عمليات غسيل الأموال وتورط السياسيين فيها

                                               

                       أ.د. أكرم عبدالرزاق المشهداني

 ملفات الفساد تتكشف يوما بعد يوم:
بين الحين والآخر، بدأت ملفات الفساد تتكشف في العراق وهي تأخذ منحاً تصاعدياً مع اختلاف الأدوار، وعلى رأس تلك الملفات قضية تورّط بعض المصارف العراقية في عمليات غسل أموال. وهي  قضية ربما تتوسع يوم بعد آخر لاسيما بعد أن تم الكشف عن تورط سياسيين ومتنفذين في عمليات غسيل الأموال وتهريبها للخارج،  وما يلحقه ذلك من ضرر بالاقتصاد الوطني والعملة المحلية.
معلومات كثيرة تضمنتها تقارير إعلامية، وأغلبها يستند إلى تقارير من هيئة النزاهة البرلمانية، تكشف عن تورط شخصيات برلمانية وحكومية وبعض المتنفذين بأروقة الدولة. وتصاعدت مطالبات الخيّرين من لجنة النزاهة البرلمانية بوجوب كشف الأسماء وإبعاد المتدخلين والمتورطين، وعزلهم عن مناصبهم، وقيل بأن “الكثير من النواب لديهم اطلاع على الأسماء التي ثبت تورطهم مبدئياً حسب تحقيقات اللجنة المشكلة من قبل البرلمان ولكن التحقيقات توقفت بعد افتقارها إلى الأدلة القانونية".
اتهامات متبادلة بين السياسيين والبرلمانيين:
قضية البنك المركزي العراقي والمصارف الأخرى، ألقت بضلالها كذلك في حملة الاتهامات المتبادلة بين البرلمان والحكومة والسياسيين، لا بل أن الإتهامات طالت أعضاء في لجنة النزاهة البرلمانية. النائب عن دولة القانون وعضو لجنة النزاهة البرلمانية كمال الساعدي أكد في تصريح صحفي أن “هناك أسماء نواب وغير نواب متورطون بقضية البنك المركزي ولكنهم يتحركون بواجهات مختلفة وهم يحركون أدواتهم من بعيد عبر شركات صيرفة وبنوك أهلية ووسطاء وعلاقات خاصة”.
وأوضح الساعدي أن التحقيقات الأولية كشفت العديد من الأسماء ولكنهم كانوا حذرين ولم تثبت إدانتهم، وعلى الرغم من أن هناك معلومات تشير إلى تلاعبهم بالأموال العراقية داخل البنك المركزي ولكن لم يثبت ذلك بالأوراق رسمية. وأضاف الساعدي أن “الاعترافات كشفت عن تورط شخصيات كبيرة ومنهم احد الوزراء والذي جمع مبالغ تصل إلى أكثر من 150 مليون دولار من مزادات البنك المركزي". وأضاف أن هناك مسؤولين آخرين جنوا مبالغ طائلة من التلاعب بمزادات البنك المركزي”. وقال الساعدي انه “توجد لدى لجنة النزاهة البرلمانية معلومات مؤكد بهذه الأسماء ولكنها تفتقر إلى السند القانوني”.
النجيفي يؤكد: عمليات فساد في بيع الدولار:
تأكيدات أطلقها رئيس مجلس النواب العراقي أسامة النجيفي عن وجود شبهات فساد في عمليات بيع الدولار والتعاملات الداخلية، حمّل الحكومة مسؤولية التحقيق في عمليات غسيل الأموال وسحب الدولار من الأسواق والكشف عن المستفيد منها للرأي العام العراقي. وقال النجيفي اثر اجتماع مع محافظ البنك المركزي العراقي إن "النتائج التي توصلت إليها اللجنة المكلفة بمتابعة عمل البنك المركزي والمؤلفة من لجنتي الاقتصاد والمالية البرلمانيتين ورئيس ديوان الرقابة المالية أشارت الى وجود شبهة فساد في عمليات بيع الدولار والتعاملات الداخلية".
 وأضاف النجيفي أن "النتائج أشارت أيضاً إلى علاقة البنك المركزي مع البنوك الأهلية ومكاتب الصيرفة وحوالات وهمية لاستيراد مواد وأصناف تجارية وصناعية إضافة إلى عدم وضوح آليات تدقيق في عمليات غسيل الأموال بالبنك المركزي والمصارف الأهلية". وتعهد بمتابعة "التحقيق مع هيئة النزاهة كون أن هذه القضية تتعلق بالملف الاقتصادي للبلد بجانبه الأخطر والاهم وتستوجب عدم إخفائها للرأي العام
ملفات تثبت تورط سياسيين:
من جانبه، طالب عضو لجنة الاقتصاد والاستثمار النيابية عزيز المياحي رئاسة البرلمان بعرض تقرير لجنة تقصي الحقائق بخصوص ملفات فساد البنك المركزي العراقي في جلسة علنية، وقال المياحي في بيان أصدره مكتبه إن"لدينا ملفات تثبت تورط عدد من الشخصيات السياسية من داخل البنك المركزي وخارجه بصفقات فساد مشبوهة" مبيناً أن "اتهامنا للبنك لم يأتِ من فراغ ولا توجد أي عداوة شخصية مع شخصياته أو محافظه". وطالب المياحي رئاسة مجلس النواب بعرض تقرير لجنة تقصي الحقائق بخصوص ملفات الفساد في البنك في جلسة البرلمان معتبراً أن "الهدف من عرض التقرير هو معرفة من المستفيد من إخفاء صفقات مزادات شراء العملة التي كانت سبباً في تدهور القطاع المالي.
هبوط سعر صرف الدينار العراقي:
ويؤكد إقتصاديون عراقيون بأن سعر صرف الدينار العراقي شهد مؤخرًا هبوطًا ملحوظًا إزاء الدولار حيث سجل سعره 1300 دينار للدولار الواحد بينما يبلغ سعره بموجب مزادات البنك المركزي العراقي اليومية 1166 ديناراً للدولار أي بزيادة 134 دينارًا لكل دولار، وهو ما يعادل زيادة بنحو 11 % عن سعره الرسمي. وجاء ارتفاع سعر صرف الدولار أمام الدينار العراقي وسط تقارير تشير الى زيادة الطلب على الدولار بسبب قيام تجار إيرانيين بالحصول عليه من الاسواق العراقية اثر العقوبات الدولية الصارمة التي فرضت على بلادهم مؤخرًا وأدت الى تناقص سعر التومان الإيراني امام الدولار بشكل كبير.
إتهامات برلمانية بضلوع نواب في غسل أموال:
فيما دعا زعيم التيار الصدري في العراق مقتدى الصدر إلى حملة شعبية للكشف عن أسماء المتورطين بالفساد ومعاقبتهم، وجّه نائب عراقي اتهامات لستة نواب بالضلوع بعمليات غسيل أموال في التعاملات التجارية التي يقوم بها البنك المركزي العراقي، بينهم أربعة من نواب التيار الصدري.  وطالب الناطق الرسمي باسم مقتدى الصدر الشيخ صلاح العبيدي "ابناء الشعب العراقي عامة الى المطالبة من خلال حملة شعبية منظمة بالكشف عن اسماء المفسدين في صفقات السلاح والمسؤولين عن استيراد مفردات البطاقة التموينية قبل اتخاذ اي إجراء جديد بخصوصهما من قبل الحكومة" .
 شبهات في مزادات الدولار في البنك المركزي:
كما  إن عضو ائتلاف دولة القانون، هيتم الجبوري قال لـقناة "سكاي نيوز عربية": "لدينا معلومات وأدلة تؤكد وجود شخصيات مسؤولة في البنك المركزي تستغل مزاد بيع الدولار بشكل يومي، من خلال التعامل مع بعض المصارف والشركات المحددة دون غيرها". وأضاف أن "البنك الذي يبيع في مزاده نحو 280 مليون دولار يوميا إلى 14 شركة تتضمن بعض المصارف المعروفة". وكان الجبوري أكد في تصريحات صحافية سابقة أن "اللجنة المالية في مجلس النواب وردت إليها معلومات تؤكد قسم منها وجود مافيات من التجار داخل البنك المركزي العراقي يتحكمون بعمل البنك". وقال إن "حجم البيع اليومي للدولار لا يتناسب مع حجم البضائع الداخلة إلى العراق، على اعتبار أن ما يدخل لا تتعدى قيمته الـ20 مليون دولار". وتساءل الجبوري "لماذا لا يتم التعامل مع غير تلك الجهات"، معتبرا ما يجري "غسيلا للأموال، خاصة وأن البنك يبيع الدولار بسعر إلى تلك الجهات، والأخيرة تقوم ببيعها بفارق كبير، الأمر الذي يحقق هامش ربحي يومي ما قيمته 9 مليون دولار، يوزع على تلك الشخصيات المتنفذة"، بحسب قوله "بأن ضغوطا مورست على البنك المركزي أخيرا، الأمر الذي حدا بالأخير إلى إعطاء دور لبعض المصارف الأهلية ببيع وشراء الدولار"، لكنه أشار إلى "امكانية أن تكون هناك عملية غسيل أموال، لكن ليس بالضرورة من خلال قرارات البنك المركزي". وأكد أن "عملية غسيل الأموال عادة ما تتم عن طريق مكاتب الصيرفة غير المجازة، والتي تقوم بتحويل الأموال عبر ما يعرف بالمقاصة".
من المفترض أن مكاتب الصيرفة تخضع لرقابة من البنك المركزي العراقي ومن جهاز الأمن الإقتصادي، خاصة وأن انتشار المكاتب غير المرخصة بات أمرا مؤلوفا من خلال محالات بيع الذهب أو السلع الأخرى".
المفتش الأمريكي يؤكد وجود عمليات غسيل الأموال:
 المفتش الاميركي لإعمار العراق ستيوارت بوين أكد تزايد عمليات غسيل الأموال وتهريبها من العراق، وتتضمن تقارير المفتش الأميركي العام حول العراق التي تصدر أربع مرات في السنة تقييما للأوضاع في العراق منذ الغزو الامريكي في عام 2003. وقال ستيوارت بوين "إن مليار دولار يخرج أسبوعيا من العراق، 80 بالمائة منه دون وثائق صحيحة وبشكل غير قانوني مما يخفض من كميات العملة الأجنبية داخل البلاد".
 التقرير أشار إلى اتساع ظاهرة غسيل الأموال في العراق وذكَّرَ بأن مدير ديوان الرقابة المالية عبد الباسط تركي كشف لمسؤولين أميركيين عن نتائج تم التوصل إليها بشأن مدى اتساع هذه الظاهرة. عبدالباسط تركي تحدث أيضا عن مخاوف أخرى بشأن ما دعاه بمثلث (الطائفية والفساد والعنف) في العراق وكل منها يغذي الآخر بطريقة تهدد وجود الدولة نفسها"، حسب ما ورد في التقرير.
وكالة اسوشيتيد بريس للأنباء ذكرت أن مكتب مدير ديوان الرقابة المالية عبد الباسط تركي أجرى تحقيقا في ممارسات البنك المركزي العراقي ومزادات بيع العملة الأجنبية حيث تقوم البنوك التجارية باستبدال دنانيرها بالعملة الأجنبية ثم تسلمها إلى زبائن مقابل عمولات. ومن المفترض بهؤلاء الزبائن أن يقدموا وثائق ثبوتية للبنوك قبل تحويل أموالهم إلى الخارج غير أن عاملين في مجال مراقبة الحسابات لاحظوا أن اغلب الصفقات قائمة على وثائق مزورة. وقد أقَرّ ناطق بإسم ديوان الرقابة المالية هو السيد عماد إسماعيل بعقد اجتماع مع مسؤولين أميركيين خلال الأسابيع المنصرمة غير انه قال إنه لا يملك تفاصيل عن تقرير الرقابة المالية.
وكان نائب محافظ البنك المركزي مظهر محمد صالح قد نبَّه في وقت سابق إلى ارتفاع حاد في الطلب على الدولارات الأميركية التي يبيعها البنك المركزي. وبرر ذلك بأن التجار العراقيين يبيعون الدولار لزبائن في إيران التي فرضت عليها عقوبات أميركية ودولية وكذلك في سوريا الخاضعة لعقوبات اقتصادية دولية وعلى حساب الاضرار بالاقتصاد العراقي وهدر فائض العملات الصعبة.
الإهتمام الدولي بمكافحة جرائم غسل الأموال:
من الجدير بالإشارة هنا أنّ تجريم (غسل الأموال) قد تزامن مع بداية الإهتمام الدولي بوضع اتفاقية أممية لمكافحة الاتجار في المخدرات، ثم الجرائم المرتبطة بها، وصولا إلي الجرائم الخطيرة بوجه عام كجرائم مستقلة وحرمان مقترفيها من أرباحهم غير المشروعة. وكانت اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الإتجار غير المشروع في المخدرات والمؤثرات العقلية (فيينا 1988) قمة الجهود الدولية في مجال مكافحة المخدرات والجرائم المرتبطة بها وبالأخص غسل الأموال، وكذلك القرارات الصادرة عن المجلس الاقتصادي والاجتماعي ولجنة المخدرات التابعة للأمم المتحدة، وتوصيات الهيئة الدولية للرقابة على المخدرات، وتوصيات لجنة العمل المالية فاتف (FATF) وهي مختصر لتسمية ( Financial Action Task Force).
 
آثار إقتصادية تدميرية
وتعد جريمة غسل الأموال من الجرائم الخطيرة ضمن الجرائم المنظمة عبر الوطنية، وتعد من الظواهر الخطيرة التي تؤثر بشكل كبير على اقتصادية ومجتمعات العديد من دول العالم.  وترتبط هذه الظاهرة بأشد عناصر الجريمة الاقتصادية،  فعمليات غسل الأموال تضر بالمجتمع اقتصادياً واجتماعياً وأمنياً، ولها آثار سلبية، مما يتعيّن تكاتف كافة الجهود الدولية والمحلية للحدّ من هذه الظاهرة. وقد أظهرت تقديرات اقتصادية لعام 2010 وتقديرات خبراء صندوق النقد الدولي بأن حجم عمليات غسل الأموال على مستوى العالم يقدر بنحو 5 تريليون دولار سنوياً، ينتج 50 % منها عن تجارة المخدرات، وتوزع البقية بين تجارة الأسلحة والدعارة وغيرها من الجرائم، وتصل نسبة غسل الأموال في المنطقة العربية نحو واحد في المائة من حجم الأموال المغسولة حول العالم سنوياً.
وقد أدت ظاهرة غسل الأموال إلى ظهور طائفة جديدة من المجرمين، مستقلة ومختلفة عن طائفة المجرمين في الجرائم الأساسية، من مرتكبي الجرائم الدولية أو المنظمة التي نتجت عنها الأموال غير النظيفة. وهذه الطائفة الجديدة من المجرمين تؤدي خدمات إلى المجرمين الآخرين، وتضم أشخاصاً من المحامين والمصرفيين والمحاسبين ورجال الأعمال، وذلك لما تدرّه عمليات غسل الأموال من أرباح طائلة لهم تتراوح ما بين 2 %إلى 20 % من حجم الأموال التي يتم غسلها.


 استغلال وسائل الاتصال الحديثة:
ولاشك أن التطور المتزايد لحجم التجارة الالكترونية والانفتاح الاقتصادي، سيشكل تحدياً عالمياً أمام مكافحة جريمة غسيل الأموال، حيث يبلغ متوسط عمليات غسيل الأموال أكثر من ضعف قيمة الناتج العالمي من البترول حسب احصائيات صندوق النقد الدولي، في ظل كثير من العوامل التي ساعدت على تفشي هذه الجريمة، مثل عدم وجود الأنظمة القانونية الرادعة، وضعف الرقابة على البنوك وانعدام الشفافية في الحسابات المصرفية، والتوسع في وسائل الاتصال الحديثة، ويعتبر غسيل الأموال نوعاً من أشكال الجرائم الاقتصادية المنظمة الحديثة مثل جرائم المخدرات المشبوهة والمؤسسات المالية الأخرى لما توفره عملياتها من قنوات تستخدم في غسيل الأموال، خاصة بعد اعتماد بعض المؤسسات العالمية التعامل النقدي عبر الانترنت مما أدى لظهور ما يسمى بالغسيل الرقمي، ولا تزال عمليات غسيل الأموال تتطور أشكالها وصورها حتى أصبحت أكثر تعقيداً واستخدمت فيها أحدث التقنيات لإخفاء مصادر وحقيقة هذه الأموال.   إذن فإن جرائم غسل الأموال هي من أخطر جرائم عصر الاقتصاد الرقمي ، فهي التحدي الحقيقي أمام مؤسسات المال والأعمال، وهي أيضا امتحان لقدرة القواعد القانونية على تحقيق فاعلية في مواجهة الأنشطة الجرمية ومكافحة أنماطها المستجدة.  كما تعتبر جرائم غسل الأموال، من ضمن جرائم ذوي الياقات البيضاء White Collar Crime، كما أطلق عليها عالم الإجرام الشهير أدوين ساذرلاند، مثل غيرها من الجرائم الاقتصادية التي يرتكبها محترفو الإجرام الذين تتواءم سماتهم مع السمات الجرمية التي حدّدتها نظريات علم الإجرام والعقاب التقليدية.


مراحل غسل الأموال:
وتمرّ جريمة غسل الأموال بمرحلتين، الأولى هي مرحلة الإحلال (الإيداع) والتي تتضمن إدخال الأموال النقدية المتحصل عليها من نشاط غير مشروع في النظام المصرفي أو المالي، والمرحلة الأخرى التالية هي (مرحلة التغطية) وهي محاولة طمس أو إخفاء علاقة الأموال غير المشروعة مع مصادرها الإجرامية من خلال العديد من العمليات المصرفية والمالية المتتالية.
يتبع

  

إذاعة وتلفزيون‏



أفلام من الذاكرة

الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

852 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع