مليون مستهلك ولا ينتج النفط والغاز وليس لديه مخزون مهم منهما، وهذا يكشف ايضا سر اهتمام أردوغان بالاراضي المجاورة في شمال سوريا والموصل واطماعة في حقول النفط المنتشرة هناك.
يبقى القطاع الخدمي الذي هو من اكبر القطاعات الاقتصادية في البلد، هو الاكثرنفعا لتركيا. ففي حين يشكل القطاع الزراعي نسبة 7.6% من الدخل العام والقطاع الصناعي نسبة 31.8 % منه فان القطاع الخدمي يشكل نسبة 61.4% من اجمالى الدخل العام حسب احصائيات عام 2017م الوارده في موقع المخابرات المركزية سي.آي.أي، ولكن هذا القطاع متذبذب ويتاثر بسياسات الدولة ودائما في خطر وخصوصا قطاع السياحة، واحسن دليل على ذلك قرار روسيا بمنع مواطنيها من السياحة في تركيا (حوالي مليونا سائح سنويا) والخسائرالتي ترتبت على ذلك بعد ازمة مقتل الطيار الروسي من قبل الاتراك ، وكذلك التحذيرات المستمرة من قبل الدول الغربية لرعاياها بعدم الذهاب الى تركيا بسبب العمليات الارهابية واعمال العنف وعدم الاستقرار.
وأصبح انقلاب حزيران عام 2016م العسكري عاملا اضافيا لعدم الاستقرار الاقتصادي في تركيا حيث وظفها أردوغان لتثبيت دعائم حكمه حيث قام بطرد عشرات الالاف من موظفي الدولة المعارضين له بتهمة الارتباط بالانقلاب و سجن او طرد عشرات الالاف من افراد القوات المسلحة ممن يشك بولائهم له ومن ضمنهم طواقم الطائرات المقاتلة والطيارين تحت ذريعة الانظمام الى جماعة حليفة السابق فتح الله كولن (هزمت) التي اتهمها أردوغان رسميا بالوقوف وراء الحركة الانقلابية. ولتعويض النقص الحاصل في القوة الجوية تحاول تركيا عقد الصفقات مع الولايات المتحدة وصرف الاموال الطائلة لشراء طائرات مقاتلة حديثة لسد هذا النقص. وحسب المعلومات الواردة في موقع ناشيونال انتريست في 30 نيسان 2018م فان كلفة تدريب طيار طائرة مقاتلة حديثة (ف-35) هي احد عشر مليون دولار، علما بان الطيارين الاتراك الذين ابعدوا عن وظائفهم لديهم خبرات متراكمة لا تقدر بثمن وبهذا يكون أردوغان قد اضاع على تركيا ثروة طائلة بقيامه بسجن او طرد هؤلاء الطيارين. ان النقص الذي حصل في مجال الدفاع الجوي اجبر تركيا بالاتجاه الى حلول اخرى لحماية اجوائها حيث اتجهت الى عقد صفقة شراء صواريخ( س- 400) الروسية وكذلك الاتفاق مع الشركة الايطالية-الفرنسية المشتركة (يوروسام ) لانتاج صواريخ ارض - جو وهذه كلها تكلف ميزانية الدولة مبالغ طائلة، بالاضافة الى الازمة السياسية الجديدة مع حليفتها الكبرى الولايات المتحدة بسبب صواريخ( س- 400) الروسية.
الضربة الاخرى للاقتصاد التركي كان قرار الرئيس الامريكي دونالد ترامب باخضاع الواردات الامريكية لسلع معينة للتعرفة الكمركية حيث تاثر من هذا القرار تصدير الحديد والالمنيوم التركي، علما بان انتاج الحديد التركي يعاني من منافسة شديدة في الاسواق الاوربية والامريكية وله منافسين داخل تركيا حيث الحديد الروسي والاوكراني والايراني الاقل سعرا من التركي والمطروح في الاسواق التركية الخاضع لنظام السوق الحر. ويجدر بالذكر هنا بان الميزان التجاري التركي مع امريكا هو لصالح الاخيرة ، فحسب معطيات العام الماضي 2017م فان استيرادات تركيا من امريكا بلغت 11.9 مليار دولار مقابل 8.6 مليار دولارللتصدير.
وهناك امور اساسية أخرى تثقل كاهل الاقتصاد التركي ، فالميزان الاقتصادي بصورة عامة ليس لصالح تركيا في الوقت الحالي، وحسب معطيات موقع المخابرات المركزية (https://www.cia.gov), بلغت الصادرات التركية في العام 2017م مبلغ 157.3 مليار دولار بينما بلغت وارداتها 196.6 مليار دولار (بفارق 40 مليار دولار تقريبا)، وكان الاحتياطي من الذهب والعملة الصعبة 107.5 ملياردولار في حين بلغت ديونها الخارجية 429.6 مليار دولار(بفارق 322 مليار دولار). ومن الارقام المذكورة يتضح بان الاقتصاد التركي ليس متعافيا كما تدعي حكومة أردوغان. وحسب صحيفة (مرمرة- حزيران 2018) التي تصدر في تركيا فان السياسيون والخبراء الاقتصاديون الاتراك يصرون بان الاقتصاد التركي قد وصل الى حافة الانهيار، بينما يدعم القادة الاتراك وجهة النظر القائلة بان البلاد يتجه نحو مستقبل اقتصادي مشرق. لكن الخبير الاقتصادي البارز (تارون أجيم أوغلو- من مواليد تركيا ومن اصل ارمني واستاذ في جامعة ماساشوتس الامريكية ) الذي زار تركيا في الفترة الاخيرة لاستلام جائزة تقديرية ، يرى أن (لا مفر من حدوث ازمة اقتصادية خطيرة في تركيا ومن الغير ممكن توقع حدوث معجزة . الصورة قاتمة ولا يمكن تجاوز الازمة. ستعلن العديد من الشركات افلاسها وستزداد نسبة البطالة ونتمنى ان لا يحدث الاسؤ) حسب تعبيره.
ومع كل ذلك، لا يمكن التوقع بضعف الاقتصاد التركي وانهيارة الى مستوى يؤدي الى انهيار الدولة. صحيح ان الليرة التركية تفقد قيمتها وفقدت ثقة المواطن التركي الذي بدأ باحتفاظ مدخراته بالدولار الامريكي مما دعا الى قيام أردوغان بمطالبة شعبه بالتمسك بالليرة، وصحيح ان اداء القطاعات الاقتصادية ليست بالمستوى المطلوب، لكن من الصعب التكهن بالانهيار التام للاقتصاد التركي. فتركيا من البلدان الكبرى في المنطقة من حيث مساحة الارض والموارد الطبيعية والقوى العاملة ولها مجالات كثيرة للاستثمار والانتاج والتنمية عندما تتوفر فيها قيادة حكيمة.
واخيرا، ان الدول الكبرى مثل الولايات المتحدة الامريكية وروسيا والصين ودول الاتحاد الاوربي مثل المانيا وانكلترا وفرنسا وايطاليا سوف لن تسمح بتدهور اقتصاد تركيا بصورة خطيرة خوفا على مصالحهم، مع العلم بان هذ الدول بالرغم من كونها حليفة لبعضها فان كل منها تفضل مصلحتها الخاصة وتتسابق لكسب ود الحكومة التركية ، فحينما ادت الازمة السياسية بين تركيا والمانيا الى فتور في العلاقات الاقتصادية ومغادرة قسم من رؤوس الاموال الالمانية المستثمرة في تركيا، هرعت بريطانيا لاملاء الفراغ وضخ الاموال وتنشيط علاقاتها الاقتصادية. ولا يختلف الحال بالنسبة للدول التي تختلف سياساتها العالمية عن بعضها منها امريكا وروسيا، فحين تبتعد امريكا خطوة عن تركيا تقترب روسيا خطوتين منها لاملاء الفراغ والصين دائما حاضرة هناك لاملاء اي فراغ . وبالتاكيد ان تركيا تعلم كل ذلك علم اليقين وتعلم اهميتها الاستراتيجية واهمية موقعها الجغرافي بين الشرق والغرب وتستفاد من كل ذلك بالدرجة القصوى.

لوس انجليس - كاليفورنيا
عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

  

إذاعة وتلفزيون‏



أفلام من الذاكرة

الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

955 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع