لا.. ليس بول بريمر

                                                                      

                                                    إبراهيم الزبيدي

زعمت صحيفة واشنطن بوست أن الحاكم الأمريكي المثير للجدل بول بريمر ترك وصايا مثيرة لخلفه السفير جون نيغرو بونتي، قبيل التحاقه، يحدثه فيها عن زمر السياسيين الذين أشرف هو شخصيا على تسليمهم الوطن وأهله، فيصفهم  بأخس الصفات وأكثرها مهانة ودناءة ووضاعة. ولا بأس من استعراض أهم تلك الوصايا:

- " إياك ان تثق بأيّ من هؤلاء الذين آويناهم وأطعمناهم، فنصفهم كذابون، والنصف الآخر لصوص، مخاتلون لا يفصحون عما يريدون ويختبؤون وراء أقنعة مضللة.    
 ـ إحذر أن تغرك قشرة الوداعة الناعمة فتحت جلد هذا الحمل الذي يبدو حميميا وأليفا ستكتشف ذئبا مسعورا لا يتردد من قضم عظام أمه وأبيه، ووطنه الذي يأويه.     
 ـ حاذقون في فن الاحتيال وماكرون كما هي الثعالب لاننا أيضا دربناهم على ان يكونوا مهرجين بألف وجه ووجه.    
 ـ فارغون فكرياً وفاشلون سياسياً لن تجد بين هؤلاء من يمتلك تصوراً مقبولاً عن حل لمشكلة أو بيان رأي يعتد به إلا أن يضع مزاجه الشخصي في المقام الأول تعبيراً مرضياً عن أنانية مفرطة أو حزبية بصرف النظر عن أي اعتبار وطني أوموضوعي.    
 ـ يؤمنون بأن الاحتيال على الناس ذكاء، وأن تسويف الوعود شطارة، والاستحواذ على أموال الغير واغتصاب ممتلكات المواطنين غنائم حرب. لذلك فهم شرهون بإفراط تقودهم غرائزية وضيعة، وستجد أن كبيرهم كما صغيرهم دجالون ومنافقون، المعمم الصعلوك، والعلماني المتبختر، سواء بسواء، وشهيتهم مفتوحة على كل شيء: الأموال العامة والأطيان، وإقتناء القصور. يتهالكون على الصغائر والفتات بكل دناءة وامتهان.
و تزعم أيضا أنه ختم وصاياه بالقول لخليفته في عرش العراق قائلا: " برغم المحاذير والمخاوف كلها  فإياك أن تفرّط بأي منهم، لأنهم الأقرب إلى مشروعنا، فكراً وسلوكاً، وضمانةً مؤكدة لإنجاز مهماتنا في المرحلة الراهنة. وإن حاجتنا لخدماتهم مازالت قائمة، وقد تمتد إلى سنوات أخرى، قبل أن يحين وقت رميهم أو إهمالهم فيما بعد."  

وهنا يأتي دوري في الكلام. وقبل كل شيء أقول لست وحدي الذي يُكذب هذه الادعاءات التي ساقتها الصحيفة، بل إن معي وأمثالي ملايين العراقيين الذين يعرفون خامة الشلة التي سلمتها أمريكا رقاب العراقيين وكراماتهم وأرزاقهم، وهي تعلم علم اليقين بكل صغيرة وكبيرة عن أخلاقهم وأفكارهم وأحلامهم، حتى من أيام ولاداتهم، بكل تفاصيلها وأبعادها وحدودها.
والزعم بأن هذه الوصايا صادرة عن بول بريمر ليس صحيحا، لسبب بسيط هو أنها، لو صحت، تعني أن بريمر كان يتصف بعمق التفكير، وهو لا يملكه، وبالجرأة على البوح بالكلام غير المباح، أمريكيا، وهو ما لم نجده لدى بريمر، نحن الذين عملنا معه ومع صفوة مساعديه في أول أيام الاحتلال.
والحقيقة التي يعرفها العراقيون بالملايين، قبل بريمر، ومن قبله غارنر ورتشارد دوني وزلماي خليل زادة، هي أن أمريكا وإيران وسوريا توصلت إلى (اتفاق مصالح عليا) - غير معلن-  على غربلة المعارضين العراقيين، والتقاط الذين يتمتعون أكثر من غيرهم بالصفات التي تتحدث عنها الوصايا المزعومة، أي الذين "يؤمنون بأن الاحتيال على الناس ذكاء، وأن تسويف الوعود شطارة، والاستحواذ على أموال الغير واغتصاب ممتلكات المواطنين غنائم حرب، لذلك فهم شرهون بإفراط تقودهم غرائزية وضيعة، كبيرهم كما صغيرهم، دجالون منافقون، المعمم الصعلوك، والعلماني المتبختر، سواء بسواء، شهيتهم مفتوحة على كل شيء: الأموال العامة والأطيان، وإقتناء القصور. يتهالكون على الصغائر والفتات بكل دناءة وامتهان".  
ورغم أن أمريكا كانت تعلم علم اليقين بأنهم ليسوا عملاء لها وحدها، بل إن أكثرهم، في نفس الوقت والأوان، عملاء لأكثر من دولة، ومخبرون لدى أكثر من مخابرات، بل إن منهم من يتسلم رواتبه ومخصصات غلاء معيشته من طهران، أو الرياض، أو أنقرة أو دمشق، علنا وعلى رؤوس الأشهاد، بل يجاهر بعمالته ويفاخر بها غيره من المخبرين والعملاء، فقد قررت أن تتعهدهم بالرعاية وتمولهم وتدربهم وتزود مليشياتهم بالذخيرة والسلاح، وتعدهم لكي يرثوا الأرض وما فيها ومن عليها، ولو كره الكارهون.
إن ما أريد قوله هنا هو أن أمريكا لم تكن تبحث، ولا تريد أن تبحث، ولا تحتاج إلى أن تبحث، عن عراقيين وطنيين شرفاء وشجعان وأنقياء وأصحاب فكر ومبدأ وكفاءة وسمعة طيبة. بل إنها، ومعها إيران الولي الفقيه وسوريا حافظ وبشار، بحاجة ماسة وملحة لأشباه رجال، جياع مال وجاه، منافقين، انتهازيين، أميين جهلة، متخلفين، متآمرين، دمويين وقتلة وجزارين.
والدليل على ذلك أنها توافقت مع حلفائها الإيرانيين والسوريين، رغم العداء الظاهري بينها وبينهم، على إبعاد وتهميش المعارضين الوطنيين الرافضين للعمالة، بل صفت بعضهم، بطريقة أو بأخرى.
وفي جميع مؤتمرات المعارضة العراقية السابقة كان هؤلاء المتحذلقون الملوثون يتصدرون الصفوف. بل إنهم جعلوا منها حفلات زواج خاصة مقفلة لا يدعى إليها غير أقارب العروسين وبعض الخدم والعبيد والجواري.
ولم يكن دخولها سهلا على غير المرضي عنه وغير المُزكى من أحد القادة السبعة الكبار، أو أحد قادة المليشيات التي كانوا يسمونها فيالق تحرير، مثل منظمة بدر ومليشيا أحمد الجلبي وأياد علاوي وحزب الدعوة، ولا شيء غير ذلك.
وحتى الذي كان يتم إدخاله إلى حفلاتهم ثم يستفيق ضميره  بعد أن تتكشف له البشاعة، أو يتوهم القوة والزعامة فيتمرد على أولياء النعمة كان يُطرد شر طردة. وكثير من الأسماء التي كانت لامعة في فترات مختلفة من أيام المعارضة السابقة لم يعد أحد يتذكرها هذه الأيام.
والحقيقة التي يعرفها بريمر ورؤساؤه في واشنطن والعراقيون جميعهم أن الفرصة كانت سانحة، فور سقوط النظام، لتعويض الشعب العراقي عن مآسي البعث وصدام حسين بتحقيق العدالة بعد ظلم، والأمن بعد خوف، والشبع بعد جوع، والعلم بعد جهل، والحرية بعد عبودية، بنظام سياسي مدني معتدل يقودنا فيه مستقلون عن الأحزاب، يتمتعون بالخبرة والكفاءة والنزاهة والوطنية التي لا تشوبها شائبة طائفية أو عنصرية أو عشائرية أو مناطقية. فيتولون السلطة لفترة محددة بسنة أو سنتين، يعملون خلالها على إرساء قوائم وأسس دولة حديثة تضع أمن شعبها ومصاحه العليا فوق كل اعتبار آخر، دينيا أو طائفيا أو قوميا أو مناطقيا، بعيدا عن وصاية أية دولة قريبة أو بعيدة، مهما كانت الذرائع والمبررات، لكي تنطلق عملية إعادة إعمار ما خربه النظام السابق في جميع الميادين والحقول، ثم يسنون دستورا لا يأتيه الباطل من خلفه ولا بين يديه، ويشرفون على انتخابات عادلة ونزيهة، ثم يسلمون السلطة بعد ذلك لمن يفوز بثقة الناخبين، دون أي التفاف على نتائج تلك الانتخابات، ولا احتيال على ما قرره الدستور.         
ولكن الذي حدث أن فرسان الفئة التي تتحدث عنها الوصايا المنسوبة لبول بريمر تآمروا بكل الوسائل والطرق والأساليب المشروعة وغير المشروعة،  فسحبوا البساط من تحت دعاة الدولة المدنية، ثم تمكنوا، في النهاية، من طردهم وقتل البعض منهم وتشويه سمعة البعض الآخر، حتى هيمنوا بالكامل على كل شيء، برعاية بريمر وأعوانه ومستشاريه المدنيين والعسكريين، (بأوامر وتعليمات مسبقة ومقررة ومصدقة من واشنطن ومن بيتها الأبيض بالذات، ومن مخابراتها).
ومن الواجب الحديث هنا عن أحد وأهم مؤتمرات تلك المعارضة التي عقت وأديرت برعاية أمريكية كاملة، وهو مؤتمر نيويورك عام 1999. فلن ينسى أحد منا تلك الأحداث المضحكة المبكية التي شهدتها قاعات الفندق في نيويورك من مشاهد مثيرة من التكالب على المكتسبات والنفوذ.
فقد شهد المؤتمر حملات شتم من الوزن الثقيل تتركز فيما تحت الحزام، واتهامات علنية بالخيانة والعمالة والسمسرة. كما سمعنا تهديدات باستخدام الأحذية سلاحا مشروعا في قاعة المؤتمر من قبل قادة المعارضة (حكامنا اليوم). ولولا تهديد إدارة فندق نيويورك باستدعاء الشرطة، ولولا الأوامر الغاضبة التي أطلقها (ريتشارد دوني) سفير وزارة الخارجية الأمريكية لدى المعارضة، والذي أنفق مليوني دولار لتمويل هذا المؤتمر، لسالت دماء المناضلين (الديمقراطيين جدا) على سجاد الفندق الأمريكي الوثير.
ويتذكر من حضر مؤتمر نيويورك تلك المعارك الطاحة التي اندلعت في أول ساعات المؤتمر، بين  اثنين من أبرز المتنفذين في ذلك المؤتمر، وهما أياد علاوي وأحمد الجلبي، (وهما بالمناسبة أبناء خالة أيضا). ثم يتذكر أيضا كيف توحد (المتعاركان الكبيران) فجأة، واتفقا على مواجهة خصمهما المشترك ليث كبة، على طريقة أنا وابن عمي على الغريب، حين شعرا بأن  الأمريكان يدعمون ليث كبة، ويدفعون به إلى الواجهة، ليكون البديل المحتمل لأحمد الجلبي وأياد علاوي، بعد خسارتهما معارك (التحرير) التي خاضاها ضد النظام من كردستان، بالسلاح والمال الأمريكي الخالص.
فقد رفض الجلبي وعلاوي، معا،  نتائج التصويت، وفرضا، بقوة الصوت العالي وخشونة التهديدات، مسرحية إعادة الانتخاب، ليفوز الجلبي وعلاوي ومحمد محمد علي (أبو حيدر)، ويُهزم ليث كبة، ويقبل (ريتشارد دوني) بالأمر الواقع، ولو إلى حين. ومن الجانب الكردي فاز لطيف رشيد من جماعة الطلباني، وهوشيار زيباري من جماعة البرزاني.
وحين هدد حزب البرزاني بالانسحاب إذا أضيف حسن النقيب إلى تلك القيادة ممثلا للسنة، تم استبداله برياض الياور (لا ينتمي لعشيرة الياور المعروفة)، وبالسيد علي بن الحسين. وقد تمت (زحلقتهما) فيما بعد، وذهبا طي النسيان.
في ذلك المؤتمر تم ترسيخ المحاصصة الطائفية والعرقية التي صارت أمرا واقعا لا يمكن تلافيه ولا التخلص منه. فقد شكل المؤتمرون مجلس قيادة أعلى للمعارضة، تمهيدا لعقد مؤتمر صلاح الدين فيما بعد، حصد فيه أحمد الجلبي  15 مقعدا،  وأياد علاوي 21، والأكراد 15، وزعموا أن 14 مقعدا تبقى شاغرة لكي تملأ، بعد سقوط النظام، بممثلين من الداخل.
في ذلك المؤتمر بالذات تحقق العزل النهائي لباقي أطراف المعارضة العراقية، وتم اعتماد أبطال مؤتمر نيويورك حكاما للعراق الجدد، إذا ما تم إسقاط صدام حسين، على أمل أن يضاف حزب الدعوة، وأن يكف المجلس الأعلى عن التستر على انضمامه الكامل، بعد أن ظل زمنا يناور ويداور، ويزعم أنه يحضر هذه المؤتمرات بصفة مراقب.
ثم سقط النظام، وحصل ما حصل، وتسلم السلطة زعماء مؤتمرات المعارضة السابقة أنفسهم، ولكن بزيادة حزب الدعوة، ونقصان عدد كبير من المعارضين الهامشيين الذين تم استبدالهم بآخرين للضرورة.
وفي أول أيام عودتهم إلى أرض الوطن المحررة بالدبابات الأمريكية الماحقة كشروا عن أنيابهم، دون تردد ولا ريبة ولا حياء، وكشفوا عوراتهم. فبعد أن كانوا، وهم يتسكعون في مقاهي لندن ودمشق وطهران والرياض، يبالغون في الحزن على طائفية صدام وفساد وزرائه وأقاربه ومساعديه، أسقطوا عن وجوههم كل الأقنعة، وبانوا على حقيقتهم، ذئابا كاسرة لا ترحم. فواحد منهم احتل الحارثية كلها، وآخر احتل الجادرية، وثالث احتل المنصور، ورابع النجف وكربلاء، وخامس احتل الرمادي وبغداد وديالى وتكريت. تقاسموا الوزارات والنفط والتجارة والعمولات والصفقات. لكن أكثرهم لؤما وخبثا ونذالة هم أؤلئك الذين حلبوا المحاصصة إلى آخر ما فيها من مكاسب، وحين جفت ضروعها، أو ُمنعوا من حلب المزيد من ضروعها، انقلبوا عليها، وراحوا يشتمونها ويلعنون فرسانها، ويتباكون على الوطن والمواطنين من شرورها ومخاطرها. بل تحولوا، دون خوف ولا حياء، إلى دعاة سلام وإنسانية وديمقراطية وعلمانية وسلطة قانون.
ولا أنسى، شخصيا، ومعي كثيرون من زملائي الذين عملوا في الأيام الأولى مع بريمر ومعاونيه، أن معممين بلحى ً بيضٍ كثيفة، و(أفندية) يقودون أحزابا وتيارت ومليشيات مهمة وخطيرة، و(شيوخا) يترأسون عشائر كبيرة وقبائل شهيرة، لا يقبلون بلقاء بول بريمر دون قبلات على الوجنتين والجبهة والعينين. ثم، وفور مغادرته العراق، فتحوا عليه أبواب جهنم، وأمطروه بأقذع أنواع الشتائم والسباب، وبتهم السرقة والاختلاس والفساد الإخلاقي والغرور.
وأذكر، ذات يوم، أن أحد اعضاء مجلس الحكم، وكنت معه في مكتبه، وفيه غرفة نوم وثيرة، أبلغني بأنه ذاهب لمقابلة (معالي المستر بول) بريمر. كان قلقا ومرتبكا ومترددا في اختيار ربطة العنق. فكان يسألني عندما يضع واحدة على رقبته، هل تتناسب مع البدلة أم لا، ثم لا ينتظر جوابي بل يعود لاستبدالها، ويعود ليسألني مرة أخرى، ثم لا ينتظر جوابي أيضا، ثم يعود لاستبدالها مرة أخرى.

وحين رحل بريمر قال ذلك العضو (المحترم) في مجلس حكم (المحترم) عن (معالي المستر بول) بريمر ما لم يقله مالكٌ في الخمر.
وبرغم كل ذلك، ومع كل ذلك، فإن تلك الوصايا المنسوبة لبول بريمر، والتي أشك في صحتها، هي توصيفٌ عادل ومحق ودقيق أطلقه الشعب العراقي على فرسان هذه الشلة، من زمان بعيد، حتى من قبل أن يجعل منهم بريمر وسلفه غارنر رؤساء ووزراء ونوابا وسفراء ومستشارين للأمن القومي ومدراء عامين وقادة أحزاب ومليشيات، وهم صعاليك حاذقون فقط في الاحتيال والاختلاس وتزوير الشهادات.


  

إذاعة وتلفزيون‏



أفلام من الذاكرة

الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

1075 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع