احتفالية (الزواج المقدس) عند السومريين

                                             

                       د.صلاح الصالحي


احتفالية (الزواج المقدس) عند السومريين

لقد جسد انسان عصور ما قبل التاريخ القوى والظواهر الطبيعية بهيئة الهة تصورها على غرار البشر في جنسين مؤنث ومذكر، وان قوى الخصب تتمثل بـ (الإلهة الأم) (goddess-Mother)التي صنع لها دمى تمثلها بهيئة امرأة حبلى ذات ثديين كبيرين وردفين ضخمين، وأقدم وجود نعرفه عن الإلهة الأم كان من موقع جرمو في شمال شرق العراق، وانتشرت رموزها وتماثيلها غالبا في القبور والطقوس الجنائزية، ولا نعرف اذا كان يقام لها احتفالات أم ان تماثيلها ترافق الموتى إلى العالم الآخر فقط، ففي تلك الحقبة لم تكتشف الكتابة بعد ولذا يصعب التكهن بالمدلول الرمزي لتماثيل (الإلهة الام)، وعموما صفات (الإلهة الأم) تجسدت في العصور التاريخية بـ(إنانا) بالأكدية (عشتار) الهة الخصب والجنس، وبالمقابل يعزو اسباب الجفاف واصفرار العشب وندرة المطر وقلة ما تدره الماشية من لبن إلى اختفاء اله الخصب الذي اطلق عليه تسمية دموزي أو (أماوشوم جلنا Ama-ušumgalanna) أو (بالاكدية تموزو) أو (دوأزو) (الشهر السابع من السنه ما بين حزيران وتموز)( بالأكدية سيمانو ودووزو) ففي نهاية الصيف تقام مآتم الحزن والبكاء ولبس السواد حزنا على موت الإله، ونزوله إلى العالم السفلي في فصول معينة من السنة، ويقوم كاهن خاص بالندب والشكوى وقراءة أناشيد الحزن السومرية أطلق عليه گالُ = قالُ= الرادود (بالأكدية kalû)، وقد وصلنا بعض ما ينشده في تلك المناسبات من مدينة اوروك، أما عودة دموزي إلى الحياة وما يرافقها من عودة مظاهر الخصب والنمو في الطبيعة من جديد في الانقلاب الربيع الذي يصادف الأول من نيسان (نيسانو) (حسب التقويم البابلي ما بين اذار ونيسان)، حيث تقام الاحتفالات والافراح لقيامه وقهره الموت، وتجري طقوس دينية حيث تجسد إلهة الخصب إنانا (عشتار) الكاهنة العظمى في المعبد، ويجسد الإله دموزي (تموزو) الكاهن الاعظم أو الملك، وتعرف هذه بطقوس الزواج المقدس هيروس كاموس (Hieros Gamos) وتصادف المراسيم في عيد رأس السنة السومرية زاك-موك (zag-mug) ، وتقام احتفالات كبيرة في سومر (القسم الجنوبي من بلاد الرافدين) ربما في وقت مبكر من عصر فجر السلالات، فقد كان معروفا زمن سلالة لكش الثانية وعلى وجه التحديد زمن الامير كوديا أو جوديا (2150) ق.م، كذلك في فترة سلالة اور الثالثة، وخاصة الملك شولكي (2095-2048) ق.م، والملك شو- سين (2038-2030) ق.م، وايضا في زمن سلالة ايسن وخاصة الملك ادن- دكان (1974-1954) ق.م، وتقدم في الاحتفالات الهدايا، فقد عثر في معبد إنانا (عشتار) في الوركاء على قلادتين كتب على خرزة من القلادة الأولى عبارة (أبا- بشتي الكاهنة محبوبة شو- سين ملك اور) وكتب على القلادة الثانية (كوباتم الكاهنة محبوبة شو- سين) ويظهر ان الكاهنة الاخيرة أصبحت احدى حريم قصر شو- سين أو (ملكة) على حد تعبير النص السومري، ويمكن تحديد زمن تلك الاحتفالات في (يوم رأس السنة، يوم الطقوس) و (يوم القمر الجديد) الذي يبدا في الأول من نيسان وهو ما يعرف برأس السنة (آكيتو) الذي يشكل المحور الاساسي الذي تدور حوله تلك الاعياد، ومن الطبيعي طقوس الزواج المقدس تتم في المعبد وتحديدا في الجناح المعروف باسم (كيبارو) (giparu) أو (أي كيبار) (باليوناني بوكوليون ويقع في الاكروبوليس في اثينه) وهو المكان المخصص ايضا لإقامة الكاهن الاعظم إينو(enu) والكاهنة العظمى انتو (ent)، حيث كان يعد سرير من خشب الأرز مطعما باللازورد، ويجهز بفراش وثير واغطية جميلة، وقد ذكرت النصوص المسمارية مراسيم الزواج المقدس : حيث تقام الاحتفالات بمشاركة الناس واحتشادهم لاستقبال الملك وهو في طريقه للمعبد كما تقوم الكاهنة بالاستعداد لهذه المناسبة، فتغتسل بالماء والصابون، وتطيب جسدها بالدهان، والعطور وفمها بالعنبر، وزينت عينيها بالكحل، وارتدت اجمل ثيابها وحليها، وعندما يلتقي العريس (الملك=الإله) بالعروس (الكاهنة العظمى=الإلهة) تبدأ الاخيرة بترديد اغنية عاطفية هي في الواقع دعوة سافرة (للوصال) باعتباره الهدف الاساسي الذي تدور حوله المعتقدات الخاصة بالزواج المقدس، ففي إحدى الاغاني التي انشدتها العروس بين يدي سيدها شو- سين (2038- 2030) ق.م رابع ملوك سلالة اور الثالثة : (ايها العريس عزيز انت على قلبي، لذيذ (وصالك) حلو كالشهد ، ايها الاسد عزيز انت على قلبي ، لذيذ (وصالك) حلو كالشهد...، ايها العريس دعني اقبلك ، فقبلتي حلوة الذ من الشهد ...، دعني اتمتع بجمالك اللطيف، ايها الاسد دعني اقبلك، فقبلتي حلوة الذ من الشهد، نفسك ! إني اعرف كيف ادخل السرور إلى نفسك، ايها العريس تعال وبت عندنا حتى الفجر، قلبك! إني اعرف كيف ادخل السرور إلى قلبك، ايها العريس تعال وبت عندنا حتى الفجر، ايها الأسد تعال وبت عندنا حتى الفجر، وانت ما دمت تحبني، اتوسل اليك ان اقبلك، يا سيدي الإله يا سيدي الحافظ، يا شو-سين يا من يدخل السرور إلى قلب انليل، اتوسل اليك ان اقبلك).

وفي نص آخر يعود إلى زمن الملك ادن-دكان: يأخذ الكاهن شانكو (بالسومرية šangû وبالأكدية sanga) بيد الملك (وجاء به إلى حجرة إنانا (عشتار) المقدسة) ثم بدأ بترديد دعاء يسأل فيه الإلهة – الزوجة ان تمنحه شارات الملوكية وتوطد حكمه في البلاد، وان تمنح نعمها وخيراتها على الناس في السهول والاهوار والغابات، وفي نص؟ آخر يعود إلى الملك شولكي تقوم الكاهنة (الإلهة-الزوجة) بالدعاء لتحقيق ما يصبو اليه الملك والشعب خلال السنة المقبلة.
وتختتم مراسيم الزواج المقدس عادة بإقامة احتفال كبير تؤدي فيه الرقصات على صوت الموسيقى والاغاني وتقديم المشروبات، ونحر القرابين، وهي مناسبة يترقبها الناس وخاصة الفقراء حيث يتناولون اللحوم التي يصعب الحصول عليها في حياتهم اليومية، ففي أحد النصوص وصف لطيف لتك الاحتفالية ويعود النص السومري إلى الملك ادن- دكان حيث يصف عروسته التي كانت تقوم بدور الإلهة إنانا (عشتار)، فيذكر ان الملك كان يجلس على العرش وإلى جانبه العروس، وانه كان يضع ذراعه حول كتفيها (وانها كانت تبدو مثل ضوء النهار وهي تعتلي العرش) على حد تعبير النص، ثم وضعت صنوف الطعام والشراب امام العروسين، وبدأت مواكب المحتفلين تمر امامهما وهم يرددون الأغاني العذبة على انغام الطبل والقيثارة، (فكان القصر في عيد والملك في سرور والناس في نعيم) .

  

إذاعة وتلفزيون‏



أفلام من الذاكرة

الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

542 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع