بإتجاه حافة الذهن النائية ! (*)

                                                               

                               محمد حسين الداغستاني

                

              بإتجاه حافة الذهن النائية  ! (*)

      
"الصـور في الشعر الحديث , صـور غير مألوفة توحي بحالات ذهنية توصف بالغموض
وهـو يتصـل بالهزة النفسية أو الذهنية وبالتالي بالدهشة والعجب  "   .
 جبرا ابراهيم جبرا

لم تكن معضلة ( ديوجين ) للبحث عـن الحقيقـة , وهو البصير في دنيا العميان , حاملا ً فانوسـه فـي عز الظهيرة أمـام دهشـة الناس وإسـتغرابهم  هي مشكلة  ( رعد مطشر مسلم)(**)  هـذا الشـاعر المبدع الشاب الذى  شرع برحلتـه الشعرية في وقـت مبكر , والذي ودعنا مبكراً أيضا ً (1)  وإنما كانت في البحـث عـن الفانوس نفسـه  ، ليوحي لنا عبـر نصوص مجموعتـه
البكر ( البحـث عن فا نوس الحقيقـة )ـ  بغداد  1987ـ  بأنه  في معرض التأكيـد على الفعل الإبداعي قبل إختيار أدواته الإبداعية  ذاتها , وذلك من خلال طرح مفـردة شعرية ,  سلسة , تتسم بالإنسيابية والبساطة نوعاً ما ، ومتماسكة تنبض بالتطلع الى الحداثة ، لكنها لا تتوانى عن التطلع الى الأبعد منها ، لهذا كان مفهوم الشعر لديه آنذاك مرادفا ً للحياة ، بل ومدخلاً لتعامله مع المرئيات والموجودات من حوله ولقيامة الجسد أيضا .  يقول رعد في (مناجاة الرماد )  :

للشـعر طعـم الأ مـان والقلق
فيه حروق الذنوب والندم
وسـلم للرحيل والهرم
في عالم من نيران / ومن دم ..

ويضـيف  في  ( صوت مرآة وجرح ) :

للشعر جلاد ومقصلة
كلا هما يعتمد العشـق
أرجوحة للحـزن
قامته تنـام في مفترق الطـرق
وأنـت لـم تـزل تنادمه
وهوصليب قيامة الجسد.   

ويستمر هذا الوجع المموسق في النصوص اللاحقة ‘ إلاّ أن رعد اً كان يحرص على أن يغير في تقنيته  ليغلف الكلمة بالكثير من الغموض، فنحا بإتجاه التقنين المسرف في الإيحاء وإيراد المعاني والمدلولات العصية على الفهم ، ليصطف بذلك مع زملائه من أبناء جيله من الشعراء الشباب  الذين كان أغلبهم يستعرض قدرته على توضيب عشرات الأسماء والصفات المتضادة والمتداخلة والمتناظرة في حيز ضيق من جزء النص لنيل بطاقة الإنتماء الى الحداثة ، وتجـاوز التقليـد والتخلص مـن الترهـل الشكلي في الشـعر عبـر تراكـم لغـوى يتضمن كما ً مـن الكلمـات المتراصـة ، ويبرهن في الوقت ذاته على الإجـادة في الوعي باللغـة مـن خـلال طغيان الإبهـام والتـلاعب اللفـظي لتصبح القصـيدة أحجيـة تسـتعصي على الإدراك ،  وخاصة في مجموعته ( الغرقى يجمعون المرجان ) بغداد  1998 ، الذي أقف أمام نصوصه مليـّاً حيث أجد بين ثنايا مفرداتها الإتجاهات المقرونة بالقصد المسبق  :

أكمن ُ خلف أجراس دمي
أبتكر هناءات أروض بها مخالب التعاسة
أكورُ صبري لأصفعَ به الهزيمة
فيرتد الهواء حجرا يصفعني
أوسد ُ رأسي صدر الفراق ومن شريانه ، أرشف دماً
يفسد ُ أنفاس اليقين

وفي إصـرار لا يليـن يواصل رعـد إبحاره في خضم سحر الإيماء الجاذب ، وحيداً ، منقسماً على ذاته ، يقتات على رموز ميادين القتال  وماينتظرها من عصف ، فالمطر له صحوة  والريح  تؤول الى مجرد لفتة قدر ٍ تمرح في فضاء الخيمة المعجونة بالتمزق والتشظي :

وحيداً أجاور نفسي
ووحيداً يجاورني إنزلاق المشاعل ..
لأنهم لم يصدقوا أن الخيمة تصير غيمة ً حين تنمقُ بالعفاف
لأنهم لم ينزعوا الخوذةَ لتمرحَ الريحُ في فولاذ شعرهم
لم يستنبطوا من قوسها جسراً يشاكس السيل
في صحو المطر
لم يملأوا الجعبة خبزاً للمخازن والعتاد
لأنهم ناءوا خلف قامة التهدل
ولم يعد لي أحد !

ولربما يتعذر تفسير مدلول العديد من النصوص أمام بقية الصور التي شرعت تتراءى عبر الأشكال التي إحتشدت بها نصوص المجموعة ومنها (رفاعي) ، ففي هذا النص بات رعد يميل بثبات نحو المزيد من الإبهام والتمسك بالنقاط والأسهم والفواصل التي هي في النهاية لا تنطق سوى بدلالات مستترة  وغير واضحة :

كانتْ لديه صلواتٌ من الشمع كثيرا ما تمرجحت
زيارات لأضرحة النور يهيئها
ثم

يركنها في فندق للميلاد
تنثره إمرأةٌ تتناسل بسمتها
حبالاً
في طابق النحاس هذا ..

ثـم يعود في النص ذاته الى رسم سلم ٍ يوزع على أدراجه يرسـم سـلما لـيوزع علـى درجاتـه أحـد سطور النص وما إلى ذلك من رسوم وعلا مات وإشارات في نصوص أخرى كـ ( (مشاكسات)  و ( أم الغيابات ) و ( إستنادا ًالى جدائل الفراغ ) ....  وغيرها .
إن الطاقة الرمزية الكامنة في هذه النصوص توظف تماماً لمصلحة الشكل على حساب المضمون ، إنها مفارقة الغموض ، المثقلة كاهلها بالتقرير والمباشرة ، رغم شرود أبيات تشي برومانسية شيقة ربما لم تكن تروق للشاعر نفسه .
وفي عودة الى نصه ( رفاعي ) الذي وجدته معبراً ً وذو مغـزى مهم لولا الرياضيا ت الفكرية المفروضة عليه  والتي منعته مـن النمو في الإ تجاه الطبيعي فجعلته في النهاية عسيرالهضم والإ ســتيعاب , لكننا يجب أن نشير الى أن التبد يـل المستمر للعلاقـات اللفظية في هذه النصوص أجبر الشاعر على خلق كنايات جديدة وإبتكار تشابيه فريدة ، ليمـّد لغتـه الشعرية بطاقـة حيوية  ويعيـد التماس المباشـر بيـن التجربـة والتعبـير عنها .
وفي خضم هذا العنفوان والغموض الذي يغـلف أغلب النصوص السابقة فإ ن مجموعة الجديـدة للشـاعر والتي تحمل عنوان ( وأنا أتقـاطر من معصمي ) حققت نقلة نوعية بإتـجاه التوازن الرائع بيـن الشكل والمضمون وتدفع نحو الإحساس بما يسميه ( هيـوم ) بالطراوة , أي الإحساس بأن الشاعر قد لامس الحقيقة أو الواقع من جديد ، وإنه لكي يعبر عن هذه الملامسة فقد سـبك لغتـه ثانية في أ تون تجربتـه المبتكرة  وهذا نصه  الذي يحمل إسم المجموعة ذاتها تؤكد هذا  المعنى :
دعاؤك لما تغرقه المنائـر في فتنـة التوكـل
على مد ن ٍ ترتـاب بأنهارها وتتهم الأسماك بالجنوح
وماؤها لم يزل يدعك رذاذ الغرقى بالساحل
تاركا ً المراكب تتـلو عزلة نحات ممعن في الشبيه  .

هنا إقترب رعد كثيراً من الحافة النائية في مسعاه لتطويع الذهن وإنتقاء المفردة التي توحي بعزلته عمن حوله ، فالمراكب هناك تحولت الى مجرد شيء منظور ، بينما الغرقى يتقاطرون على الساحل ، إنهم غادروا الحياة لكنهم في الحلم يجوبون مع الشاعر المدن القصية باحثين عن حل لأزمته العنيدة .
ينقل جبرا إبراهيم جبرا عن هيوم قوله ( أنه لا خلق ، وبالتالي لا شعر إلاّ إذا إستطاع الشاعر بالمراس الشديد والإخلاص العنيف أن (يحني) اللغة لمنحى فكره بدقة ) ويبدو أن رعد كان قد أفلح في نصوص المجموعة في شحن الحرف ةالكلمة بديناميكية فائقة وعنفوان قلّ نظيرهما ، فغدت الجملة الشعرية مشحونة بطاقة تتخطى عوائق التعبير .
وكي لا أبدو منحازا ً الى نصه الجميل ( كركوك ) الذي ينبض بالشفافية والسلاسة ، والذي يعبر عن عاطفة مشبوبة نحو مدينة تتسابق لإمتلاك ناصية ذهنه مع جنوب الآباء والأجداد فإنني أترك القارىء مع جزء من النص  :

ياشمال الجنوب
وجنوب القلب المسور بالخفايـا
لأجـلك ِ
غد ير الشـمال يتنزه في دهشته المحتجبة
خلف تأريخ المرايا
وتحت لـؤلـؤ  شـامتك تلـوذ الحمائـم تترى
تجد ل زهـرة اللهب الأزلي )  
ثم  
يا مدينة القلعة المدلاة من مفاتيح الأ فـق
وسوّروك بالترانيم والمسرات
وزرعوا في حدائقك النجوم فأثمرت
قلعتك المرسومة ... كالتساؤل
وفرغوا  فـي قدميك دورة الكـاف الأخيرة .

وأخيـرا ً وفي تصاعـد ٍ رومـانسي عمـيق حيـث الكلمة تمس شغـاف القـلب ينـتهي النص
الى :

فدعيني
يا مدينة البياض / أنشد
أغنيتي الأ ثيرة
فكم من مـرة ٍ ... ضحكـت ُبكيـت ُ إرتعشـت ُ
خفقـت ُ
كخليج التفـاؤل
منـاديا ً ... إ ني أحبـك ِ كـركـوك .

إن رعد مطشر جابه بشجاعة المستكشف قدره الشعري في إنتمائه الى الجيل الجديد من المبدعين الشباب الذين رغم أنهم (في غالبيتهم)  يحشروننا شئنا أم أبينا في مربع محصور يتسم بالغموض والمبالغة اللفظية و الشكل غير المألوف ، لكن ميراث نصوصه يبقى ناضجاً وطرياً ينتمي الى جيله مع أنه يتفوق على نتاجات معاصريه بقوة الدلالة والإيماء الى جانب متانة التعبير وجزالة الكلمة الخلاقة .
ولا شك أن رحيل رعد مطشر المأساوي والموجع في اتون دوامة العنف التي كانت تعصف بالبلاد  ، كان نذيراً بإطفاء جذوة وهاجة آسرة في سويداء الإبداع الشبابي المعاصر ، هذه الجذوة لو قدر لها التواصل لكانت تورق غرساً مثمراً يضفي على حركة التجديد الشعري في قرننا الحالي  الحيوية والبعد الحدسي والإنتماء , متنقلاً بإبداعه الى عصر جديد للشعر يقارع القديم دون هوادة ويفتح كوة ساطعة لضوءٍ ينداح آسراً على أديم واسع من العتمة .

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(*)نشر المقال في جريدة  الاتحاد اليومية بعددها المرقم   3912   الصادر في 7/12/2015
(**) من مواليد 1963 ، نال  شهادة البكالوريوس في  الأدب الإنكليزي من جامعة بغداد 1984.  وحصل على 24   جائزة في الشعر والمسرح والقصة ، أغتيل بتأريخ 12/5/2008 على يد مسلحين مجهولين على طريق كركوك ـ تكريت

  

  

إذاعة وتلفزيون‏



أفلام من الذاكرة

الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

904 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع