قراءة في الرؤية الأبداعية للفنانة التشكيلية فاطمة العبيدي

                                                    

                      محمد حسين الداغستاني

  

                                   

          قراءة في الرؤية الإبداعية للفنانة التشكيلية  فاطمة العبيدي

مشوار أبجديات الألوان المبهرة

يجد بعض النقاد أن تقييم النتاج الإبداعي التشكيلي يتكأ على بناء اللوحة الداخلي ، وعلى مدى قدرته في الشروع بطرح قيمة جديدة الى فنه  ، يضمن عدم تكرار تجارب غيره ، ويمضي قدماً نحو تأسيس وعي عميق يلبي الهتاف الملحّ  في ضميره الداعي الى طرح فن ٍ يستجيب للأساسيات الكلاسيكية ، وموجبات الحداثة والعصر معا ً ، وقادر في الوقت ذاته على إستقطاب دهشة وقبول المتلقي الذي هو المقصد المنشود .

فأين فاطمة العبيدي  الفنانة التشكيلية العراقية العالمية القديرة من هذا التوصيف  بعد نجاحها الباهر خلال فترة قياسية في غزو المعارض الدولية والوقوف نداً كفوءاً لأبرز فناني التشكيل في العالم ، وحصد عشرات الالقاب والجوائز والشهادات  ؟

بالعودة الى بدايات فاطمة نجد أن لوحاتها الفنية حفلت ببصمات الواقعية الطبيعية ، كما وإتسمت بالتركيزعلى اختيار فسحات واسعة على مساحة اللوحة للمنائر والقباب والاشكال الهندسية التراثية والإسلامية،وكان ذلك نتاجاً موضوعياً  تآلف مع كونها ربيبة المدرسة العبيدية للفن ( إن صح التعبير) عندما كانت لاتزال فتاة صغيرة ملازمة لعمها الفنان التشكيلي والنحات الكبير الراحل محمود العبيدي في مرسمه وأفرانه بمدينة كركوك حيث كانت تراقب حركات فرشاته وهو يرسم ، وإنتقالات يده وأزميله وهي تحفر وتنحت المجسمات والتماثيل ، وتصغي بإنتباه شديد الى ملاحظاته وتعليقاته ، فنمت وترعرت في أجواء تلك الورشة الكبيرة ، مستوعبة دروس المزج والتناغم الطري بين الاشكال الهندسية والرموز التراثية والدينية ، والإنتباه الى تفاصيل الحياة اليومية للناس، والإجتهاد في الفترة اللاحقة لتوسيع رؤواها الفنية عبر محاولاتها المتكررة في جدلية مستمرة لتأكيد إستقلاليتها ونزوعها الذاتي نحو رفض الإنغلاق المحلي والتوق الى المحافل العالمية، وخلق تجربة مميزة ترتقي الى مستوى الفهم لوظيفة الفن التشكيلي المعاصر .

                

من هذا المنطلق نأت فاطمة بنفسها عن جل ّ ما في تلك البدايات وإنحازت تماما الى التجريد عبر تعميق تجربتها الذاتية وإكتشافها المثير للغة التي عليها إجادتها للولوج الى الميادين الفنية الحديثة ، وأدركت ببصيرتها النافذة تأثير وأهمية اللون ، فإشتركت مع ما  يصفه جبرا إبراهيم جبرا اللوحة التجريدية الناجحة بأنها مخاض ( المزج بين المساحة اللونية وفق نسب موسيقية تتصل بالتناغم العددي والفيثاغوري) .. هذه سمة التجريدية عموماً ، ذلك لأن اللون في التجريد يفيض كمد البحر من تلك البؤرة المشعة التي تضفي على بنية اللوحة سحراً ، وتترجم الهزة النفسية المعتملة في وعي التشكيلي كما في الموسيقى .  فتمثلت المحطة الفاصلة في مشوارها الفريد إصرارها على طرح فن ٍ يوائم منطق العصر ، ويمزق الشرنقة المحلية الخانقة ، ويجتهد في إبتداع رؤى لونية جديدة يمتلك قدرة التطويع على التعبير بما يحقق القبول العالمي ،  وهذا ما فعلته فاطمة عندما خطت أولى خطواتها نحو العاصمة الأردنية عمان وحسمت خيارها النهائي بالإنضواء تحت خيمة المدرسة التجريدية التي يشكل اللون عمودها الفقري .

في وقت مبكر إلتفتت فاطمة الى المنظور للإيحاء بالأبعاد والفسحات اللامتناهية .. لقد كانت الأشكال في لوحاتها تترابط في هيئة سلسلة موحية بفكرة ما .. لكن كان هناك دائماً فرصة للتفكير في المقاصد اللامرئية لتلك الفكرة التي كانت تعتمل في داخلها  كما في اللوحات التجريدية التعبيرية التي ابتدع أسسها النظرية الفنان الروسي كاندينسكي ( الذي أكدت فاطمة في حديث لي معها تأثرها بمدرسته الفنية) ، والذي حسم الإتجاه الفكري لمدرسته في مقولته الشهيرة  "ان اعظم تزوير للحقيقة هو الاعتقاد بان الفنون التشكيلية تقليد دقيق لما تحتويه الطبيعة "،هذا الإتجاه في التشكيل يبتعد بالرسم عن الأشكال المعروفة و يلتف حول هيكل رئيسي  توليفته الأساسية اللون والخطوط  , ويجعل مضامينها تنساب برشاقة  وبحدة في ذات الوقت , لتحيل اللوحة الى ند ٍ مماثل للموسيقى ، بحيث تشي بجو مفعم ٍ بالإنسجام بين الألوان القوية ليشتد التقابل بينها ،فتقرع بصيرة المتلقي قبل بصره وكأنها سيمفونية صاخبة تنهمر من السماء بتتابع آخاذ وساحر . وبهذا فإنني استطيع القول بأن لوحة فاطمة العبيدي  هي الأخرى مقطوعة موسيقية جذلة  تشع من الداخل من خلال توظيف التجريد للذهاب الى أقصى مديات التوق وتلخيص الأشكال الهندسية أو النتوءات في حركات الفرشاة العمودية  الى أشبه بمعادلات غامضة تنتهي الى معطيات تثير البهجة والدهشة  في النفس معاً .

              

فاطمة العبيدي لحظة إستلامها الميدالية الذهبية في بينالي فلورنسا الدولي العاشر إيطاليا

   
وهكذا فحالما إمتلكت فاطمة ناصية أبجديات اللغة الفنية الحديثة ، بادرت الى إغراق نفسها في لجج بحر الألوان الصادمة ، وإبتكار ألوان جديدة كلياً حتى على استخدامات كبار فناني التجريد ، فوظفت إستشرافها الفذ والخلاق لأسرار المزج اللوني وإخضاعه لتطلعاتها البارعة المعتملة في داخلها ، وهذا بالضبط يفسر سر إلحاف منظمو المعارض ، وتجار اللوحات الفنية المحترفين ، والجمهور الفني الواعي  في تلقف لوحاتها التي أبهرتهم  بتركيباتها اللونية غير المعهودة ، هذه التركيبات التي استبعدت الفنانة من نسيجها التكويني اللون الأسود تقريبا في إنقلاب مبين على المسحة السوداوية التي تطغي على حياة الناس من حولها في وطن الأوجاع والتمزق .

إذاً  دخل اللون  معمار لوحة فاطمة في أداء فريد ومميز بحيث أعطته تلك القيمة الجمالية الفائقة لتنهل من ذلك الدفق النفسي الناقل للإحساس لتحوز على إنتباه المتلقي ووهج عقله ، ليكون اللون وظيفة حياتية ونفسية معقدة إستوعبتها فاطمة بتلقائيتها وعفويتها وحولتها الى موج متدفق بالسخونة والانسيابية  وبالمضمون المشحون بالموحيات  ، وإرتقت بفنها الى مستوى الرضا المحلي والعربي مما دفع الفنانة الكبيرة وداد الأورفلي الى إطلاق لقب (أميرة الفن التشكيلي العراقي) عليها ، وحصد التقدير الدولي من خلال تتويجها (سفيرة للسلام من خلال الفن) الممنوحة لها من قبل الإتحاد الأوربي  EC   لتكون أول فنانة غير أوربية تنال هذا اللقب الرفيع .
في هذا المنحى ربما تبنت فاطمة أسس الفهم السايكولوجي لوظيفة اللون كما طرحه  كاندينسكي الذي إعتقد أن الألوان تمتلك لغتها الذاتية فالأزرق العميق  تثيرالعواطف والأخضر مع القوة الداخلية للإنسان ، ويعبر الأحمر عن الحيوية والثقة ،  فيما يبدو الأصفر دافئاً ومثيراً ، بينما الأبيض ينشر الصمت فيما حوله  . ثم ربط كل لون بآلة موسيقية .
إلاّ أنني ارى أن مضامين لوحات  فاطمة بحاجة الى المزيد من التخصص ، أي التأكيد على وحدة الموضوع  وعدم التلاشي بين اكثر من سبيل ، فالخطوط العمودية  مع شيئ من التدرج الحركي وكذلك الألوان الصافية  تحسم انحيازها الى التجريد الكامل الذي هو بلا شك يشكل رد فعل طبيعي لما يمور في واقع مرير تجتهد هذه الفنانة المفعمة بحب الوطن لتغييره بإصرار .

كما أن من مآخذي الشخصية  على لوحات فاطمة إهمالها إطلاق عناوين ومسميات تعرّف مضامينها ، فالإفتقار الى هذه السمة قد تفقد المتلقي غير المتخصص ميزة إلتقاط أنفاسه وهو يجول ببصره في لوحات مذهلة الألوان مجهولة الهوية .. والعنوان سياق اعتمده جل الفنانين العالميين  ومنهم كاندينسكي نفسه الذي أطلق إسم (المغنية) على أفضل لوحاته .

قد يكون الإرتقاء الى القمم مجهدا وغير مستحيل ،لكن الإحتفاظ بها يبقى الهاجس الذي يقلق المبدعين ، ومع فاطمة العبيدي فإن إجتياز حالة تكرار التجربة بذات سماتها ، والمراوحة على المربع نفسه ، والإتكاء على ما أنجز، عوامل تشكل تحدياً حقيقيا ًعليها مجابهته ، من خلال العمل بدأب منهك على إبتكار صيغ حية وجديدة تؤمن حسم الموقف لمستقبل فنها الخلاق والمبدع ، مستنبطة المزيد من سحر اللون ، ومن تحديث تقنياتها ، وبعث الروح في قادمات نتاجاتها الفنية ، ليبقى سلاحها الماض للإحتفاظ بالقمة ، وتحقيق الانبهار في المتلقي ، ليتواصل مشوارها الرائع راسخاً ومديدا ً .

  

إذاعة وتلفزيون‏



أفلام من الذاكرة

الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

1188 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع